الموضوع الذي تطرق له الزميل علي أنوزلا في عدد الجمعة الفارط بخصوص مكاتب الافتحاص يستحق أكثر من وقفة. فمكاتب الافتحاص، التي تعتمد عليها مؤسسات عمومية ووزارات وتمول من أموال دافعي الضرائب، غالبا ما تبقى من أسرار الدولة لا يطلع عليها أحد، وليت نتائجها تؤخذ بعين الاعتبار وتوصياتها تفعل حتى دون إخبارنا. فلا مبدأ الشفافية يتم احترامه بإشعار الرأي العام بما يقع في هذه المؤسسات ولا توصيات هذه التقارير تفعل وتنفذ.. أي أن هناك، في نهاية المطاف، ملايير تضخ في مالية شركات عالمية دون أن يكون للخدمة التي قدمتها أي مفعول.. أو يكاد يكون ذلك. فخلال الخمس سنوات الأخيرة، سمعنا عن عدة افتحاصات بهذه الوزارة أو تلك أو في هذه المؤسسة العمومية أو ذاك المكتب. وحده المكتب الشريف للفوسفاط، وإن كان لم يشعر أحدا بفحوى التقرير، برر المليار سنتيم الذي كلفه إياه مكتب الدراسات الذي كلف بأمر من المدير العام بوضع تصور جديد لسياسة تسويقية ناجعة.. النتيجة كانت أنه، مقابل المليار سنتيم الذي صرفه المكتب، تم جني مكاسب بملايير عديدة جراء فارق السعر عند البيع الذي صار المكتب يطبقه. مع الأسف، هذه تجربة فريدة.. أما السواد الأعظم فهو نماذج لتقارير لا تفعّل وكأن الذين أطلقوها يفعلون ذلك فقط للي أذرع البعض، أي في نهاية المطاف مسألة حسابات شخصية ضيقة تصرف عنها ميزانية الدولة.. أو بالأحرى جيوب المواطنين. وليست افتحاصات المكاتب الدولية وحدها التي تلقى هذا المصير، فحتى المجلس الأعلى للحسابات ومكاتبه الجهوية تسير على نفس المنوال. فرغم أن المجلس أصبح يعتمد على مدققي حسابات على قدر عال من الكفاءة ويعتمدون على مناهج هي آخر ما يتم التعامل به دوليا في مجال الافتحاص، فإن المجلس، وهو سلطة عليا لمراقبة طرق صرف المال العام، مازال يجد في طريقه عدة عراقيل، وعلى رأسها نفوذ أشخاص ومؤسسات تتحدى هذه الهيئة المعينة بظهير! وحتى لا نذهب بعيدا.. مازال الرأي العام لا يعرف حتى الآن رأي وزارة الداخلية في تقرير المجلس بخصوص تسيير مجلس مدينة الرباط، رغم أن مجموعة من الصحف كتبت عن الخروقات التي تطرق لها تقرير المجلس الجهوي للحسابات. للتذكير، فغداة سقوط إدريس البصري، تحركت آلة وزارة الداخلية لتقيل رؤوس مجلس مدينة الدارالبيضاء بدعوى الفساد، وزج برئيس المجلس بعد ذلك في السجن مع أنه لم يكن هناك أي تقرير لمكتب افتحاص. يعني ذلك شيئا واحدا. عندما تريد الدولة أن تفعل شيئا فهي تقدم على ذلك ولا تحتاج لا إلى تقارير مكاتب افتحاص دولية أو أجنبية، وإذا أرادت أن تغمض عينيها فهي تفعل ذلك حتى ولو أحدثت تقارير مكاتب الافتحاص ضجة إعلامية وأثارت الرأي العام. ولا يسع المرء إلا أن يضحك ملء فمه وهو يرى الهالة الإعلامية التي دفعت إليها بعض الجهات الرسمية بخصوص إلقاء القبض على رئيس المجلس البلدي للقنيطرة متلبسا برشوة قدرها مليون سنتيم، لكن لا أحد سمع عن نفس الأجهزة متابعتها أو حتى مساءلتها لكبار المفسدين في البلاد، أولئك الذين ينهبون خيراته ليل نهار، أولئك الذين يستنزفون رماله في جنح الظلام ويكدسون الملايير.. فهل سيأتي وزير الداخلية ليقول للمغاربة إنه لا يوجد أثر لسارقي الرمال في الوقت الذي كانت فيه بعض الصحف قد تطرقت، وبالصور، لهذه الظاهرة وعاينت نموذجا بإقليم الجديدة.. لسراق خمسة نجوم يستعملون الكلاب وبشرا من مفتولي العضلات لحماية شاحنات الرمال المسروقة من عيون الفضوليين. وكخلاصة، في المغرب مازالت ثقافة مكاتب الافتحاص في القطاع العمومي مجرد واجهة يريد البعض أن يدر بها الرماد على عيون المغاربة. في المغرب ليست هناك إرادة سياسية واضحة لوقف الفساد الذي يضرب العباد والبلاد، وليست هناك مؤشرات على أن هناك حتى مجرد.. بداية إرادة.