- هل الفكر الإسلامي يحتاج إلى إصلاح عميق لفتحه على الاجتهاد وعلى المساهمة في حل مشكلات العصر عوض تعقيدها؟ < الاجتهاد فريضة دينية وضرورة إنسانية، والفكر الإسلامي خصوصا، يحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الاجتهاد أكثر من حاجته إلى شيء آخر. يحتاج الفكر الإسلامي إلى الاجتهاد ليحيى ويصبح كما يدل عليه اسمه «فكرا»، ولا معنى للفكر من غير «اجتهاد» ، وما يقوم به كثير من دعاة الدين إنما هو ترديد لمقولات دينية مرتبطة بأزمنة ماضية واجتهادات في أزمنة غابرة، والأفكار، كما يقال، لها أعمار، تولد وتعيش فترة من الزمن ويأتي عليها حين من الدهر فتموت، ويحتاج الناس بشكل دائم إلى أفكار جديدة مبدعة تبعث فيهم الحياة، وتطورهم نحو الأفضل، وتساير معهم التغير الحاصل في المعرفة والمجتمع والحضارة، بل تكون تلكم الأفكار هي رافعة مشعل التطور والازدهار... حتى يأتي زمان لا يستطيع فيه الناس إنتاج أفكار جديدة مبدعة، فيبقون عالة على الآباء والأسلاف، فيتدهور حالهم وتتراجع قيمتهم ويفقدون دوره في القيادة والإبداع، فيدخلون في عصور الانحطاط. مهمة الفكر الإسلامي -اليوم- هي إخراج الإنسان المسلم من عصر الانحطاط الذي لازلنا نعيش فيه، رغم كل مظاهر الرقي والازدهار والحضارة التي تحيط بنا من كل جانب، لكننا للأسف لا ننتجها، وإنما ندور في دوامتها الاستهلاكية. ومهمة الفكر الإسلامي اليوم هي إعادة الاعتبار لفريضة التفكير التي بدونها لن يخرج المسلمون من أوضاعهم المرضية المزمنة. ومهمة الفكر الإسلامي اليوم هي أن يُخرج الإنسان المسلم المعاصر من وهم التفوق العنصري والقومي والمذهبي والديني، ويشرح له أن الحياة تحكمها قوانين وسنن لا تحابي أحدا. ومهمة الفكر الإسلامي المعاصر أن يعيد قراءة الذات والتراث والتاريخ بموضوعية أكبر ويبحث عن أسباب الفشل والنجاح في مسيرة المسلمين التاريخية، لينبهنا إلى العيوب القاتلة في ثقافتنا ومعرفتنا ومجتمعاتنا وعاداتنا وسياستنا واقتصادنا واجتماعنا. وكفانا ادعاء بأن تاريخنا تاريخ ذهبي، ومعرفتنا معرفة نورانية، ومجتمعاتنا مجتمعات ملائكية، لأن ذلك لن يغذي إلا ثقافة الانحطاط والتقليد ، التي – وللأسف الشديد – هي ما يردده من يسمون بالمفكرين الإسلاميين اليوم، ليبرروا الحاضر والماضي والمستقبل والسياسة والثقافة والاجتماع والمعرفة . مهمة الفكر الإسلامي ينبغي أن تنصب على النظر في المعرفة الإسلامية نفسها، ليخرجها من قدسيتها، ويفرق فيها بين ما هو رباني ومقدس -وهو المبادئ الأساسية، كالعدل والحق والخير ومختلف القيم المجردة، التي ينبغي بيان كونها إنسانية مطلقة، لا ترتبط بجهة دون الجهات الأخرى، أو بزمان أو مكان دون زمان ومكان آخرين، فتكون هي الكلمة السواء والأرضية المشتركة التي يؤسس عليها الحوار في الأرض والعلاقة بين الشعوب والأمم والأفراد- وبين ما هو بشري نسبي ينتمي إلى التاريخ والثقافة، حيث أنزلت تلك القيم ولامست واقع الناس، وتأثرت بكل العوامل المؤثرة فيهم، ومن ثم فهي معرفة غير مقدسة، قابلة للصواب والخطأ والاستيعاب والتجاوز، بما فيها ما أنشأه الفكر الإسلامي في عصور مختلفة، منذ عصر الرسالة المحمدية، من قواعد وأصول وعلوم ومناهج وأفكار واجتهادات وآثار وتصورات، فهي ليست خالدة ولا ممنوعة إعادة مدارستها والنظر فيها وتجاوز ما يمكن تجاوزه منها. ومهمة الفكر الإسلامي اليوم هي النظر في الواقع الذي نعيشه والبحث عن الحاجات