«ناري أصاحبي على قرطاسة…»، هذه عبارة من بين عشرات العبارات التي أصبحت تترصد الفتيات أينما تجولن في تلاحق، تعليقات على المظهر تارة ترافقها تلميحات تارة أخرى. هكذا «استبيح» جسد المرأة في كل الفضاءات العمومية، في ظل غياب قانون يحميهن من مخالب المتربصين والمتحرشين. نظرات، تليمحات وعبارات في بعض الأحيان ماسة بالحياء، أصبحت جل الفتيات يواجهنها في طريقهن سواء في الشارع أو المدرسة أو الجامعة أو العمل في بعض الأحيان، والأسوأ من هذا، أن يزيد التحرش عن حده ويصبح اعتداء جسديا على الضحية. فلا يكاد يمر يوم إلا وتسمع أو تقرأ عن واقعة تحرش، أو أحيانا يمكنك مشاهدتها بنفسك في الشارع، أو في المواصلات، أو في العمل، أو في المدرسة أو الجامعة أو أي مصلحة حكومية. تعددت الأسباب والفعل واحد، سواء كانت الفتاة رشيقة أو بدينة، سمراء أو شقراء، متبرجة كانت أو محجبة، بل وأصبحت توظف أساليب خاصة وبشكل غير مباشر لاحتواء أية ردة فعل للأمهات المرافقات لبناتهن بقول المتحرش: «الحاجة طلبي الغلا هاد العام»، أو «الله يجيب لينا شي نسيبة نسيفطوها للحج». سيارات الأجرة.. على من يقع اللوم ؟ التقينا ب»«فدوى»»، موظفة تبلغ من العمر 30 سنة، بأحد مواقف سيارات الأجرة، تشتكي مما تتعرض له يوميا داخل سيارات الأجرة ذات الحجم الكبير من تحرشات نتيجة إتقان الجاني لعملية التظاهر بالعفوية، وتضيف «فدوى» أنه من الصعب الاحتجاج مخافة توجيه كل اللوم للمشتكية وتحميلها تهمة الافتراء على الجاني الحقيقي، وفي بعض الأحيان السخرية منها بالعبارة الشهيرة «هادا راه طاكسي كبير إلا بغيتي تمرحي شدي ليك طاكسي حمر»، ليبقى الوضع على ما هو عليه. من جهتها، تؤكد «هاجر» البالغة من العمر 25 سنة، أنها تعرضت لأكثر من مرة لمثل هذه الأفعال والتي كان أولها منذ عامين في حافلة للنقل عندما قام شاب ثلاثيني، قالت إنه همس في أذنيها، وعندما لم تعره اهتماما بدأ يتمادى بتمرير يديه على كتفيها، وعندما بدأت بالصراخ حاول الفرار. وتضيف «هاجر» أنه في المرة الثانية تعرضت لمثل ذاك التحرش، إلا أن هذه المرة كانت في سيارة أجرة، حيث جلس بجانبها شاب لاحظت أنه غريب الأطوار، بدأ يتحرش بها، فشعرت بالخوف وبدأت بالصراخ، عندها قام سائق الطاكسي بإنزاله وإشباعه ضربا. وسط عجز الفتيات عن الدفاع عن أنفسهن، وبحكم أن الفتاة في مجتمعنا غير قادرة على اللجوء إلى القانون في مثل هذه الحالات، ليس لعجز القانون عن حمايتها، وإنما بفعل بعض العوامل الاجتماعية التي تشجع هؤلاء المتحرشين على التمادي أكثر لدرجة أنهم أصبحوا لا يعيرون هذه القوانين أهمية. غرام وانتقام «حليمة» (35 سنة) أم لطفلة، تعمل سكرتيرة خاصة لمدير عام لإحدى الشركات، تحكي ل «المساء» «منذ أزيد من 5 أشهر وأنا أعيش حالة توتر وقلق دائمين بسبب تصرفات مديري الدنيئة، وبحكم أنني سكرتيرته الخاصة وأقضي عدة ساعات كل يوم في المكتب، أقضيها في التفكير في اختلاق طريقة لتجنب نظراته الوقحة، الشيء الذي أثر علي