لعل الذين تعرضت سياراتهم وواجهات محلاتهم التجارية للتخريب مساء الأحد الماضي في الرباطوالدارالبيضاء، تمنوا من كل قلوبهم لو أن كل ملاعب كرة القدم تغلق أبوابها في المغرب إلى الأبد. ومع ذلك فمتمنيات هؤلاء ستذهب أدراج الرياح، فالدولة عازمة على تشييد ملاعب جديدة في أربع مدن بغلاف مالي يصل إلى أربعة ملايير درهم ونصف. وأعتقد أن تكلفة بناء هذه الملاعب الضخمة لو خصصت للقضاء على السكن العشوائي لما بقي مغربي واحد يسكن الأكواخ أو الكهوف في هذه البلاد. لكن يبدو أن هناك من يعتقد أن المغاربة بحاجة إلى ملاعب كرة القدم أكثر ما هم محتاجون إلى سكن لائق. وحتى عندما تريد السلطات المعنية الشروع في القضاء على السكن العشوائي تنسى وتشرع في القضاء على السكان أنفسهم. وما حدث في دار بوعزة بالدارالبيضاء خير دليل على ذلك. فقد قضت السلطات المحلية على سكن عشوائي وقضت معه على حياة طفل بريء عمره 11 سنة. وقد أصبحنا ننام ونستيقظ على صور لحملات إفراغ وهدم مساكن المواطنين فجأة، كما لو كنا في قطاع غزة. وحجة هؤلاء المدمرين أن الملك غاضب لاستمرار الأحياء الصفيحية رغم الحملات الكثيرة التي خصصت لها ميزانيات ضخمة. وعندما يغضب الملك على المسؤولين لا بد أن يغضب هؤلاء المسؤولون بدورهم على المواطنين، وهؤلاء المواطنون عندما لا يجدون ضحية يفرغون فيه غضبهم يبردون «غدايدهم» في بعضهم البعض. هناك من صفق لقرار بناء أربعة ملاعب في أربع مدن مغربية، واعتبر المشروع مساهمة فعالة في تأطير الشباب وتشجيع الرياضة. شخصيا أعتقد أن المغرب ليس في حاجة إلى هذه الملاعب الآن. فالدارالبيضاء وأكادير وطنجة ومراكش محتاجة إلى ما هو أهم من ملاعب الكرة. وعندما نرى كيف يموت المواطنون مثل الجرذان أمام أبواب المستشفيات العمومية في هذه المدن بسبب غياب أسرة ينامون فوقها، نستغرب كيف تترك الدولة مشروع بناء المستشفيات العمومية جانبا وتفضل مشروع بناء الملاعب. في الدول التي نريد التشبه بها في عدد ملاعبها لا يوجد هناك مواطنون مرضى يموتون أمام أبواب مستشفياتها، أو مواطنون يسكنون الكهوف مثل الإنسان البدائي. في الدول التي نريد التنافس معها على عدد ملاعبها هناك بطولة وطنية كروية حقيقية، وهناك إنتاج لنجوم وسوق مفتوحة لشرائهم وبيعهم للنوادي بملايين الدولارات. أما نحن فكل ما نجنيه من هذه البطولة الوطنية العرجاء هو الخسائر الناتجة عن تكسير الجماهير الهائجة لواجهات المحلات التجارية وزجاج سيارات المواطنين نهاية كل مباراة. أعتقد أن المستفيد الأكبر من إنشاء كل هذه الملاعب هو شركات إنتاج الإسمنت. فهذه الشركات التي لا أحد يتحدث عنها تعتبر أكبر مستفيد من مشاريع السكن الاقتصادي والتي انخرط فيها المغرب منذ سنوات. ولعل شركات الإسمنت في المغرب هي الشركات الوحيدة التي لا تشكو من الإفلاس، بل تعرف نسب أرباحها نموا ملحوظا كل سنة. وهذا ما فتح شهية شركات الإسمنت الأجنبية للقدوم إلى المغرب للاستثمار فيه. فهامش الربح في قطاع الإسمنت في المغرب مغري جدا، فالطن الواحد من الإسمنت تبيعه هذه الشركات بقيمة 147.60 درهم للتجار، في الوقت الذي لا يكلف الطن الواحد من الإسمنت