الطبيعية التي نحتاجها والمشاكل العويصة التي تعوق حركتنا، مظاهرها وأسبابها وطرق الخلاص منها، ومن ذلك مشكلة الفقر والبطالة والجوع والجهل والأمية والاستغلال والظلم والرذيلة والطغيان وجميع أنواع الفساد المادي والمعنوي الذي ترزح تحته الشعوب الإسلامية خصوصا. ومهمته النظر في ما قدمته الحضارة البشرية من مكتسبات على جميع الأصعدة، دون إقصاء لأي مكتسب تحت أي دعوى من الدعوات، وكيفية الاستفادة منها. ومن مهام الفكر الإسلامي الضرورية، إعادة صياغة المقترحات الدينية القرآنية صياغة جديدة تستجيب للغة العصر، شكلا ومضمونا، وتتجاوز الإشكالات التاريخية الواردة في صياغات العصور الإسلامية الأولى، والاعتراف بأن تلكم الخطابات الدينية الماضية، وكذلك الحاضرة، خطابات نسبية، يكتبها أناس محكومون بعوامل الزمان والمكان والثقافة والتاريخ، ولا يمكنهم القفز عليها لكونهم بشرا ناقصا. – ما هو المفهوم الصحيح للجهاد ومصطلح نصرة المسلم؟ < أحب في البدء أن أتحدث عن مفهوم المسلم قبل حديثي عن مفهوم الجهاد، المسلم هو من أسلم وجهه لله حنيفا مسلما وما كان من المشركين، والأنبياء عليهم السلام كلهم مسلمون، ومن آمنوا بهم واتبعوهم بإحسان هم مسلمون كذلك ، لأنهم أسلموا وجوههم لله وعبدوه دون أن يشركوا به أحدا أو شيئا. وعندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الدين الذي جاء به جميع الرسل، وأتم النعمة وختم الرسالة، واعتبر من شرط الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وألا تفرق بين أحد من رسله، واعتبر أن العمل الصالح في الأرض هو دليل الإسلام، سواء كان على مستوى الشعائر أو المعاملات، واعتبر أن الظلم والإجرام والعدوان والإفساد والبغي في الأرض بغير الحق هو الكفر والفجور عن أمر الله وأمر رسله. هذا هو مفهوم الإسلام بشكل عام، غير أن المسلمين قد جعلوا الإسلام هوية قومية أو مذهبية، كما فعل اليهود والنصارى من قبل. وإلا فما اليهودية إلا تجربة إسلامية قادها نبي الله موسى وبعده أنبياء بني إسرائيل، وقبله إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط، والمسيحية تجربة إسلامية قادها المسيح عليه السلام والذين ساروا في هذه التجربة مسلمون، ومنهم أنصار المسيح نفسه: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». ولا يختلف الأمر بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ». ومن ثم فمفهوم المسلم، حسب القرآن الكريم، يشمل أتباع هذه المذاهب الدينية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، وغيرهم: «إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». أما الجهاد، فغايته الدفاع عن المستضعفين في الأرض ببذل النفس والمال وكل الوسائل الممكنة لتخليص المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يجدون سبيلا للخروج من حالة الاستضعاف التي يرزحون تحتها، والحروب بالتأكيد – في وقتنا الحالي على الأقل - ليست سبيلا لهذا الأمر ، وإنما هي سبب المآسي التي لا تنتهي. وهناك سبل أخرى هي أجدر وأقدر على تحقيق التحرير المطلوب؛ ومن هذه السبل الإخلاص في العمل الصالح الذي ينفع البلاد والعباد، والإحسان في كل شيء يقوم به هذا المجاهد لتحرير المستضعفين، والاجتهاد المتواصل بالليل والنهار لنفعهم ودفع الأذى عنهم في الأرض، والدعوة المستمرة للناس الصالحين في الأرض للقيام بواجبهم تجاه هؤلاء المستضعفين، وفضح المستكبرين