سلبا وعلى ابنتي التي لا معيل لها غيري، ولعل الحاجة للعمل ومسؤوليات العائلة هي التي تفرض على المرأة الخروج للعمل وتحمل مثل هذه الظروف». أما «وفاء» وهي امرأة متزوجة في الثلاثينات من عمرها، فتروي لنا قصتها مع مطالب رئيسها في العمل، التي بدأت منذ أربع سنوات، حيث صمدت كثيرا أمام إغراءاته، قبل أن يتحول التحرش الجنسي إلى انتقام، بعد أن فشلت كل محاولاته في الإيقاع بها من أجل الاستجابة لطلباته، مضيفة أنه «أصبح يتدخل في كل مرة من أجل حرماني من كل امتياز أو ترقية وأخذ يضغط علي من أجل دفعي إلى مغادرة العمل بعد أن يئس مني». «حليمة» و»وفاء»، من بين العديد من النساء اللواتي يتعرضن للتحرش من طرف أرباب عملهن. وفي حياتنا المعاصرة اليوم، أصبحت معاناة المرأة العاملة تزداد، سواء كانت عازبة أو متزوجة، بسبب هذه الظاهرة المتفشية، والتي تتنوع مظاهرها من تحرش شفهي بإطلاق نكات وتعليقات مشينة وتلميحات جسدية، حيث تجد المرأة نفسها بين كفي «عفريت»، الحاجة إلى العمل من جهة، ووجود بعض الرجال في محيطها الوظيفي يقفون في طريق عملها ويضغطون على أعصابها، وتقف آنذاك حائرة حول الخطوة التي يمكنها أن تتخذها من أجل الحد من هذه المشكلة، هل تترك العمل أم تشتكي وتشي بالمتحرش سواء كان مديرها أو زميلها؟ وإلى من وكيف ستثبت صحة شكواها؟ هل تستمر وتقاوم قدر الإمكان أم تستسلم؟ واقع مسكوت عنه «لم أتوقع يوما أن أتعرض لأي نوع من التحرش»، بهذه الكلمات بدأت «سلوى»، موظفة، تروي ل «المساء» معاناتها مع التحرش، «ذات يوم كنت أسير في أحد شوارع البيضاء عصرا فقام أحد الشباب بالتحرش بي بشكل أثار غضبي فقمت بملاحقته وناشدت الناس مساعدتي في القبض عليه، غير أنهم أقنعوني بأن أتوجه لقسم الشرطة لتقديم بلاغ، الأمر الذي فشلت فيه لرفض أحد عناصر الشرطة تحرير محضر لي، معللا ذلك بأن السلطات لديها قضايا أهم للتعامل معها». «رحاب»، طالبة في الجامعة (20 سنة)، كانت متوجهة في واضحة النهار إلى منزلها عائدة من الجامعة، إلى أن اقترب منها شاب على دراجة نارية في الاتجاه المعاكس لها، فأمسك بها وألقاها أرضا. لم تعرف»رحاب» إن كان سقوطها من جراء الدفعة القوية والاصطدام بالدراجة، أو بسبب اليدين الخبيثتين اللتين تحرشتا بها. بينما يروح الناس ويجيئون من حولها، اختلفت ردود أفعالهم، «مالك أبنتي»، «أشنو واقع» «واش نتي بخير»… ومن جهتها، دخلت «رحاب» منزل أهلها بملابس متسخة ووجه شاحب، واكتفت بإخبارهم بأن دراجة نارية صدمتها ووقعت أرضا، لأنها لم تجرؤ على مصارحة عائلتها بما وقع. فلم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها «رحاب» لمثل هذا التحرش في الشارع. وتروي «أسماء» وهي طالبة في السنة الثانية بكلية الحقوق ل»المساء»، أنها بدورها لم تسلم من التحرش، وأن أي رد فعل منها عليه يكلفها الكثير، إذ تقول: «يستخدم الشباب في بعض الأحيان كلمات لا يجرؤ أحد على التفوه بها، وإذا دافعت الفتاة عن نفسها فقد يكون مصيرها الدخول في