ربما يكون مقتل الشاب المغربي اليافع صالح لزرق (17 عاما) أكثر قضية تثير صدمة في مدينة كولونيا المعروفة بتعايش الثقافات وبتعدد الجنسيات التي تعيش فيها منذ زمن طويل، وهي المدينة التي استقبلت هجرة مغربية مبكرة. ويبدو أن الجدل الذي أثير حول ظروف الجريمة التي راح ضحيتها صالح، قد تجاوز إطار قضية جنائية لتطرح أسئلة حول حقيقة أوضاع الشباب المهاجرين ومدى اندماجهم، وتسلط الأضواء الآن على مجريات قضية مقتل صالح لدى جهازي الشرطة والقضاء، لأنها ستكشف بدورها إلى أي حد يجري تأمين حقوق شاب مهاجر يفقد أغلى ما لديه: حياته! حملة تضامن مع أسرة صالح الأجواء الماطرة والباردة في مدينة كولونيا لم تكن عائقا أمام مئات الشبان الذين ظلوا يتدفقون يوميا على شوارع حي كالك الذي ينتمي إليه الشاب المغربي-الألماني القتيل صالح لزرق، والذي فقد حياته في الشارع الرئيسي للحي ذات أمسية بسبب شجار نشب بينه وبين شاب ألماني من أصل روسي، لم يتورع عن غرس السكين الذي اخترق الضلوع واستقر في قلب صالح ليفارق الحياة على الفور، وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا. هنا في الأماكن التي كان يرتادها صالح، مدرسته وملعب كرة القدم وناد رياضي ومحلات البيتزا والمقاهي، وصولا إلى منزل أسرته في الحي، كلها مواقع يتوقف عندها المتظاهرون من أصدقائه وصديقاته ليرموا عليها الورود ويضيئوا الشموع، بل يتسابقون، والدموع تنهمر من أعينهم، إلى تقبيل صورته. أقران صالح في القسم، يتفننون في التعبير عن تأثرهم لحادث مقتل صالح، الفتيات يحتضنّ صوره والشبان يحملون قبعات أو أقمصة عليها صورته وعبارات مكتوبة بخط أحمر وأسود: „صالح لن ننساك“، وعلى صفحات الأنترنيت لا تتوقف الاتصالات والمناقشات حول فاجعة مقتل صالح، الذي ارتأى أصدقاؤه أن يضعوا عليها صورته وعلى ذراعيه أجنحة بيضاء ملائكية، ترمز إلى أن روحه طارت إلى السماء. هم من جنسيات مختلفة: مغاربة، جزائريون، تونسيون، ولكن أيضا أتراك وأكراد، إضافة إلى شبان ألمان من مدرسته ومدارس أخرى، انضموا إلى قافلة التضامن مع أسرة لزرق. وقد خصصت مدرسته يوم عطلة للتعبير عن الحزن على مقتله. تنظم قافلة التضامن مع صالح أمسيات متتابعة في شوارع كالك، صامتة وأحيانا تنفلت الحناجر من عقالها فتنطلق صرخات مخضبة بالدموع والحسرة على الشاب الذي لا يصدق أحد أنه غادر الحياة في رمشة عين. غالبا ما تتوقف القافلة في ساحة كنيسة جوزيف بالحي، وتسير في نهايات المساء إلى منزل عائلة لزرق. أحيانا يلقي المتظاهرون كلمات تأبين أو شعر وكثير منهم يكتفون بالدموع، وأحيانا أخرى يجمعون مساعدات للأسرة تعبيرا عن التضامن، ويخرج أفراد الأسرة ليعبروا عن امتنانهم، والحزن يكسو وجوههم. وكان شقيق صالح يغالب الدمع وهو يقول لرفاق شقيقه، الذين جاؤوا معزين: „إن أسرتي لا تنسى لكم هذه الوقفة، ولولا إدراكها لمحبتكم لصالح لرفضت تسلم مساعدات“، وأضاف: „إننا لا نرغب بقبول تبرعات“. جرت مراسيم ترحيل صالح إلى قرية زايو، ورافقه نفر قليل من أسرته المقيمة هنا منذ عشرات السنوات، ولكن بقيت الأسرة وأصدقاء صالح يواجهون الآن أسئلة ما بعد رحيله. مسار التحقيقات سرعان ما تحولت مسيرات التضامن مع أسرة صالح من التعبير عن الحزن إلى الدعوات بكشف الحقيقة ومعاقبة الجاني، فالشاب الروسي الألماني الذي قتل صالح، لا يبدو، إلى حد الآن أنه مدان، لأنه يدفع بفكرة الدفاع الشرعي عن النفس، وقالت كاترين ماوس، رئيسة فرقة الشرطة التي عاينت مكان الحادث مباشرة إثر وقوعه، إن صالح هاجم الشاب الآخر بعنف شديد وهنالك آثار بادية على جسم هذا الأخير، مما جعله يوجه إليه طعنة بالسكين. ومن جانبه، يقول الشاب الألماني إنه لم يكن ينوي قتل صالح، فقط كان يريد إيقاف هجومه عليه. وتجد هذه الرواية تعاطفا من طرف الجهات الأمنية والمحققين في الحادث، لكن ذلك يثير غضب الجمهور المتعاطف مع صالح وأسرته. لكن عبد الله، الشقيق الأكبر لصالح، يرفض هذه الرواية، ويقول إن صالح كان شابا مسالما وهو رياضي، ويمكن معرفة انطباعات زملائه في المدرسة أو في فريق كرة القدم بحي „دويتس“ الكولوني للتأكد من ذلك. ومن جهته، قال كلاوس تومالا، مدير المدرسة الأساسية، إن صالح كان شابا مسالما وليس في سلوكه أي ملامح عدوانية. ومن جهتها، قالت مصالح القنصلية المغربية ل“المساء“ إن القنصل العام