هذه الشركات سوى نصف هذا المبلغ. ولعل هواة مراقبة أسهم الشركات في البورصة سيلاحظون أن مبيعات الإسمنت في المغرب هذه السنة سجلت أعلى رقم لها منذ عشر سنوات. وعندما نراجع أسماء المساهمين في هذه الشركات، التي تملك غالبية أسهمها شركات أوربية، نفهم سر «الحرب» الدائرة حول قطاع الإسمنت. ففي شمال المغرب، أطلقت شركة «لافارج المغرب» الفرنسية مشروعا بقيمة 1.5 مليار درهم لتوسيع القدرات الإنتاجية لمصانعها في طنجة وتطوان. وفي المنطقة الشرقية الوسطى أعلنت شركة «إسمنت تمارة» التابعة لمجموعة «سيمبور» البرتغالية عزمها بناء منشأة جديدة بمكناس بقيمة 1.3 مليار درهم وقدرة إنتاجية تبلغ 750 ألف طن، وستشرع في أشغال بناء هذه المنشأة خلال منتصف العام الحالي. أما شركة «هولسيم» السويسرية فستستثمر مبلغ مليار درهم بمكناس أيضا في وحدة إنتاجية جديدة بقدرة 700 ألف طن. وينتظر أن تحل بالمغرب شركة إسبانية وبرتغالية ومصرية لاقتسام هذه الكعكة الإسمنتية التي تسيل اللعاب. ويبقى المستفيد الرئيسي من أرباح هذه المجموعات الأوربية هي دولهم التي يحولون إليها أرباحها السنوية. يحدد مسؤول في شركة «إسمنت تمارة» البرتغالية أحد أهم الأسباب التي جعلتهم يقتنعون بالاستثمار في المغرب، في كون كل مغربي يستهلك سنويا ما معدله 300 كيلوغرام من الإسمنت، فيما المعدل في البرتغال مثلا هو 1000 كيلوغرام من «السيما» لكل مواطن. الدولة تريد عبر هؤلاء المستثمرين أن تصل بالمواطن المغربي إلى نسبة استهلاك محترمة للإسمنت سنويا، حتى نصل إلى مصاف الدول الأوربية. لكنها لا تريد أن أن يصل المواطنون مثلا إلى الاستهلاك السنوي للأوربيين من الحليب والأسماك والفواكه والمواد الغذائية الأساسية. نحن الذين نصف سكاننا يعانون من هشاشة العظام بسبب افتقار الخبز إلى الحديد. الدولة أحيانا تبحث عن حلول لمشاكل اجتماعية جد معقدة بطريقة سطحية. تعتقد مثلا أن بناء الملاعب سيساهم في تأطير الشباب وتشجيع الرياضة وخلق فضاءات للترفيه على هوامش المدن. والحال أن الحل الأنسب لتحقيق هذه الأهداف هو تشجيع المركبات الرياضية الصغرى داخل الأحياء الشعبية. لكن يبدو أن الدولة ذاهبة نحو خلق فضاءات الفرجة الرياضية الكبرى التي تستوعب عشرات الآلاف من المتفرجين. إننا أمام توجه رسمي لتشجيع الفرجة المقترنة بالشغب في الملاعب، لما في ذلك من تنفيس شعبي عن أحقاد وعقد ومشاكل مئات الآلاف من أبناء الطبقات الشعبية التي تحج إلى الملاعب نهاية كل أسبوع لتفريغ شحنة الاحتجاج لديها، وأحيانا حتى نوازع الاستيلاب الكامنة داخلها. ولعل أوضح مثال على هذه النوازع هو حمل بعض مشجعي فريق الحسيمة الذي يلعب في الدرجة الثانية لرايات إسبانيا عندما جاؤوا ليشجعوا فريقهم ضد فريق تمارة الأسبوع الماضي. فالدولة إذن تبحث لكي تؤطر هذا الغضب الشعبي وتتحكم فيه. تماما كما كان يحدث في روما عندما كان القيصر ينظم مباريات في المصارعة الرومانية ومواجهات دامية بين المصارعين والحيوانات المفترسة ليصرف سكان روما عن مشاكل الإمبراطورية السياسية الحقيقية. الآن تغير الوضع ولم يعد مسموحا التفرج على المصارعين يقاتلون بعضهم البعض، وحل