وظلمهم وعدوانهم في كل وسائل الإعلام الممكنة باللسان والقلم وكل الوسائل المشروعة، ومواجهة الظالمين بالحوار معهم تارة ومفاوضتهم تارة أخرى، وإسقاط تبريراتهم في مرة ثالثة، وإعلام الرأي العام بحقيقة أمرهم، وهذه في نظري هي النصرة المطلوبة في هذا الزمان. أما الدخول في لعبة الحرب والتفجيرات، فمفاتحها بيد المستكبرين وسماسرة السلاح العالميين، الذي لا همّ لهم إلا إشعال الحروب في المجتمعات، وكلما أطفأ الله حربا أوقدوها من جديد، وهؤلاء بالتأكيد هم شياطين البشرية الذين يشعلون كل الحروب الدينية واللادينية على السواء. وأما التفجيرات في الأسواق والمقاهي والمرافق الخاصة والعامة للناس الأبرياء فهذا فجور وجبروت وطغيان وإجرام لا يقبله الله ولا رسوله ولا المؤمنون، لأنه قتل للنفس التي حرم الله بغير الحق، وأكثر النفوس المقتولة في هذه التفجيرات لم ترتكب جرما تستحق عليه هذا العقاب، وستقف أمام الله لتشكو له المجرمين والقتلة الذين قتلوها بغير حق، سواء باسم الله أو باسم الجهاد أو باسم الاستشهاد ولن يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا. – تفكيك الأيديولوجية التي تقوم عليها السلفية الجهادية. < السلفية الجهادية جمعت أسوأ ما في المذاهب الإسلامية، فقد أخذت، من جهة، الفكر الخارجي الذي يكفر الحكام الذين لا يحتكمون إلى شرع الله – حسب زعمهم- ويسمح بالخروج عنهم ومقاتلتهم، وأضافت إليه تكفير المجتمعات التي تقودها هذه «الأنظمة الكافرة»، ولم يأخذوا من المذهب الخارجي فكره النقدي العقلاني السياسي الذي تحدث فيه عن شروط الإمام والعقد معه وخلعه وتداول السلطة وعدم انحصارها في قريش، وغير ذلك من الأفكار التقدمية المهمة التي انبنت عليها علاقة الحاكم والمحكوم والعقد الاجتماعي – فيما بعد- في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر؛ وأخذوا من الفكر السلفي الجمود على الروايات والنصوص وعدم الانفتاح على المذاهب الأخرى، واعتقادهم بأن ما هم عليه هو الحق المطلق، وما عداه فهو الباطل المحض، ومن ثم فلا إمكانية للحوار ولا للمشاركة ولا للاعتراف، وإنما هو الجهاد والسيف والقتل. وأخذوا من الفكر الصوفي جانبه الشكلي حيث الارتباط بالجماعة وشيخها، والطاعة العمياء له، والاهتمام بالجانب التعبدي من صلاة وصيام وقيام وخلوة وخشونة وابتعاد عن المجتمع وزينة الحياة الدنيا، لكنهم أهملوا أهداف العبادة التي تجعل المتعبد أكثر رحمة ولينا وطيب جانب وعلاقة حسنة في البيت والشارع والعمل والمجتمع بشكل عام، وتجعل المتعبد أكثر تفكرا في الوجود وفي الكون والتاريخ والناس، وأكثر رحمة لهم وإدراكا لحاجاتهم ومشاكلهم، وتقديرا للصعوبات التي يعانونها، ملتمسا لهم الأعذار، ناظرا إلى ما فيهم من خير وكمال كامن، وغاضا الطرف عن الجوانب السلبية التي تظهر منهم. والحقيقة أن هذا الخليط من الأفكار الذي يتجلى في السلفية الجهادية عميق في تراثنا وثقافتنا وفكر أبنائنا وشيوخنا المتدينين منهم وغيرهم، لكونه موجودا في مصادرنا الدينية القديمة والحديثة، وهي المرجع الذي يرجع إليه كل من أراد أن يتعرف على الدين أو يلتزم به؛ ولذلك نحتاج إلى مراجعة نقدية جريئة لهذه المصادر تكشف ما فيها من هذه الأفكار المسمومة القاتلة، وتقوم بنقضها وبيان مخالفتها للدين الذي أنزله على رسوله في كتابه المبين، ولا يمكن ذلك إلا إذا أزال الباحث عن نفسه الخوف من لوم اللائمين وأخلص للحق بحثه العلمي.