دوامة من المشادات الكلامية التي قد لا تنتهي». ولهذا فهي تعتبر الأمر انتهاكا لحرية الآخرين في العيش بسلام، وتقول: «حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين»، وهذا ما يتجاهله بعض الشباب الذين يظنون أن لا حدود لحريتهم. لا يخلو الشارع المغربي من حوادث التحرش الجنسي سواء الفردية أوالجماعية، فكل يوم تواجه المرأة المغربية شتى أنواع التحرش، ولسوء الحظ فإنه أصبح جزءا من حياتها، حيث تضطر إلى التكيف معه، إما عن طريق الصمت أو عن طريق الصراخ في وجه المتحرشين. التحرش والقانون يأتي حديثنا عن التحرش الجنسي، في وقت لازالت فيه الحكومة تناقش قانونا اقترحته وزارة التضامن والمرأة والتنمية الاجتماعية، بتعاون مع وزارة العدل، يمنع التحرش في الشارع وفي الأماكن العامة وفي العمل، حيث أصبح جريمة يعاقب عليها القانون بأقصى العقوبات التي تصل إلى أربع سنوات وغرامة تصل إلى عشرة آلاف درهم. ووفقا للإحصائيات الرسمية، فإن حوالي 62 بالمائة من النساء المغربيات اللواتي تتراوح أعمارهم بين 14 و65 سنة يتعرضن لشتى أنواع التحرش الجنسي وللعنف. ويعاقب القانون على كل فعل مزعج في الفضاءات العمومية، من خلال أفعال أو ألفاظ أو إيحاءات جنسية، من أجل الحصول على فعل ذي طبيعة جنسية، بعقوبات سجنية تتراوح بين شهرين وعامين وبغرامة مالية تصل إلى ثلاثة آلاف درهم. وفيما يخص التسجيل الصوتي أو التقاط صور مخلة بالآداب ونشرها بهدف التشهير والقذف، سواء كان الفاعل رجلا أو امرأة، فهي أفعال يعاقب عليها القانون الجنائي بالسجن من سنة إلى سنتين وبغرامة تتراوح بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف درهم. وفي مسألة إثبات أو ارتكاب التحرش، تحتاج المحكمة إلى قرائن تستند إليها من قبل شهود أو صور أو مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية، وبالرغم من تنصيص القانون وتشديده على العقوبات التي تؤدي إلى السجن لفترة تتراوح بين شهرين وأربع سنوات، إلا أن القاضي له السلطة الكاملة في إصدار هذه العقوبة. مشروع القانون الجديد سيؤدي وظيفة ردعية وزجرية إضافة إلى وَظيفَته التربوية والبيداغوجية – هل يمكن الحديث عن التحرش كظاهرة في المغرب؟ التحرش الجنسي في المغرب ليس ظاهرة فقط، بل هو ممارسة يومية استفحلت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وذلك راجع إلى عدة أسباب اجتماعية وتربوية واقتصادية، كما انتشر التحرش الجنسي بشكل لافت داخل الفضاءات العامة وبالجامعات وحتى بمقرات العمل. ونشير في هذا الصدد إلى تقارير بعض المنظمات الحقوقية والهيئات الحكومية الوطنية التي تؤكد تزايد حالات التحرش الجنسي داخل الإدارات والمقاولات والجامعات. فقد أصبح التحرش الجنسي بالشارع العام المغربي ظاهرة مزعجة شبيهة بما يقع بمصر، التي يوجد بها أكثر المحجبات في العالم العربي، إذ بلغت نسبة التحرش الجنسي ضد هذه الفئة بهذا البلد حوالي 72 في المائة، عكس الأردن مثلا التي يغيب فيها هذا النوع