يشكل موضوع اللاجئين الفلسطينيين، وما اصطلح عليه في أدبيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بحق العودة إلى أراضي 1948، واحدا من أهم الموضوعات المطروحة للتفاوض أو غير القابلة للتفاوض خلال مسلسل المفاوضات، الذي ابتدأ مع التوقيع على اتفاقيات أوسلو وما أعقبها من حلقات الشد والجذب بين الطرفين، بل بين عديد من الدول العربية، المعنية بقضية الشتات الفلسطيني ومحاولات التوطين بها، والكيان الإسرائيلي. ولم يستطع أي شريط سينمائي فلسطيني التعرض للموضوع بسلاسة وعمق كبيرين أكثر من شريط «انتظار» لرشيد مشهراوي الذي عرضته القناة الثانية المغربية يوم الأحد 20 يناير الماضي ونقدم في هذه الورقة قراءة له. عرف المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، المزداد بغزة ذات يوم من سنة 1962، بتفوقه في مجال الفيلم التسجيلي الذي أبدع فيه لسنوات ابتداء ب»دار ودور» و»أيام طويلة بغزة» سنة 1991 مرورا ب»حظر التجول» سنة 1994 ف»حيفا» عام 1996 ثم «رباب» سنة 1997 وغيرها من الأفلام التسجيلية التي أبان خلالها عن فهم عميق للواقع الذي حاول تصويره وعن تمكن كبير في أدواته التعبيرية والفنية. وفي سنة 2002، انتقل رشيد مشهراوي إلى الجنس التعبيري الروائي سينمائيا دون التخلي عن الجانب التوثيقي في توجهه الإبداعي. هكذا شكل فيلم «تذكرة إلى القدس» باكورة أعماله الروائية الذي استقبل بحفاوة كبرى في عدد كبير من المهرجانات العالمية، باعتباره مثالا حيا لأفلام سينما المؤلف المعتمدة على كسر القوالب الجاهزة والبحث الفني المتجدد. توجه إبداعي تبلور إيجابا في فيلمه الثاني «انتظار» المنتج سنة 2005 بدعم فرنسي، وفيه حاول مشهراوي الحديث عن الوضع الفلسطيني العام في علاقته مع قضية اللاجئين الفلسطينيين المشتتين داخل مخيمات دول الجوار، في تداخل واضع بين الذاتي والموضوعي وبين الخاص والعام. يتخذ مشهراوي من حكايات ثلاث شخصيات رئيسية في شريطه ذريعة للبحث في عمق القضية الفلسطينية بتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية. وليس من سبيل أفضل من الحديث عن اللجوء بما يعنيه من حلم في العودة المؤدي طبيعيا إلى زوال الدولة العبرية ونهاية مقترح التوطين الذي يسعى البعض إلى تكريسه واقعيا بما يعنيه من إقبار تام لحلم الدولة الفلسطينية المنشودة. يبدأ الشريط باعتقال حراس الحدود الإسرائيليين لأحمد، المخرج الفلسطيني، بمعبر إيريز المعروف لمجرد احتفاظه بحجر في حقيبته في مشهد ينضج سخرية ومرارة، وكأن امتلاك الحجر أصبح تهمة يعاقب عليها القانون؟ يصطدم أحمد، الحالم بآفاق فنية رحبة تمكنه من «تفجير» مكنوناته الإبداعية في إطار فعل فني فلسطيني «عادي» بعيد عن إطار البروباغندا والدعاية، بالحكم الجاهز المتمثل في ضرورة إقرار سينما فلسطينية «مناضلة» تدعم القضية ورموزها. وفي الشريط انتقاد واضح لذلك التوجه الذي أفرز انغلاقا للسينما الفلسطينية الناشئة على نفسها بتكرار مواضيع متشابهة ومعادة دون أي تجديد فني حقيقي، يجعل الهم الإبداعي أساسا له دون غيره من الاعتبارات الأخرى. فمخرجنا هنا يود إنجاز شريط هزلي كوميدي في وقت يطالبه فيه الآخرون بوثائقي يصور معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال، مما يطرح إشكالية واقعية تتمثل في تمويل السينما بفلسطين وعلاقتها بالحرية الإبداعية والاختيارات الفنية المتوفرة لدى المخرجين والكتاب. في «انتظار»، لقاء ثلاثة نماذج من المجتمع الفلسطيني المعاصر، بدءا بأحمد (محمود المساد) المخرج الراغب في مغادرة الأراضي المحررة، مرورا بالمذيعة الشابة بيسان نصار (عرين عمري) العائدة إلى غزة بعد اتفاقيات أوسلو، وانتهاء بالمصور لوميير (يوسف بارود) الذي لم تطأ قدماه خارج فلسطين أبدا. وطوال رحلتهم يلتقون بوجوه فلسطينية تلخص أحلام ومعاناة شعب كامل كتب عليه الشتات والاغتراب في انتظار الآتي المجهول. يكلف المخرج أحمد، من طرف أبو جميل (عبد الرحمان أبو القاسم)، بالبحث عن ممثلين مفترضين للفرقة القومية للمسرح الفلسطيني في انتظار استكمال تشييد البناية التي ستستضيف إنتاجات الفرقة. بناية فرعونية من ألفي مقعد ومرآب يسع أكثر من خمسمائة سيارة تطرح السؤال عريضا حول الأولويات التي يجب اعتمادها لبناء الدولة المنتظرة، في وقت تعاني فيها غالبية الشعب البطالة وضيق ذات اليد وشظف العيش وانتظارات من نوع آخر لا يمكن لمسرح أن يستجيب لها. وتلك حقيقة ركز عليها كاتب السيناريو في حوار أصم جمع أحمد بأبو جميل المتحمس للمشروع. فبينما تساءل الأخير عن إمكانية قيام دولة دون مسرح، كان استفهام الأول مركزا حول مدى قابلية قيام مسرح في غياب الدولة. ولعل هاتين النظرتين المتباعدتين تلخصان الضياع والتخبط اللذين يعيشهما المجتمع و»الدولة» الناشئان قيصريا، في «انتظار» توضح الرؤية وانجلاء الغمامة عن الأعين وعن المنطقة كوحدة كلية. تجلس المذيعة الفلسطينية بيسان نصار أمام كاميرا التصوير التي ستستخدم لتسجيل اختبارات الممثلين وتبدأ الحديث: « عرض الرئيس الأمريكي أن... ودعمت المجموعة الأوربية ذلك باقتناع، وقررت الأممالمتحدة أن تتبع ذلك بحماسة. وافقت الجامعة العربية على الفور، أبدى رئيس الوزراء الفلسطيني تحفظه ووضع رئيس الوزراء الإسرائيلي شروطا، وطرح الرئيس الفلسطيني علامات استفهام...». وفي «انتظار» تحقق كل ذلك ينطلق الثلاثة في رحلة بحث موزعة بين مخيمات الضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، عن طاقات تمثيلية فلسطينية قادرة على حمل مشعل تأسيس أول فرقة وطنية مسرحية ينتظر منها تشريف الشخصية الفلسطينية والتعريف بقضيتها القومية فنيا، في تجاوز لكل الحدود والمكبلات السياسية للاحتلال وجنوده. هكذا يطلب المخرج من الأعداد الهائلة من المترشحين تصوير حالات انتظار دون أي تفسيرات إضافية قد تساعدهم على فهم مراميه مما يحول الكاستينغ إلى كاستينغ واقعي لمعاناة المخيمات وتوثيق ليوميات اللاجئين وأحلامهم المغيبة في العودة إلى الوطن/الحلم أو الوهم. لقد حاول سكان المخيمات استغلال تواجد كاميرا من الأراضي