فتح المغرب، مع بداية سنة 2010، ملفا سياسيا جديدا يتمثل في الجهوية، مقابل دعوته المفتوحة إلى الاستمرارية في ملف سياسي ثانٍ يرتبط بالمفاوضات حول مقترح الحكم الذاتي، وهو بذلك يخضع لمتغيرين اثنين: أحدهما دولي مرتبط بأجندة النظام الدولي وتأثيراته، والثاني داخلي وطني له علاقة بالأجندة الداخلية. ويبدو أن الجمع بين هذين الملفين له تفسيرات متعددة يمكن تقديمها في أربعة محددات أساسية: التفسير الأول، يرتبط بمحاولة تجاوز الحالة السيكولوجية السياسية التي تركتها عودة أمينة حيدر والحجج التي قدمت حول هذه العودة، حيث إن الكثير من المغاربة لم يفهموا الطريقة التي أدير بها هذا الملف وسرعة وزارة الخارجية وبعض الأحزاب السياسية في إنتاج شروحات تبرر بها تغير موقفها من القضية، وبالتالي فالملفان (الجهوية والتفاوض) هما استرجاع للتوازن عبر توجيه إشارتين، إحداهما إلى القوى والمجتمع الداخلي والثانية إلى المنتظم الدولي. التفسير الثاني، ويتمثل في إعادة تثبيت قواعد اللعبة السياسية الداخلية والتحرر من حلقة مفرغة أنتجها مسلسلات المفاوضات مع البوليساريو، وتعثر هذه المفاوضات الذي بدأ ينتج ظواهر وخطابات جديدة استعملت في أسلوب الحرب الدعائية التي يقودها البوليساريو والجزائر والمبنية على توظيف ظاهرة الانفصاليين للمطالبة بمقولة «احترام حقوق الإنسان» والسعي إلى دفع مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار يدرج بند حقوق الإنسان في الصحراء. التفسير الثالث، دفع البوليساريو والجزائر إلى إنتاج مواقف أخرى وقياس سلوك القوى الدولية المرتبطة بالملف، خاصة إعادة استشراف موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسبانيا (التي دخلت مرحلة قيادة الاتحاد الأوربي). التفسير الرابع، وهو داخلي، يعيد استعمال الجهوية في المغرب للمرة الثانية بعد 1996 لاحتواء التطورات التي شهدتها الهوية المغربية بدخول فاعلين جدد إلى اللعبة السياسية (العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة)، وهم فاعلون لم يكونوا موجودين في قضية الصحراء في البداية ولا في النقاش حول الجهوية في دستور 1996). وإذا اعتبرنا أن ملف الصحراء مفتوح على المفاوضات ومتغيرات النسق الدولي، وأن إعادة الترتيب الترابي في كل دولة، حسب ما تقدمه النماذج الدولية، تستعمل فيها الجهوية كآلية للتنظيم الترابي لهدفين اثنين: أحدهما يتمثل في الاستجابة لحاجة داخلية لإعادة الترتيب الترابي والانتقال السياسي عبر إعادة التقطيع الترابي وتوزيع السلطة بطريقة عمودية، وثانيهما لتدبير نزاع معين مطروح على المنتظم الدولي. وإذا كان الأمر كذلك، دعونا نستحضر تجربة المغرب في الجهوية، بمعنى دعونا نتأمل ماهو معمول به في المغرب، أو لنقل.. لنستكشف السيكولوجية الاجتماعية للثقافة والأبحاث المتعلقة بالتنظيم الجهوي في المغرب، وهو الاستكشاف الذي يقدم أمامنا العناصر التالية: أولا، إن مصطلح الجهوية من أكثر المفاهيم استعمالا في الثقافة السياسة المغربية، يستعمله الأكاديميون (أساتذة القانون الإداري بكثرة)، ولكن بطريقة مفصولة عن السوسيولوجيا والسياسة والمجال والاقتصاد والجغرافيا والتراب، إلى درجة يمكن معها القول إنه إذا كان بعض أساتذة القانون الدستوري المغاربة قد بنوا الشرعية العلمية لحقل القانون الدستوري على مفهوم التقليدانية، فإن أساتذة القانون الإداري أسسوا الشرعية العلمية للقانون الإداري المغربي على مفهوم الجهوية واللامركزية. ثانيا، إن تعريف الجهوية، من خلال تداولها لدى الفاعلين السياسيين والأكاديميين، مفهوم غامض، فهل الجهوية هي تلك التي لها أسس مادية؟ أم تلك التي تستند إلى خصائص ومحددات اقتصادية؟ أم إنها وحدة إدارية؟ أم هي التي لها نواة في شكل مدينة تتمحور حولها؟ أم إنها مفهوم ترابي يرتكز على انتماء مجموعات بشرية إلى فضاء اجتماعي وثقافي، فضاء للعيش والتهييء ومركز للتأثير السياسي؟ هل هي عصبة أم فلسفة؟ ثالثا، يبدو أن هذا الغموض ناتج عن حضور المتغير الأمني في التحديد وليس التحليل الترابي، بمعنى الاعتماد، طيلة المراحل الماضية، بما فيها مرحلة 1996، على رؤية الأمني أكثر من رؤية السياسي أو الإداري أو الجغرافي والاقتصادي، هذا المتغير الأمني الذي نقل مظاهر السلطة المركزية كجهاز إلى الجهة كممارسة، لتعطينا ظاهرة المركزية داخل الجهة (سلطات المجالس المحلية مقابل سلطات الوالي أو العمال). رابعا،إن دستور 1996 يبدو وكأنه دستور مؤقت على مستوى تنظيمه للجهوية، فالنقاش الذي راج آنذاك (قبل وضع وثيقة 1996) يبين أن الدستور لم يصل إلى مداه وإلى الأهداف التي كانت محددة من وضعه، وهي تطعيم الجهوية بالمكونات السياسية، فالمقتضيات الدستورية انطلقت في وثيقة 1996 من افتراضات لحل نزاع سياسي، فانتهت بترتيب نظام جهوي محكوم بقواعد القانون الإداري. إن هذه العناصر جعلت الدولة في المغرب، انطلاقا من تنظيم الجهوية، لاهي بدولة مركزية ولاهي بدولة لامركزية، أضف إلى ذلك أنه تم تناول الجهات كظاهرة ثابتة غير متحركة (ظواهر تحرك السكان - الانتقال ما بين الحضري والقروي - حركة رؤوس الأموال والاستثمارات - الدينامية الاقتصادية وترتيب القطاعات...). ورغم هذا التردد التنظيمي، الذي له تفسيراته بالنموذج المركزي اليعقوبي للدولة الذي ورثه المغرب عن التجربة الفرنسية بعد الاستقلال، يبدو أن الاشتغال بالجهوية الإدارية المقيدة سمح باختبار تطورات كبرى في طريقة اشتغال الدولة وعلاقتها بالمجتمع، إذ يلاحظ أن المغرب انتقل تنظيميا، وذلك من خلال مظهرين على الأقل هما: أولا، تكريس القاعدة القانونية في العلاقات بين السلطة المركزية والمجتمع وبين مؤسسات السلطة نفسها الوطنية والمحلية، وهو ما فتح هامشا من العلاقات بين الشأن العام المحلي وبين حاجيات المواطنين محليا، بمعنى أنه وقع نوع من الابتعاد التدريجي عن المركزية في اتخاذ القرارات المحلية القطاعية. ثانيا، تم تجاوز النقاش حول التعددية، بل وقع التأسيس لبعض مكوناتها، دون أن يمس ذلك بنمط الدولة الموحدة أو ثوابتها (في اللغة والدين والسياسة). وإذا كان نقاش منتصف التسعينيات، الذي أفرز النظام الحالي للجهوية، دستوريا وسياسيا بامتياز، فإن وضع اللجنة الاستشارية المكونة سوسيولوجيا من ثلاثة أجسام: (قانونيون، تقنيون ورجال سلطة) ، يبين فصل السياسي عن فكرة الجهوية الجديدة، على الأقل على مستوى إعداد المشروع، وهنا تثار التساؤلات التالية: 1 - هل غياب السياسي عن مكونات اللجنة معناه أنها ستشتغل بعيدة عن الدستور وعن تقديم اقتراحات حول تعديل الدستور؟ 2 - ما هي الإمكانيات التي تقدمها الفكرة الدستورية والهندسة الدستورية الحالية لاشتغال اللجنة على تصور لمشروع الجهوية؟ 3 - ما هو السقف الأعلى الذي يمكن أن تقدمه الفكرة والفلسفة الدستورية المغربية لاستيعاب قواعد التمثيل والتدبير السياسي الذي يفترضه التنظيم الجهوي. ويبدو أن مسار تطور مؤسسة الدولة في المغرب يسمح حاليا ببناء حجة قائمة على القول بأن مسلسل الجهوية يأتي استجابة لعاملين متكاملين، وقع نوع من الالتقائية بينهما، وهما: أولا، الحاجة إلى إعادة توزيع السلطة من المركزي إلى المحلي لضمان توازن وظيفة الدولة، فالتجارب التنظيمية في العالم تقدم براديغمات أو نماذج إرشادية أو وصفات سياسية تنطلق من قاعدة تفترض أن كل دولة حاملة لعناصر اللامركزية وقادرة على إفراز أشكال متعددة من الحكم الترابي المحلي، ليس بالضرورة هو الإسباني أو الإيطالي، ولكن وضع تنظيم بمقتضى ضمانة دستورية مكتوبة في شكل لامركزية قادرة على نقل اتخاذ القرار في مجالات محلية وجهوية محددة ليست ذات طابع وطني مركزي. ثانيا ، إن التطور يبرز الحاجة إلى تدبير نزاع (قضية الصحراء) داخل هذا التطور المؤسساتي التنظيمي للدولة وتوضيح أن نمط الحكم الذاتي هو حل سياسي تنظيمي وتمثيلي في المناطق الصحراوية ، يأتي استجابة للتطور الترابي والتنظيمي للدولة، كما أنه مشروع أو مقترح مطروح للتفاوض حوله على المستوى الدولي. وتكمن قوة هذه الالتقائية بين الداخلي والدولي في الإمكانية التي تقدمها من خلال العمل بإيقاع سريع على توظيف حاجيات التنظيم الداخلي للدولة (مشروع الجهوية) كحجة مشروعة لتعويم أطروحات البوليساريو وآلياتها المتمثلة في انفصاليي الداخل، فالاشتغال الداخلي لبناء تنظيم جديد داخل دولة تنتقل عن طريق إعادة الترتيب الترابي يخلق تمثيليات جديدة ويعيد بناء وإدماج النخب وينزع تدريجيا الطابع الدولي عن النزاع، بل يمكن أن يعزل البوليساريو ويرسخ في المجتمع الدولي قناعة بأن البوليساريو تمثل مطالب دولة الجزائر.