لماذا يخطئ الزعماء الطريق نحو الخروج المشرف من الزعامة في الوقت المناسب، فاتحين المجال للتداول الديمقراطي حول المسؤولية؟ سؤال معقد تتداخل فيه جوانب ثقافية، وأخرى نفسية، وثالثة سياسية، ورابعة تنظيمية. الزعامات التقليدية إفراز لبنيات اجتماعية ما قبل حداثية، بنيات مازالت الاعتبارات القبلية والدينية والعشائرية والسلطوية تلعب داخلها أدوارا محورية، طاردة صراع الأفكار والبرامج والأجيال. جميع الأحزاب والنقابات، في اليمين كما في اليسار، فشلت في تدبير خروج الزعامات من موقعها، وتركت الموت أو المرض أو الانقلاب الأبيض أو الانشقاق أو غضب القصر ينوب عنها... علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم والمعطي بوعبيد وعلي يعتة وأرسلان الجديدي... كلهم ماتوا وهم زعماء -مع تفاوت في الدرجة والكاريزما- فوق رؤوس أحزابهم. أما اليوسفي وامحمد بوستة فقد اضطرا إلى الانسحاب من قيادة الاتحاد والاستقلال لأنهما اعتبرا سلوك القصر تجاههما يمس بكرامتهما. بوستة اعتبر تزوير انتخابات 1996 وإعطاء حزب عريق في المغرب مقاعد في البرلمان توازي ما حصل عليه حزب الكوميسير عرشان الطارئ، إهانة لا يمكن السكوت عليها. واليوسفي اعتبر إنهاء مهامه في الوزارة الأولى وعدم التمديد له لولاية ثانية بمثابة تراجع عن مشروع الانتقال الديمقراطي الذي بدأه مع والد الملك الحالي. أما قصة اليازغي وأحرضان وعصمان، فإنها تندرج في باب الانقلابات البيضاء على الزعماء من قواعدهم وبتشجيع أو سكوت من هنا وهناك، وليس بتداول ديمقراطي على الرئاسة. الخروج من «أكواريوم» السلطة ليس أسهل من الدخول، لأن البقاء طويلا تحت أضواء الجاه والسلطة والمال... يلعب برؤوس كثيرة، ويصور لأصحابها أن العودة إلى الوراء عقاب إلهي وبشري وجب اتقاء شره بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. وهذه بعض أسباب خلود الزعماء في مناصبهم: أولا: مازالت الثقافة السياسية لدى النخب لم تقطع مع الجذور القبلية والدينية لأساس السلطة في المملكة الشريفة. مازالت صورة شيخ القبيلة وعمامة شيوخ الطرق الصوفية والفقهاء والعلماء والصلحاء، تخيم على المخيلة السياسية للجمهور كما للنخب. وفي هذه النماذج كلها لا يوجد مكان لزعامة محدودة، سواء في الزمان أو المكان أو مجال التحرك. شيخ القبيلة يحكم حتى الموت في كل شيء، والفقيه أو شيخ الطريقة يبسط نفوذه المستمد من قدسية الدين حتى يموت، والصلحاء يستمرون في التأثير على الأتباع أحياء أو أمواتا.. ثانيا: هناك عامل «سيكولوجي» مهم يمنع الزعماء من الانسحاب في الوقت المناسب من السلطة، وهو الخوف من «الإهانة» أو من «قلة القيمة» أو من فقدان المكانة الاعتبارية في نفوس الأتباع بعد الانسحاب. الزعماء الحزبيون يعرفون قبل غيرهم، أن التملق والمدح والاحترام المبالغ فيه، وحتى «التقديس» الذي يظهره الكثيرون... مرتبطة بموقع الزعيم لا بشخصه أو أخلاقه. ولهذا فإنك تجد الكثير من الأمثال التي تتحدث عن سوء «العاقبة»، مثل القول المشهور: «إذا كبر الأسد تلعب القرود فوق ظهره»، أو قول الإمام علي: «لا رأي لمن لا يطاع»... الأتباع عادة لا يعارضون الزعيم، لكنهم ينتقمون منه عندما يضعف، والمعارضة فعل حديث، والانتقام غريزة بدائية. ثالثا: الهياكل التنظيمية لا تساعد على التداول على السلطة في الحزب، فهي موضوعة لخدمة «الزعامة»، وهذه الزعامة لا تعبر فقط عن رغبة في التسلط لدى شخص أو أشخاص، بل إنها تشكل، في أحيان كثيرة، حاجة نفسية ودرعا سياسيا وأداة لمحاربة الأعداء والخصوم. الزعيم الخالد هو ذاكرة الحزب وهو ماضيه وحاضره ومستقبله، وهو القائد في معاركه والرمز بين أنداده، وهو الحضن في السراء والضراء. وفي التظاهرات التي خرجت فيها شبيبة الاتحاد الاشتراكي للاحتجاج على اعتقال نوبير الأموي، رُفع شعار دال في هذا الإطار يقول: «موت موت يالعدو.. الأموي عندو شعبو...»، حيث شبهت قواعد الحزب زعيمها بالملك، ومادام هذا الأخير خالدا مقدسا رمزا بلا معارضة ولا مؤسسات، فلماذا لا يكون الزعيم الحزبي كذلك؟ إلى الآن مازال خطاب حزب الاستقلال والاتحاد وغيرهما يعدد مناقب الزعماء الذين رحلوا، ومازالت هذه الأحزاب تسترشد بوصاياهم وخطبهم وسيرهم وكأنها تطلب من الأموات حكم الأحياء...