المحررة لإيصال أصواتهم وصورهم إلى أهاليهم هناك عبر تحايا وكلمات تهنئة وإخبارات بجديد العائلات، وغيرها في مشاهد مؤثرة تكشف مدى بساطة الانتظارات الشعبية التي تتحول في الوضع الفلسطيني إلى انتظارات مستحيلة وغير ممكنة الحدوث من جهة، وإلى درجات من السخط والاحتقان التي يعيشها اللاجئون من جهة أخرى. فكم كان مؤثرا ومعبرا الكلام الذي وجهته إحدى السيدات من سوريا إلى زوجها رجل الشرطة في أجهزة السلطة قائلة: «أتابع الأخبار كل يوم. وكلما سمعت بوجود وساطة عربية أطلب من الله الستر...». والمفارقة الكبرى كمنت في تحول البحث عن مشاهد للانتظار إلى انتظار فعلي لا علاقة له بالتمثيل. بل اتخذ المخرج قراره بالتصوير في قاعات انتظار احتجاجا على تحويل المجموعة الأوربية جزءا من ميزانية بناء المسرح إلى شراء معدات طبية وسيارات إسعاف بالنظر إلى الحاجيات الآنية للشعب الفلسطيني المحاصر. هكذا أصبح لزاما على المشرفين على ورش بناء المسرح انتظار إقرار ميزانية جديدة لاستئناف أعمال التشييد. تعود المذيعة بيسان نصار للجلوس أمام الكاميرا لتسترسل في الحديث: «جدد الرئيس الأمريكي ثقته في مشروع السلام. أبدى تفاؤله الرئيس الحالي لمجلس المجموعة الأوربية. أعرب البابا عن أمله في سلام دائم. جدد رئيس الحكومة الإسرائيلية التأكيد أن الحلول لم تفقد كلها. كما أعلن مسؤول فلسطيني رفيع المستوى أن الأمل لايزال مستمرا. صرح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن الحالة ليست مقطوعة الأمل. وأخيرا وباتفاق مشترك أجلت جميع القضايا العالقة إلى أمد غير محدد...». إنه تلخيص مدقق للحالة الفلسطينية حيث المفاوضات مستمرة بلا نهاية يلوح أفقها لا في أسلو وكامب ديفيد ولا في القاهرة وشرم الشيخ أو العقبة والقدس ولا في غيرها من المحطات المتكررة. وهو تلخيص أيضا للنتيجة النهائية لأبطال شريط «انتظار». فبيسان مثلا لاتزال في انتظار والدها الذي بحثت عنه في لبنان، وزوجة ذات الرجل في انتظار عودته من سوريا التي انتقل إليها منذ أشهر، والمصور لوميير سيضطر إلى انتظار عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم للقاء الشابة أنوار (شكران مرتجي) بعد ربطه علاقة عاطفية بها خلال رحلته مع زملائه الثلاثة. هؤلاء الثلاثة الذين تحولوا هم أيضا إلى لاجئين مؤقتين بعد اندلاع عمليات عسكرية كبرى بالأراضي الفلسطينية وهم متواجدون بأحد المخيمات. وبدل تحقيق حلم العودة إلى الوطن الذي كان المحفز الأساسي لعدد كبير من المترشحين انضاف انتظارهم لتأسيس الفرقة الوطنية للمسرح الفلسطيني إلى لائحة الانتظارات التي شغلت حيواتهم منذ الميلاد. والمسرح الفلسطيني كما الدولة تحول إلى حلم بعيد المنال حد الوهم. ففي حوار بين المخرج أحمد وأحد سكان المخيم حيث تابعوا أخبار الغارات الجوية على غزة نسمع الحديث التالي: أحمد: هل تحدثوا عن المسرح ؟ الشخص: 15 شهيدا. أحمد: عن المسرح، عن المسرح ؟ الشخص: عدد كبير من الجرحى... هكذا انتهى الشريط في انتظار إجابة، مجرد إجابة.