الإسيمسات والإيميلات لم يتركا مجالا، في حياتنا المعاصرة، لتحرير رسائل ورقية، وجعلا التقنية تقتحم فضاء حميما، كان إلى عهد قريب مكانا لقاء رمزي بآخَر تجمعُنا به ظروف ووشائج وعلاقات متعددة ومختلفة. ربما في الظاهر لم يتغير إلا الوسيط، الذي أصبح أكثر ميلا إلى الاختزال والركض وراء الآني والافتراضي الذي يسعى نحو التحقق ولو على نحو مشوه. ربما في الظاهر لم يتغير إلا هذا ، لكن ما يتحرك في العمق من مشاعر أقرب إلى الحداد، تنبئنا بأن ما تغير أكبر، وهو في حجم تلك القطعة من اليابسة التي كان يستريح عليها الإنسان من تعب الركض، فإذا به يستيقظ يوما ليجد أن الماء قد غمرها. طبعا يمكن أن نسبح في منطقة المياه هذه كما طاب لنا، يمكن أن نتزحلق ونلتذ ونتراشق، لكننا لن نجد شجرة واحدة نستريح على جذعها، ونستعيد بين أوراقها وأغصانها أنفاسنا اللاهثة . إن ذلك العميق فينا، الذي لا نكون نحن أنفسنا بدونه، هو الذي تستعيده رسائلنا الورقية، وتجعلنا دفعة واحدة أمام أنفسنا في كامل شفافيتها وعرائها وضعفها تجاه الكلمات المتدفقة من شلال الداخل. هذه الكلمات نفسها تنتصب لنا أشجارا ومياها وأراض نفيء إليها من هجير الحياة. الرسائل الورقية لقاء يدفع على التأمل، وهي فضلا عن الإخبار تخصص حيزا لذلك العميق الذي يبحث عن تقاسم النعمة. لذلك فبعضها يملك قدرة خاصة على طي الزمن، ومصاحبتنا في ظروف الحياة المختلفة، ترحل معنا في لحظات الرحيل، وتستقر معنا في لحظات الاستقرار. كما أنها تسعفنا على صيانة السر، فتختبئ تحت الوسائد، كما قد تستقر بين كتبنا أو أوراقنا الشخصية كأحد أثمن الكنوز، التي تسجل أن قلوبنا قد دقت، على نحو غير عاد، في مناسبات معينة من الحياة. مند فترة طويلة لم أتلق رسالة ورقية، كدتُ أنسى الأمر مكتفيا بحظي القليل منها، خاصة تلك التي وصلتني من أحباب وأصدقاء يوم كنت أعمل بزاكورة منذ سنوات خلت. حدادي الشخصي أحمله بداخلي وأحتمي بقصيدتي من صحراء تبسط سماءها فوقي وتتقلب رمالها أمامي. لم أتخلص بعد من جدوى الكلمات، هذا حظي أيضا وأنا متشبث به حتى آخر رمق. والحداد على موت الرسالة الورقية، بفصاحتها ومجازها الجريحين، هو استئناف لميتات أخرى، أصابت أجناسا أدبية كانت تحمي الإنسان في وقت مضى من حلكته الخاصة. كدتُ أنسى أمر الرسائل، والأمر شبيه بمن يفقد شخصا عزيزا فيكاد ينسى، دون أن يغادر داخله ذلك الشعور بالمرارة أو الجرح الذي يلسع ما يقتنص من لحظات الفرح. كدتُ أنسى، لولا أن الكاتب البرازيلي بولو كويلو ذكرني في عموده «مكتوب» بقصته الشخصية مع السجين «جاستين» ،المحكوم بالإعدام في سجن بتكساس، حيث ترجاه بعض القراء ، بعد أن يئسوا من نقض الحكم، أن يكتب لجاستين رسالة رقيقة، لا ليدافع عنه، ولكن فقط ليشعره بالجدوى فيما تبقى من لحظات حياته، التي سيوضع لها حد في يوم ميلاد الكاتب بالضبط. كتب كويلو الرسالة،(إلكترونية حقا)، فأطلع عليها جاستين، ورد عليها قبل أسبوع من إعدامه، وبعث بالرد (رسالة ورقية حقا) على عنوان الكاتب بأحد الفنادق التي يقيم بها عندما يزور مدينة ما (لا يريد أن يسميها). قرأ كويلو الرسالة في مناسبة لاحقة عندما زار فندق المدينة، وتحسر لأنه لا يستطيع الرد، لأن المقصلة التي تريد تحقيق العدالة، جعلت الرد مستحيلا. لذلك اكتفى كويلو بإعادة نشر مقاطع دالة من رسالة جاستين التي يطغى عليها التأمل في مدى عدالة مثل هذا القصاص، كما يشع بين كلماتها خيط مرهف من الأمل في الحياة. أنا بدوري كنتُ بعثت برسالة محبة وشكر إلى صديقي الشاعر حسن برادة، الذي تفضل بنسخ ديوان «أوراق العشب» لوالتمان وبعثَ به على عنواني بزاكورة في تلك السنوات. لكن المؤسف أن البريد حمل إلي بعد أيام رسالتي، وقد طبعت عليها عبارة مرعبة «متوفى». تلقفتُ الرسالة كمن يقبض على حديدة سكين، وغرقت في صمت الحداد. رحم الله صديقي.