المساعدة في بناء الإنسان العربي الجديد، وفق الأسس والأصول الإسلامية المعتدلة، أهم من المساعدة في بناء المطارات والطرق والموانئ، أو فلتسر العمليتان جنبا إلى جنب يواصل السيد رجب طيب أردوغان اتخاذ مواقف أخلاقية مشرفة تتصدى للاستكبار الإسرائيلي بقوة وتفضح جرائم الحرب المستمرة في قطاع غزة، فلم يتردد، قبل يومين وأثناء استقباله لنظيره اللبناني سعد الحريري في أنقرة، في شن حملة شرسة ضد الحكومة الإسرائيلية واختراقها أكثر من مائة قرار دولي واستخدامها المفرط للقوة ضد شعب أعزل محاصر في قطاع غزة. أردوغان ينتصر للضعفاء المجوّعين في وجه آلة الدمار الإسرائيلية، بينما يعمل زعماء دول الاعتدال على تشديد الحصار عليهم لإجبارهم على الركوع عند أقدام الإسرائيليين والأمريكان، طلباً للمغفرة على جريمة الصمود التي ارتكبوها في حق نتنياهو وليبرمان وتمسكهم بثقافة المقاومة. الإعلام العربي، الذي تهيمن عليه دول الاعتدال، مصر والمملكة العربية السعودية بالذات، لا يجرؤ على وصف إسرائيل ب«العدو» ويتجنب، في معظمه، وصف القتلى الفلسطينيين بالشهداء ويشجع قنوات الابتذال على تجهيل الأجيال الحالية والقادمة، بينما تنتج تركيا وشرفاؤها مسلسلات مثل «وادي الذئاب» (أتحدى أن تبثه أي دولة عربية) يتحدث عن ذبح الأطفال الفلسطينيين على أيدي الجنود الإسرائيليين أثناء العدوان على قطاع غزة. الأغاني الوطنية، التي كانت تزدحم بها أرشيفات الإذاعة والتلفزيون المصريين، أكلها الغبار ولم تخرج من الأدراج إلا أثناء معركة الخرطوم بين فريقي مصر والجزائر الكرويين لتصفيات كأس العالم. الحكومة الإسرائيلية استشاطت غضباً على السيد أردوغان ومواقفه ومسلسلاته هذه، واستدعت السفير التركي في تل أبيب احتجاجا، حيث عامله داني إيالون، نائب وزير الخارجية، بعجرفة غير مسبوقة. لا نخشى على أردوغان من إسرائيل، وإنما من حلفائها العرب الذين يحرسون حدودها وينفذون إملاءاتها وينسقون أمنيا معها ضد المقاومة، بل وضد تركيا وإيران وأي دولة تنتصر لأبناء الشعب الفلسطيني. أردوغان اختار أن يتصدى لإسرائيل بشجاعة وأن يرفض مشاركتها في مناورات جوية فوق أراضي بلاده قرب الحدود الإيرانية، مثلما اختار أيضا أن يدير ظهره كليا للولايات المتحدة، تمهيدا للانسحاب من حلف الناتو. رئيس الوزراء التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، لم يقدم على هذا التحول اعتباطيا أو نتيجة لحظة مزاجية، وإنما بناء على تخطيط مسبق وبعد أن امتلك أسباب القوة، ويمكن إيجاز هذه الأسباب في النقاط التالية: أولا: أردوغان فكك الأتاتوركية قطعة قطعة، وأعاد تركيا إلى محيطها المشرقي الإسلامي، وأنهى ممارساتها السابقة المتعالية ضد الإسلام والمسلمين، وسياسات التذلل للغرب، وساعدته على ذلك عنصرية الأوربيين وعداء معظمهم للإسلام، من حيث رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وهي التي قدمت إلى أوربا الغربية خدمات جليلة كعضو في حلف الناتو في مواجهة الإمبراطورية السوفياتية أثناء الحرب الباردة. ثانيا: عكف أردوغان وحزبه، طوال السنوات العشر الماضية، على إدخال إصلاحات داخلية، اقتصادية وسياسية واجتماعية هائلة، تحت غطاء الاستجابة لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي. وقد أدت هذه الإصلاحات الديمقراطية إلى تقليص دور المؤسسة العسكرية الحامية لتراث الأتاتوركية لصالح المؤسسات المدنية التركية. ثالثا: فتح أسواقا جديدة في الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا للبضائع التركية. فقد أقام مناطق حرة مع سورية، وألغى التأشيرات مع معظم الدول العربية، ونفذت الشركات التركية