من التحرش، وذلك بغض النظر عن نوعية لباس المرأة أو الفتاة. فالتحرش أصبح كابوسا يؤرق المغربيات المحجبات منهن وغير المحجبات. فالتحرش الجنسي، إذن، لا يتعلق باللباس بقدر ما هو ناتج عن علاقات اجتماعية وموروث ثقافي، الذي يمنح سلطة ذكورية للرجل تجعله ينظر إلى المرأة كبضاعة وليس كإنسان. ومما يؤسف له أن التحرش الجنسي دفع العديد من العائلات إلى منع بناتها من التمدرس، وإلى انقطاع بعض النساء عن العمل بسبب عدم قدرتهن على مواجهة فعل التحرش – هل الرجل وحده مسؤول عن تفشي التحرش الجنسي في كل الأوساط، سواء في العمل أو الشارع أو المقاهي أو الفضاءات العامة، أم أن المرأة أيضا لها نصيب من المسؤولية حول هذا الأمر؟ هناك من يدعي أن النساء هن اللواتي يتحرشن بالرجال أكثر مما يفعل الرجال، بمبرر ارتداء المرأة لباساً متحررا أو عاريا يستفز الذكور ويجعلهم خاضعين للإغراء. لكن إذا رجعنا إلى جميع الإحصاءات الوطنية والدولية، فإنها تؤكد بأن النساء هن اللواتي يُتحرش بهن. فالرجال يتحملون المسؤولية عن أفعال التحرش الجنسي، لأن نوعية لباس المرأة تبقى في إطار الحريات الشخصية. – ما هي حدود التحرش الجنسي ومتى يتحول إلى اعتداء وعنف ممارس وهل يدخل الغزل والمعاكسة بدورهما في خانة التحرش؟ التحرش الجنسي يتخذ شكل أقوال وتعابير وإيماءات وإشارات، كما يأخذ أشكالا لفظية لا تقل إيذاء عن الأفعال، عبر التفوّه بعبارات نابية أو إباحية ذات دلالات جنسية، التي تتغزل في جسد الأنثى، أو عن طريق اللمس أو الاحتكاك في وسائل المواصلات العامة. كما تزداد ظاهرة التحرش الجنسي خلال موسم الصيف أثناء الأفراح والمهرجانات والشواطئ. فهذه الظاهرة الخطيرة تهدد تماسك وتوازن أي مجتمع، وتعتبر العائق الأول الذي تواجهه المرأة أو الفتاة المغربية، فبعد أن كان التحرش مقتصرا على أماكن العمل، اتسع نطاقه وأصبح يطارد الأنثى أينما حلت، حتى في الشارع العام. وأصبح التحرش أيضا يقف في وجه طموح الكثيرات من النساء ويعرقل مسيرتهن المهنية، بل ويهدد حياتهن الخاصة والاجتماعية. – لماذا يفلت أغلب الرجال من العقاب على جريمة التحرش ؟ يصعب على الكثير من النساء إثبات فعل التحرش الجنسي بالأدلة والوقائع ضد الرجال، الذين غالبا ما يفلتون من قبضة العدالة، وفقا لمقتضيات القانون الجنائي الحالي، لهذا تفضل أغلب النساء التحاف الصمت عوض مواجهة هذا المشكل خوفا من الفضيحة وتبعاتها في المجتمع. ونشير في هذا الصدد إلى أن هناك مشروع قانون جديد يتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، يسعى إلى حماية المرأة من العنف الذي يطالها ويمس كرامتها وسلامتها الجسدية، والذي ننتظر أن يصادق عليه البرلمان. وهذا المشروع سيؤدي وظيفة ردعية وزجرية، إضافة إلى وَظيفَته التربوية والبيداغوجية، حيث جرم القانون مسألة التحرش الجنسي بنصوص صريحة، على خلاف ما هو منصوص عليه في القانون الجنائي الحالي، حيث تُضاعَف العقوبات بالنسبة لرجال الأمن وزملاء العمل والأقارب.