لا نعرف حقيقة الأسباب والدوافع التي جعلت الرئيس الفلسطيني محمود عباس يغير موقفه، ويطلق مبادرة للحوار مع حركة المقاومة الإسلامية حماس ومدى جدية هذه المبادرة، ولكن ما نعرفه أن الطرفين الفلسطينيين، أي فتح وحماس يعيشان أزمة، ويواجهان طريقا مسدودا بخيبات أمل متعددة الجوانب. فليس صدفة أن يطلق الرئيس عباس دعوته إلى الحوار بعد أن اصطدم حواره الآخر مع الطرف الإسرائيلي بصخرة الاستيطان، وتبين له أن كل الآمال التي علقها على مؤتمر أنابوليس الأمريكي للسلام كانت مجرد أوهام سرعان ما تبددت بعد انفضاض المشاركين، وعودتهم إلى بلادهم. الرئيس عباس لم يستطع فرض شرعية سلطة رام الله على الفلسطينيين والعرب رغم الدعمين الأمريكي والإسرائيلي لها، كما أن حماس فشلت هي الأخرى في كسر الحصار السياسي والمالي المفروض على حكومتها في جيب قطاع غزة، ولهذا بات الطرفان يبحثان عن مخرج وذلك بالحجيج إلى القاهرة والرياض تباعا بحثا عن وساطة ما، ويبدو أنهما وجداها أخيرا. فالسيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عرج على العاصمة السعودية قبل عدة أسابيع، واليوم يشد الرحال إليها الرئيس عباس للغرض نفسه. التطور الوحيد الذي يمكن أن يدفع باتجاه إنجاح الوساطة المصرية-السعودية، إذا ما تأكدت، هو أن الطرفين المتخاصمين وصلا إلى درجة كبيرة من الإنهاك، وباتا أكثر استعدادا لتقديم تنازلات تؤدي إلى حلول وسط على أساس قاعدة لا غالب ولا مغلوب . ولكن المشكلة تكمن في الجانبين الأمريكي والإسرائيلي اللذين لا يريدان لمثل هذه المصالحة أن تنجح وتؤدي إلى حكومة وحدة وطنية فلسطينية، لأنهما يملكان أوراق ضغط قوية وفاعلة، أبرزها ورقة المساعدات المالية، فسلطة رام الله لا تستطيع البقاء، ولو لأيام معدودة، دون هذه المساعدات، على عكس حكومة حماس التي صمدت لأكثر من ستة أشهر في ظل حصار تجويعي غير مسبوق. الرئيس عباس أكد أكثر من مرة أنه جاد في دعوته إلى الحوار مع حركة حماس، وكأنه يرد على بعض المشككين في صدق نواياه، خاصة أنه ربطها بشروط تعجيزية مثل الاعتراف بإسرائيل ومبادرة السلام العربية، والتراجع عن الانقلاب العسكري والاعتذار عنه، وإعادة تسليم المقار الأمنية. التشكيك في صدق نوايا الرئيس عباس أمر مشروع، فالرجل وضع كل بيضه في السلة الأمريكية-الإسرائيلية، ومؤتمر أنابوليس على وجه التحديد، وهناك من يقول إنه ربما يستخدم مبادرة الحوار التي طرحها للضغط على الأمريكيين والإسرائيليين لإنقاذ سلطته من الانهيار، خاصة بعد أن دمرت خطوات الاستيطان الإسرائيلية ما تبقى لها من مصداقية. فإعلان حكومة أولمرت عن بناء ألف وحدة سكنية في المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة، نسف تفاهمات مؤتمر أنابوليس من أساسها، وحدد نتيجة مفاوضات الوضع النهائي قبل أن تبدأ، وجعل من سلطة رام الله مجرد صورة أخرى لحكومة أنطوان لحد في جنوب لبنان سابقا. فقد بات واضحا أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وحلفاءها الأوروبيين لا يريدون، لأنهم لا يجرؤون على ممارسة أي ضغوط على حكومة أولمرت لتلبية الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية بوقف الاستيطان، وإزالة 135 بؤرة استيطان غير شرعية وتفكيك أكثر من ستمائة حاجز عسكري في الضفة الغربية، ولذلك أرادوا التعويض عن عجزهم هذا بتقديم سبعة مليارات ونصف المليار دولار كرشوة لحكومة