مشاريع بنى تحتية ومطارات في كل من مصر وتونس وليبيا وقطر والإمارات، وتم توقيع معاهدات واتفاقيات تفضيلية تجارية مع معظم العرب، بحيث بلغ حجم التجارة التركية مع هذه الدول 32 مليار دولار، يمكن أن تتضاعف في غضون خمس سنوات. رابعا: عيّن أردوغان البروفسور داوود أوغلو وزيرا للخارجية، وهو من أكبر دهاة تركيا، ويوصف بكونه «عثمانيا متطرفا»، وأصبح أوغلو مهندس الانفتاح على المشرق، بزياراته المتواصلة لإيران والعراق وكردستان العراق، ونجح في حل جميع النزاعات تقريبا بين تركيا وهذه الدول. خامسا: انفتاح أردوغان على الأكراد، سواء داخل تركيا أو خارجها، جاء في توقيت ذكي جدا، فقد سحب من أيدي الأمريكان ورقة قوية استخدموها دائما ضد تركيا والعراق، وذلك عندما اعترف باللغة والثقافة الكرديتين، وزاد من الاستثمارات في المناطق الكردية. في المقابل، وجد الأكراد أن الحليف الأمريكي لا يمكن الاعتماد عليه في ظل انحسار نفوذه وهزائمه شبه المؤكدة في أفغانستان والعراق، وبروز قوى عظمى جديدة مثل الهند والصين والبرازيل وروسيا الاتحادية. سادسا: وجه أردوغان ضربة قاصمة إلى إسرائيل بإقدامه على المصالحة مع أرمينيا، فلطالما استخدمت إسرائيل هذا الخلاف لابتزاز تركيا من خلال الادعاء بتوظيف اللوبي اليهودي في أمريكا لتحييد العداء للأتراك، ومواجهة اللوبي الأرميني القوي المحرض ضدهم. سابعا: إدراك أردوغان وحزبه للتغييرات الكبرى داخل المجتمع التركي، من حيث تزايد العداء لأمريكا وإسرائيل، وزيادة المد الإسلامي، وظهر ذلك بوضوح أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. ثامنا: بناء اقتصاد تركي قوي يرتكز على خطط تنمية مدروسة في مجالات إنتاجية صلبة، مثل الاستثمار في مجالات الزراعة والصناعة وتصدير الخبرات التركية إلى دول الجوار. وهذه السياسة الذكية جعلت تركيا تحتل المرتبة ال17 على قائمة الاقتصاديات الكبرى في العالم، والعضو في تكتل الدول الاقتصادية العشرين، وهذا كله رغم عدم وجود نفط لديها أو غاز، وإنما عقول خلاقة. تاسعا: أدرك أردوغان أن هناك فراغا استراتيجيا في الشرق الأوسط، فالعراق انهار، ومصر ضعيفة بسبب قيادتها المتكلسة الذليلة، والنفوذ الأمريكي ينحسر إقليميا وعالميا بسبب خسائر حرب العراق. فالنظام العربي الآن مثل تركيا المريضة قبيل الحرب العالمية الأولى، ولذلك هرعت تركيا لملء هذا الفراغ قبل أن تملأه إسرائيل أو إيران. عاشرا: موقف تركيا أردوغان من البرنامج النووي الإيراني مشرف، فقد أيد حق إيران في امتلاك هذه البرامج، وقال صراحة، وفوق رؤوس الأشهاد: «من لا يريد البرامج النووية الإيرانية عليه أن يتخلى عن برامجه المماثلة أولا». وقال هذه التصريحات في وقت يتواطأ فيه زعماء عرب مع إسرائيل سرا ضد إيران. نغبط الشعب التركي لأن لديه قيادة ذكية وطنية إسلامية واعية مثل السيد أردوغان والمجموعة المحيطة به التي أعادت تركيا إلى الواجهة مجددا، وأعادت إليها هويتها الإسلامية على أسس العدالة والديمقراطية والمساواة والانتصار للضعفاء. هذه القيادة النموذج غير موجودة في بلداننا العربية، ولا يلوح في الأفق أنها ستوجد في المستقبل القريب، حيث تعم الديكتاتوريات وإفرازاتها النتنة من فساد وقمع ومصادرة الحريات، ونهب المال العام، والغرق في الملذات والأمور الهامشية والثانوية. إننا نناشد السيد أردوغان وزملاءه أن يصدّروا إلينا هذه التجربة، وليس فقط منتوجاتهم الصناعية، وشركات المقاولات، لأن المساعدة في بناء الإنسان العربي الجديد، وفق الأسس والأصول الإسلامية المعتدلة، أهم من المساعدة في بناء المطارات والطرق والموانئ، أو فلتسر العمليتان جنبا إلى جنب.