استغل بلير في الجزء الثاني من شهادته، ضعف لجنة التحقيق وعدم وجود أية خلفية قانونية لديها ليخرجها من إطار التحقيق الأساسي في صيف عام 2003، حضرت مسرحية ساخرة على أحد مسارح لندن كان عنوانها «جورج دوبيا»، وكانت أحداثها تدور حول اتخاذ قرار شن الحرب على العراق، وكان بطلا المسرحية هما الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وقد قدمت المسرحية الرجلين على أن أحدهما أبله، هو جورج بوش، والثاني مهرج أو «أراجوز»، هو توني بلير. وكان أبرز ما شدني في أداء الممثل الذي كان يقوم بشخصية رئيس الوزراء البريطاني بلير إتقانه للغة الجسد التي كان يتميز بها والتي ركز عليها بلير بعد سبع سنوات حينما جلس يوم الجمعة الماضي 29 يناير لمدة ست ساعات للإدلاء بشهادته أمام لجنة تشيلكوت، وهي لجنة غير قانونية شكلتها الحكومة البريطانية لاستنتاج العبر والعظات حسب قولهم التي تنبغي الاستفادة منها بعد قرارات تورط بريطانيا مع الولاياتالمتحدة في حربها على العراق التي لم تنته حتى الآن ولم تحقق أيا من النتائج التي أعلنوا عنها، باستثناء القضاء على صدام حسين. كنت معنيا إلى حد كبير حينما تابعت جانبا من الجزء الصباحي من التحقيق مع بلير بمتابعة لغة الجسد لدى الرجل الذي كذب ولازال يكذب على شعبه وأمته والعالم، معتقدا أن الأكاذيب يمكن أن تصنع التاريخ. وقد لاحظت أن كثيرا من التعليقات التي تناولتها الصحف البريطانية في اليوم التالي للشهادة ركزت على ما ركزت عليه، وهو لغة الجسد للرجل الذي كان يكذب بوقاحة متناهية، فقد بدا بلير متوترا بل ومرتجفا في بعض الأحيان، يكسو وجهه خليط من الخزي والعار. كان هذا واضحا رغم أن الذين يحققون معه ليسوا قضاة وليسوا قانونيين ولن يحيلوه، في النهاية، على المحاكمة أو السجن رغم أن عشرات من أسر ضحايا بريطانيا في حربها على العراق كانت تقف خارج القاعة التي كان يدلي فيها بشهادته تطالب بمثوله أمام المحكمة وضرورة محاكمته كمجرم حرب. الأوصاف التي لحقت ببلير من بعض الإعلاميين البريطانيين المناوئين للحرب حينما كان رئيسا للوزراء وصلت إلى حد وصفه بكونه «كلب بوش المدلل». استغل بلير، في الجزء الثاني من شهادته، ضعف لجنة التحقيق وعدم وجود أية خلفية قانونية لديها ليخرجها من إطار التحقيق الأساسي الذي قام على سؤال رئيسي هو«لماذا قاد الحرب على العراق رغم عدم حصوله على التأييد الكامل، ولاسيما من المدعي العام؟»، وتمكن من أن يخرج من الإجابة عن هذا السؤال المحوري ليصول ويجول بها في بحار الأكاذيب، ويحاول أن يستعيد رباطة جأشه في الجزء الثاني ويتخلى عن حالة التوتر الكامل التي تلبثته في الجزء الأول من الشهادة. وقد دفع هذا كثيرا من المحللين البريطانيين إلى الغضب من أكاذيب بلير، كان على رأسهم محلل «الأندبندنت» الشهير روبرت فيسك الذي كتب مقاله السبت 30 يناير تحت عنوان «حجم الألم وجحيم الكذب»، كان مما قاله فيه موجها كلامه إلى بلير الذي كان في لندن حينما قامت الحرب بينما كان فيسك في قلبها: «الفارق كبير بين جحيم الألم وجحيم الكذاب السعيد... ينبغي أن تكون هناك في الشرق الأوسط لتشعر بذلك بقوة، فاللورد بلير كان، جسديا، على بعد 2000 ميل عني، ولكن سيكولوجيا كان في مجرة أخرى مواصلا تأليف وإعادة تأليف سجل التاريخ». وقد شن فيسك هجوما على بلير وملابسه فائقة النظافة والمشهد المعقم الذي يدلي فيه (بلير) بشهادته. عشرات المقالات الأخرى فندت شهادة الكذاب بلير ووصفه كثيرون بكونه فشل، طوال ساعات من التحقيق، في إظهار الندم أو الاعتذار عما قام به، بل كان مكابرا إلى أبعد الحدود وقال إنه ما زال مع قرار الحرب ويعتقد أنها شرعية وسيفعلها ثانية. إنه وبغض النظر عن اللجنة والانتقادات الموجهة إليها شكليا وقانونيا، فإنها أقرت، ولو شكليا، مبدأ المساءلة الغائب تماما في بلادنا وعرت بلير ووضعته في موقف تاريخي محرج، وجعلته يحظي بأقل شعبية في بلاده حيث كان يصول ويجول قبل سنوات ويروج الأكاذيب. بلير لم يصنع التاريخ بأكاذيبه، لكنه أضافها إلى سجله الأسود الذي سيدونه التاريخ والمؤرخون بعد ذلك من خلال الدماء والأشلاء التي لازالت تملأ العراق وأفغانستان، لكني هنا أود أن أشير إلى أمل يحدوني ويحدو الكثيرين مثلي، هو أن نرى حكامنا ورؤساء وزاراتنا ووزراءنا يمثلون ولو أمام لجان شكلية، مثل هذه اللجان، ليسألوا عما فعلوه بنا وببلادنا وثرواتنا وشعوبنا طوال العقود الماضية، ولازالوا يفعلون، مدركين أنه لن يسائلهم أحد حتى ولو كان ذلك عبر عرض مسرحي هزلي على غرار «جورج دوبيا».