[email protected] على إيقاع مشهد سفن منهكة وشاطئ صخري وسبع جثث تمت جرجرتها نحو الرمال وتغطيتها برقع من القماش، يبدأ رشيد نيني صفحات «يوميات مهاجر سري». يُركب رشيد رقم بشرى في الهاتف. من المغرب، قالت له إن إسبانيا رائعة. من إسبانيا، أجابها «نعم رائعة. لذلك لم يتحمل العرب جمالها فخرجوا منها جماعة، وها هم يندمون الآن ويعودون إليها، فرادى وغرقى في الغالب». يكتب رشيد أن «حقول البرتقال تختلف بحسب أحجام الأشجار وبحسب الطول أو القصر. هناك أشجار عالية وكبيرة تتطلب منكَ تسلقها مثل قرد... وهناك أشجار رائعة تستطيع أن تنهب كل ثمارها دون حاجة إلى أن تغادر مكانك فوق الأرض. أحياناً يفقد الواحد منا أعصابه ويبدأ في التحدث إلى الأشجار بصوت عال. في شتمها تحديداً». يتزايد حجم السخرية وتحضر المقارنات.. «عندما أتسلق شجرة برتقال أتذكر كل المناسبات التي كنت أصعد فيها منصة وأمسك بالمايكروفون لأقرأ الشعر». يرى رشيد أن الحياة تُصبح أحياناً على قدر من السخرية لا حدَّ له .. «أصدقائي الشعراء يتحدثون في قصائدهم عن الجسد. يقولون إنها موضة جديدة. شعراءٌ بأجساد نحيلة ومريضة في الغالب. الجسد هو أن ترتب خمسمائة صندوق من البرتقال داخل شاحنة ترايلي. كل صف يقف بسبعة صناديق عمودياً. دون أن تجد الوقت لتجفف جبينك. هكذا تختبر جسدك جيداً، لترى هل يستحق أحدكما الآخر». في حقول البرتقال بإسبانيا، سيصير لرشيد أصدقاءٌ جدد ومعارف، ممن «يشتغلون طوال النهار كالبغال ويعودون مع الغروب قتلى من التعب»... ومع الأيام، ستصبح له راحتا مزارع، بندوب وأخاديد صغيرة، في وقت تعود فيه على ضربات المقص الخاطئة.. «بمجرد ما تعتاد اليد على القسوة تصبح صلبة. مثلها مثل القلب»، يكتب رشيد. يحسُّ رشيد أن قلبه موصد بمزلاج ثقيل. يتذكر بشرى، من جديد. النساء، برأي رشيد، لديهن دائماً الأعذار اللازمة لترك الرجل.. «قد يكون الواحد منا ثرثاراً، أو ثقيل الدم، أو بلا مواصفات».. لكن، بشرى لم يكن لديها عذر من هذا الصنف. هي تركته لتتزوج من رجل آخر .. تركته دون إعطاء توضيحات. بعد العمل بحقول البرتقال، سيعثر صاحبنا على عمل جديد في مطعم تَعَلم فيه كيف يصنع عجينة البيتزا.. وكيف يوصلها إلى جوف الفرن. البيتزا مثلها مثل الشعر، يكتب رشيد .. «مثلما في الشعر هناك بحور كثيرة فكذلك البيتزا. أنواعها كثير. سوى أنك إذا تعلمت الشعر ستصبح شاعراً. وهذا للأسف لا يفيد شيئاً في هذه الأزمنة الرديئة. أما البيتزا فتستطيع الاعتماد عليها لأنها تباع بشكل رائع للغاية. ليست كدواوين الشعر التي تأكلها الشمس في الأكشاك». يتذكر رشيد تلك الرسالة الطويلة التي كتبها إلى مدير الجريدة، التي كان متعاوناً معها.. «رسالة مكتوبة بعبارات مختارة بعناية. لأنني أردتُ لألمي أن يكون أوضح». سيضع رشيد رسالته فوق مكتب مدير الجريدة، وسينتظر أسبوعاً وشهراً، ثم ينسى الأمر. بعد ذلك ستأتي مرحلة اليأس .. «أصبحتُ أرى كل شيء على حقيقته. الأشياء من قمة اليأس تبدو واضحة المعالم. ليس الأمر كذلك عندما تكون متفائلاً بشكل غبي». حين غادر رشيد إلى إسبانيا، حمل معه ذكريات مُرّة. وحدهم اللصوص وقفوا إلى جانبه. في هذا الزمن الرديء، يقول رشيد .. «تستطيع أن تضع ثقتك في لص ولا تستطيع أن تضعها في مثقف». لم يكن رشيد يرغب بالهجرة. كان يرغب بمتابعة دراسته بمدينة ليدز .. «في الحقيقة .. ما كنت أبحث عنه هو مغادرة الوطن بأي شكل. لقد قضيت عمري كله فوق طاولات الدرس، وانتهيت إلى أن أقسى عقاب يمكن أن يطال الإنسان هو هذا بالضبط. في المغرب إذا حصلت على الدكتوراه بمستطاعك أن تمسح بها مؤخرتك في دورة المياه». ينتمي كاتب «يوميات مهاجر سري» إلى جيل شعري عشق مبكراً شن الغارات ... الشعرية، طبعاً. جيلٌ يسكن حذاءه ويتبع ما يُمليه عليه شغبه الجميل. نقرأ في إحدى قصائده أن الوطن «سروال واسع»، كلٌّ يفصله على مقاسه الخاص. مع توالي النصوص والأعمال، سيعرف رشيد نيني أن مهمته هي ذاتها مهمة المسدس. المسدس الذي لا يخامره شك في كون شكله أجمل بقليل من الموت. لذلك، سيطلق رصاص رحمة على كثيرين، وعلى عجزة يحتضرون ببطء، ف«لابد أن يرتاحوا قليلا هؤلاء الأنانيون».. وْ «شوف تشوف»!