السيد سلام فياض في مؤتمر المانحين الذي انعقد مؤخرا في العاصمة الفرنسية باريس. وربما لا نذيع سرا إذا قلنا إن هناك حالة من السخط المتزايد في أوساط حركة فتح ضد سلطة رام الله ورئيسها لأنها تحولت (أي السلطة) إلى دمية في يد السيد فياض وبعض المستشارين الانتهازيين الذين لا ينتمون إلى الحركة، ويشكلون حاجزا ضخما بينها وبين رئيسها أي السيد عباس. الرئيس عباس، إذا كان جادا فعلا في رغبته في الحوار، مطالب بإسقاط كل الشروط المسبقة التي طرحها، والانحياز بالكامل إلى الخيار الوطني الفلسطيني في استمرار نهج المقاومة والدخول في شراكة حقيقية مع الأطراف الفلسطينية المقاومة في إطار حكومة وحدة وطنية حقيقية، والتسليم بفشل خيار أنابوليس والحوارات غير المجدية، بل والمهينة مع حكومة إيهود أولمرت. في المقابل على حركة حماس أن تسلم بخطأ لجوئها إلى الحسم العسكري، وان تعتذر صراحة عن جميع أخطائها وخطاياها التي ارتكبتها عناصر تابعة لها في الأشهر الأخيرة، ومن بينها إطلاق النار على المحتفلين بذكرى الرئيس الراحل ياسر عرفات، وقتل سبعة منهم، واعتقال أعداد كبيرة من أنصار حركة فتح وآخرهم السيد إبراهيم أبو النجا وحلق شاربه وهو أمر معيب بكل المقاييس. فإذا كان الحسم العسكري هو ضد مجموعة فاسدة من قادة الأجهزة الأمنية، فإن الاحتفاظ بالمقرات الأمنية بعد هروب أفراد هذه المجموعة وأسرها مبكرا، أمر غير منطقي وغير مبرر. والشيء نفسه يقال أيضا عن بعض الممارسات التي طالت عناصر من حركة فتح ربما تكون أكثر تطرفا في معارضتها لهذه المجموعة وفسادها من حركة حماس نفسها. المصالحة الحقيقية حتى تتم وتعطي ثمارها يجب أن تكون طريقا من اتجاهين، وأن تأتي نتيجة لنوايا صادقة لدى أطرافها بالخروج من المأزق الراهن، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية والحزبية الضيقة والمؤسفة. القضية الفلسطينية وصلت إلى الحضيض من جراء التقاتل الراهن، سياسيا وإعلاميا، بين رأسي السلطة اللذين يتنافسان على جيفة وينسيان أنهما تحت احتلال ظالم يقتل يوميا من الأبرياء الشرفاء في الضفة الغربية وقطاع غزة من أبناء فتح وحماس إلى جانب أبناء الفصائل الأخرى. حركة حماس يجب أن تتجاوب مع دعوة الرئيس عباس للحوار وبحماس أيضا، وتضع الرجل أمام مسؤولياته، فإذا كان صادقا في دعوته، فان في هذا خير للشعب الفلسطيني بأسره، أما إذا كان مناورا فإنها بذلك تكون قد برأت ذمتها أمام الشعب الفلسطيني بأسره، وأكدت على صدق نواياها في الخروج من المأزق الأخطر الذي تعيشه القضية الفلسطينية. ما هو مطلوب حاليا، وقبل البدء في الحوار، الذي يجب أن يكون شاملا واستراتيجيا، بحيث يشمل العودة إلى الثوابت وإصلاح منظمة التحرير، وإزالة كل الأعشاب الضارة والفطرية التي نمت بشكل انتهازي في الفترة الأخيرة، المطلوب أولا وقف الحملات الإعلامية، وسياسات التحريض المتبادلة، والتركيز معا، سياسيا وإعلاميا على عمليات قضم الأرض، أو ما تبقى منها، وسياسات التضليل الإسرائيلية للرأي العام العالمي، والمجازر المرتكبة يوميا في الضفة والقطاع. الأشهر الثمانية المقبلة هي الأخطر في تاريخ المنطقة بأسرها، وقد تحسم أمورا كثيرة سلما أو حربا، وإن كنا نعتقد أن احتمالات الحرب مازالت هي الأكبر، ومن الأفضل أن يتم ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وبأسرع وقت ممكن حتى لا يكون أهله هم أكبر الخاسرين.