محل هذه الفرجة الدامية نوع آخر من الفرجة التي تنفس عن المواطنين المحتقنين بالكرة والهتاف والصفير داخل الملعب، وبالتخريب والتدمير خارجه. ويكفي أن نلاحظ عدد رجال الأمن وعناصر القوات المساعدة التي تجندها المصالح الأمنية للحفاظ على ممتلكات المواطنين عند كل مباراة كروية في الرباط أو الدارالبيضاء، لكي نفهم أن الدولة تسمح بالتنفيس الأسبوعي عن الاحتقان الشعبي دون أن تفقد السيطرة على الشارع. مع أن تجنيد كل تلك الأعداد من رجال الأمن لكبح الشغب، يعرض مناطق أخرى كثيرة في هذه المدن إلى خصاص أمني كبير، ويتركها تحت رحمة العصابات المدججة بالسيوف. تماما مثلما يحدث عندما تجند ولايات الأمن دوريات الشرطة السرية والعلنية في كل زيارة ملكية، بحيث ينشغل الجميع بتحركات الملك، ويتركون أمن المواطنين بين يدي اللصوص والمجرمين. هناك تفاصيل صغيرة غالبا ما لا ينتبه إليها المسؤولون الذين يفكرون في تخصيص الملايير لبناء الملاعب عوض تخصيص هذه الميزانيات لإصلاح أوضاع رجال الأمن المادية . من هذه التفاصيل سرقة بذلة شرطي من الدارالبيضاء بعد اقتحام منزله الأسبوع الماضي، في غيابه، عندما كان ضمن الوفد الأمني المرافق للملك إلى مراكش. ولو عثر اللص على سلاح الشرطي لكان أخذه. فيبدو أن هذا كان هدفه الأساسي من السرقة. هل من الصعب سرقة سلاح شرطي في المغرب. أعتقد أن ذلك سهل، ومن يرى كل أولئك البوليس المنتشرين في الطريق يشيرون بأصابعهم إلى أصحاب السيارات لتقريبهم من مساكنهم، لا يستغرب عندما يسمع ذات يوم أن هناك عصابة سرقت شرطيا بسلاحه. ولايات الأمن تتشدد مع البوليس في المحافظة على سلاحهم من السرقة. لكنها لا تفهم أن أغلب هؤلاء البوليس يسكنون مع الجيران في غرف لا توفر الحماية لا لهم ولا لسلاحهم. ولعل ما وقع في حي سيدي مومن بالدارالبيضاء بداية السنة جدير بجعل ولاية الأمن تتمعن قليلا في الطريقة المثلى التي تفتقت عنها عبقرية أحد رجالها للحفاظ على ذخيرته من أيادي اللصوص والفضوليين. فقد وجد أن أنسب مكان لإخفاء خراطيشه هو الفرن، ولم يكن يتوقع أن زوجته ستسخن الخبز فيه ذات صباح. وبمجرد ما أشعلت زوجته الفرن انفجرت إحدى الرصاصات فأصيبت بالهلع. وحضرت فرقة من الأمن لمعاينة الحادث الذي ظنوا في البدء أنه تفجير مدبر. عندما نتأمل كل تلك الأرقام المخجلة في التعليم والصحة والتغذية التي تحدث عنها تقرير التنمية البشرية الذي أصدرته الأممالمتحدة حول المغرب، ونرى كل تلك الميزانيات المخصصة لبناء الملاعب، التي يكلف عشبها وحده اعتمادات مالية خيالية، نصاب حقيقة بعسر حاد في الفهم. هل نحن حقا محتاجون في هذه الظروف الاقتصادية الخانقة التي يجتازها المغرب إلى بناء المزيد من الملاعب. قطعا لا. نحن محتاجون إلى بناء المزيد من الجامعات والمستشفيات ومعاهد التكوين والبحث العلمي. وأيضا إلى بناء سجون حقيقية لإعادة تربية وتكوين السجناء، عوض هذه السجون الرهيبة التي يتدرب فيها السجناء على شتى أنواع الجرائم بانتظار خروجهم لتطبيقها. اللعب يمكن أن ينتظر، المطلوب حاليا هو العمل. اللهم إذا كان هذا اللعب، وعائداته، يدخل في خانة «اللعب مع الكبار».