المغربي أحمد مزغيد، لم يكف عن إجراء الاتصالات وعقد الاجتماعات مع مسؤولي مدينة كولونيا بمختلف مستوياتهم، والتقى فريتس شراما، رئيس مجلس مدينة كولونيا، وأنه يسعى إلى تأمين حقوق أسرة صالح، كما طالب السلطات المعنية الألمانية بموافاته في أقرب وقت بنتائج التحقيقات التي تجريها. لكن أفراد أسرة صالح وأصدقاءه متخوفون من وجود تقصير في التحقيق لجهة رفع الإدانة عن القاتل وتحميلها للضحية، وهو ما يثير غضبا ويجعل الموضوع قد يتجاوز نطاقه كقضية جنائية. أبعاد سياسية حاولت الجهات الأمنية والسياسية النافذة في بلدية كولونيا، التقليل من قضية مقتل الشاب صالح، بالتركيز على أن عملية القتل لم تكن قصدية، والشاب الذي قتله كان في حالة دفاع شرعي عن النفس، عندما هاجمه صالح خلال شجار بينهما. لكن نشطاء من حزب اليسار والخضر في مدينة كولونيا يعتقدون أن قضية صالح ينبغي أن تكون عبرة، وينبغي أن تتوفر لأسرته كافة الضمانات والحقوق، وهم يحملون الأوساط اليمينية النافذة في أجهزة الشرطة والقضاء، مسؤولية أي تساهل إزاء قضية مقتل صالح، وينتقد هؤلاء صراحة عمدة المدينة الذي ينتمي إلى حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ، كونه مسؤولا عن تدهور أوضاع المهاجرين الاجتماعية وعدم رعايتهم قانونيا. ويقول نشطاء من حزب اليسار إن مقتل صالح نموذج يدحض ما تطرحه بعض الأوساط اليمينية، مثل رولاند كوخ رئيس وزراء ولاية هيسن المنتهية ولايته، والذي شن حملة على الشباب المهاجرين وحملهم مسؤولية ارتفاع الجريمة والعنف. وبدورها، اهتمت أوساط الهيئات الإسلامية والمساجد في المدينة وخصوصا في كالك، بقضية مقتل صالح، لكن بعض وسائل الإعلام المحلية أشارت بقدر غير قليل من المكر إلى أن الشعارات التي رفعها الشباب المتظاهرون المحتجون على ظروف وفاة صالح، كانت تتخللها شعارات متطرفة، وكانت تلك إشارة إلى شعار „الله أكبر“ الذي ردده عدد من الشبان في بعض اللحظات. وتجري في هذا السياق الإشارة أيضا إلى أن مسجدا في حي كالك كان يرتاده عناصر متشددون أدانهم القضاء الألماني في قضايا الإرهاب، وتلمح بعض الأوساط السياسية إلى احتمال توظيف قضية الشاب صالح من قبل جماعات متشددة، وتحويلها إلى قضية رأي عام بالنسبة إلى الشبان المهاجرين المتذمرين من أوضاعهم الاجتماعية، وتأطيرهم في تحركات احتجاجية على نطاق أوسع، على غرار ما حدث في ضواحي المدن الفرنسية، وكانت مدينة كولونيا من المدن الألمانية القليلة التي وقعت فيها أحداث حرق بعض السيارات إثر اندلاع أحداث ضواحي باريس عام 2006. ولا تخلو هذه التأويلات من خلط شديد، فشعار الله أكبر، الذي جرى ترديده، كما قال بعض الشبان الذين شاركوا في التظاهرة، لم تكن سوى عبارة دينية يرفعها المسلمون في حالات الوفاة وأثناء تشييع الجنائز، كما أن تأطير الشباب المهاجرين في أحياء المهاجرين مثل „كالك“ يختلف عنه في الأحياء المهمشة في المدن الفرنسية. حي تحت المجهر حظيت قضية مقتل صالح بتغطية وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية البصرية المحلية في كولونيا وولاية رينانيا فستفاليا، وأثارت معها الاهتمام بحي كالك الذي يعتبر من أكثر الأحياء في مدينة كولونيا كثافة سكانية وبه أعلى معدل مهاجرين، حيث تفوق نسبتهم 20 في المائة من السكان، وتتفشى فيه مظاهر الانحرافات الاجتماعية والجريمة، وأيضا تنشط فيه جماعات أصولية متشددة يسمع خطابها من قبل الشبان المهمشين والمتذمرين، كما توظف تلك الجماعات الخطاب الديني في استيعاب الشبان الذين يعانون ضغوطا اجتماعية خاصة، كما يستخدمون في تعبئتهم الإيديولوجية قضايا عربية وإسلامية مثل مأساة الفلسطينيين ومآسي حرب العراق وأفغانستان. وتعتبر مدينة كولونيا من أعرق المدن الألمانية وأكثرها احتضانا للمهاجرين والأجانب، وهي معروفة بتسامحها وتعايش الثقافات، ومن أصل مليون نسمة التي تعيش بالمدينة هنالك 10 في المائة مسلمون، وأغلبهم من الأتراك، كما تضم آلاف المغاربة. لكن المدينة شهدت في الآونة الأخيرة بعض الأحداث التي تؤشر إلى نوع من التوتر بين الثقافات، ولاسيما عندما ارتفعت حدة الخلاف داخل أوساط الرأي العام المحلي حول قضية بناء أول مسجد بألمانيا تزيد مئذنته علوا على كاتدرائية المدينة، التي تعتبر من أعرق كاتدرائيات ألمانيا، ولايزال هذا الموضوع محل جدل لم يحسم بعد.