يوما بعد آخر تتعقد الخيوط في الملف السوري لتركيا، وبات الزناد يضغط على أولويات الدولة، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، في ظل تردد حلف شمال الأطلنطي بقيادة الولاياتالمتحدة على الحسم بإعلان مساندة صريحة لتركيا، الحليف الأهم في عقد الأطلنطي، والخضوع للدب الروسي الذي بات يملك اليد العليا هناك، جوا وبرا، متحالفا مع العدو التقليدي والتاريخي لتركيا، إيران والأكراد، مع ضعف، أو إضعاف، المقاومة الوطنية السورية القريبة لتركيا، وبالتالي فإن الأتراك يجدون أنفسهم وحيدين في المواجهة، إلا من بعض دعم معنوي في تحالف تركي سعودي قطري، لم يجد طريقه للتنفيذ على الأرض بعد. المعضلة الكردية على الصعيد الاستراتيجي والعسكري، تكثف موسكووإيران ضرباتها لسحق المعارضة المسلحة التي تدعمها تركيا، وخاصة في المناطق الحدودية، مفسحة الطريق أمام قوات نظام الأسد والقوات الكردية التابعة لحزب الشعب الديمقراطي السوري للتمدد باتجاه شاطئ المتوسط، وربط المناطق الكردية من أقصى الشمال إلى أقصى الشرق، وصولا إلى جبال قنديل، مما يمهد الطريق نحو إقامة إقليم كردي سوري قد يتحالف مع نظيره التركي -حزب العمال الكردستاني- وهو السيناريو الكابوس لتركيا. ووفقا لوسائل إعلام محلية، فإن القيادة التركية طلبت من الجيش وضع خطة عسكرية لدخول الأراضي السورية، حددتها بمسافة تقدر ب 110 كيلومترات، وبعمق يتراوح ما بين 28 و 33 كيلومترا، للحيلولة دون إنشاء كيان كردي شمالي سوريا، وللقضاء على خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإبعاده عن الحدود التركية. وبينما تشير بعض المصادر التركية إلى أن تلك القوة العسكرية ستكون في حدود 18 ألف عسكري وتستمر مهمتها نحو عامين، فإن أنقرة نفت صحة الأنباء عن حشد لنحو مائة وخمسين ألف جندي، في إطار تحالف عربي إسلامي بقيادة السعودية وتركيا لاجتياح الشمال السوري. مأساة إنسانية وهناك محاولة لنقل المعركة إلى الداخل التركي من خلال تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني و«داعش» في بعض المدن التركية الكبيرة مثل اسطنبولوأنقرة، نجحت بعضها، كعملية السلطان أحمد في إسطنبول قبل شهرين، وكشفت خيوط عدد آخر من العمليات قبل تنفيذها مما أجهضها مبكرا، واتخذت السلطات التركية المبادرة بتنفيذ عمليات تمشيط واسعة لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني في المدن والبلدات الحدودية التركية ذات الأغلبية الكردية. على الصعيد الإنساني، تستعد تركيا لسيناريو آخر نتيجة تكثيف العمليات العسكرية الروسية ضد المدنيين السوريين في مناطق الشمال، هو نزوح قرابة ستمائة ألف لاجئ سوري من أصل نحو مليون نازح، وصل منهم بالفعل إلى الحدود السورية التركية 70 ألف شخص، وهذا العدد يعتبر مأساة إنسانية وأخلاقية بالنسبة لتركيا التي يبلغ عدد اللاجئين السوريين فيها ثلاثة ملايين شخص، يحتاجون تقديم العون الإغاثي العاجل من طعام وإسكان وصحة وتعليم. سياسة واقتصاد على المستوى السياسي الداخلي فإن تركيا على موعد مع تعديل أو تغيير الدستور، الذي صاغه قادة العسكر في 1982، لاستكمال المنظومة الديمقراطية التي وعد بها حزب «العدالة والتنمية» فور وصوله للسلطة عام 2002، ليتوافق مع المعايير الديمقراطية الأوربية، وهو مشروع مؤجل منذ العام الماضي بعد الكبوة التي شهدها الحزب في انتخابات يونيو الماضي، وتسببت في إعادة الانتخابات في الأول من نوفمبر، وفاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية المؤهلة لتشكيل الحكومة منفردا، وبالتالي فإن أي تورط عسكري في سوريا قد يؤجل تلك الخطوة الهامة في مسار الديمقراطية التركية، والقضاء نهائيا على الوصاية العسكرية هناك. أما على المستوى الاقتصادي، فقد امتص الاقتصاد التركي بعض الهزات غير المؤثرة حتى الآن، وبالتحديد بعد إسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية اخترقت الحدود التركية في 24 نوفمبر الماضي، تمثلت في بعض العقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا على أنقرة، مثل وقف بعض مشروعات الطاقة مع موسكو، مثل مشروع «السيل الروسي» لتزويد أوربا وتركيا بالغاز الروسي، وتعتمد عليه تركيا في توفير احتياجاتها من الغاز بنسبة 60 في المائة، إضافة إلى وقف إنشاء أربعة مفاعلات نووية لتركيا لسد العجز في إنتاج الطاقة، ووقف استيراد الخضار والفواكه التركية، ومنع سفر السياح الروس لتركيا، والذين يقدر عددهم بنحو مليوني سائح سنويا، إضافة إلى وقف بعض الصادرات التركية الزراعية لروسيا. فاتورة الحرب ويقدر حجم التبادل التجاري بين روسياوتركيا بنحو ستة مليارات دولار صادرات تركية، مقابل عشرين مليار دولار واردات تركية من روسيا، أغلبها في النفط والغاز، وقد اتجهت أنقرة لتعويض وتنويع مصادر الطاقة من دول الخليج، قطر والسعودية وإيران، واتجهت جنوبا نحو أمريكا اللاتينية من أجل فتح أسواق جديدة لمنتجاتها التي تأثرت بالتوتر مع روسيا، وهو الهدف الأساس للزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الشيلي وبيرو والأكوادور.الاقتصاد التركي الذي حقق نتائج جيدة خلال الأعوام العشرة الأخيرة، حيث بلغ حجم الدخل القومي الإجمالي العام الماضي 820 مليار دولار يمكن أن يستوعب مثل تلك الهزات بسهولة، لكن الخطورة تكمن إذا زلت قدم تركيا في الحرب السورية في مواجهة مباشرة مع الروس والإيرانيين، فهنا ستكون فاتورة الحرب باهظة على الاقتصاد التركي، لذلك فإن تركيا لن تقدم على دخول الحرب منفردة، إلا بوجود شركاء يتقاسمون الخسائر، مثل حلف الناتو، وهذا مستبعد، أو مع التحالف الذي تقوده السعودية وأعلنت بعض الدول مثل المغرب المشاركة فيه، لمحاربة داعش، والحالة الوحيدة التي قد تضطر تركيا اضطرارا لدخول الحرب وحدها، هو وصول الأكراد السوريين إلى البحر المتوسط، واتحادهم مع أكراد تركيا، في إطار عملية لإعادة رسم خريطة المنطقة، هنا سيكون التدخل التركي مصيريا وبأي ثمن.