تثير الملاحظات التي قدمها الأستاذ المنار اسليمي حول تقرير الحالة الدينية نقاشا جديا حول التقرير، وتساهم بدرجة مقدرة في نقل النقاش حول الإشكالات المنهجية للتعاطي مع هذا الموضوع من مرحلة الانفعال التبسيطي والاختزالي إلى مرحلة التعاطي المعمق والمركب، وتستجيب لحاجة ملحة إلى ضرورة تكريس تقاليد النقد العلمي كمدخل للنهوض بالبحث في العلوم الاجتماعية. وتعد هذه المقالة، التي سبق تقديمها في لقاء علمي لشعبة القانون العام والعلوم السياسية بتنسيق مع المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة الأسبوع الماضي، مناسبة للتفاعل مع عدد من الإشكالات التي طرحت في مقالات وحوارات سابقة من قبل عدد من الباحثين وتفرض بالتالي المدارسة والتفاعل البناء. وبالرغم من التقييم الإيجابي لجوانب من تقرير الحالة الدينية لمقالة المنار اسليمي المعنونة ب«هل يعيش المغرب صحوة دينية؟» والتي نشرت في يومية «المساء» في عددها ل28 دجنبر 2009، فإن ذلك لم يمنع الكاتب من تقديم ملاحظاته بصرامة واضحة، تنسجم ومقتضيات النقد والبحث وهي المنهجية التي اعتمدتها هذه المقالة في مناقشة الملاحظات السبع. أولا، ثمة حاجة إلى التمييز المنهجي بين الدراسات الكمية والدراسات الكيفية في العلوم الاجتماعية، وعدم الانتباه إلى الفرق بينهما ينتج في بعض الأحيان أحكاما متسرعة، ومن ذلك الملاحظة التي طرحتها المقالة حول عدم اعتماد تقرير الحالة الدينية على عينة وطنية لدراستها مكتفيا بنتائج خمس دراسات سوسيولوجية، مما أنتج إشكالية مرجعية للتقرير ويفسر بحسب المقالة مشكل الهوية في صياغة التقرير وهندسة أجزائه. والواقع أن تقرير الحالة الدينية اعتمد منهج دراسة الحالة، والذي هو «منهج كيفي» على خلاف منهج البحث الذي يعتمد العينة لاستخلاص التوجهات والمواقف والذي هو «منهج كمي». وبحسب الخطاطة التي وردت في مقدمة التقرير، فإن منهج دراسة الحالة يفرض على المشتغلين به العودة إلى نتائج الدراسات الكمية التي صدرت في الموضوع المدروس، وهو ما احترمه التقرير. وللأسف، فإن عدم التمييز بين الأمرين أنتج خلطا عند كثيرين في تصريحات صحفية سابقة حول تقرير الحالة الدينية. ثانيا، إن تقرير الحالة الدينية قدم تركيبا لنتائج الدراسات السوسيولوجية الخمس التي أنتجت في الفترة المبحوثة أو قبلها بسنة أو سنتين من أجل رصد معالم التطور والتغير، واعتماده عليها شكل المتن الأساسي لمحور التوجهات الدينية عند المغاربة، والدقة العلمية تفرض عدم اختزال تقرير الحالة الدينية في ذلك كما جاء في مقدمة مقالة «هل يعيش المغرب صحوة دينية؟»، فهذا المحور تلته خمسة محاور، هي: محور تجليات التدين، والفاعلين في الحالة الدينية، وتحديات التدين، وتفاعلات الديني والسياسي، ثم المحور الخاص باليهود المغاربة، بمعنى أن القيمة المضافة إلى تقرير الحالة الدينية هي ربطه بين نتائج تلك الدراسات القائمة على استجواب عينة من المغاربة لا تتجاوز في أحسن الحالات 1500 فرد وبين الوقائع الموضوعية القائمة على المعطيات المادية للتدين، سواء في أبعاده الإيجابية أو السلبية، مما يوفر أرضية لتقييم مدى علمية النتائج المتوصل إليها من جهة، ويتيح فرز إشكالات جديدة للبحث الاجتماعي من جهة أخرى. ثالثا، إن المرحلة الزمنية التي اشتغل عليها التقرير هي فترة 2007- 2008، وهي الفترة التي حرص التقرير على الانضباط لها وشكلت المرجع في عرض المؤشرات الخاصة بالحالة الدينية إلا استثناء عندما تفرض بعض التطورات التعرض لبدايات بعض الأحداث من أجل فهم تطورها الدال في سنتي 2007 و2008 من مثل دور المحسنين في بناء المساجد والذي ارتفع متجاوزا مساهمة الدولة، حيث كان من اللازم استحضار التراجع الذي وقع في هذا الدور في سنتي 2003 و2004. ولهذا وتجنبا للسقوط في الانغلاق الزمني على فترة محددة بما يعوق القدرة على استثمار الوقائع المجمعة في مقولات تفسيرية، فإن تقرير الحالة الدينية وجد نفسه ملزما عند الضرورة بتجاوز تلك المرحلة، وهو ما لا يعني أن معدي التقرير كانوا موفقين في احترام هذا المقتضى في كل الفقرات. أما عن مبررات اختيار تلك الفترة للبدء بالاشتغال عليها في إنتاج تقرير الحالة الدينية، فإن الانتقاد الذي طرحته مقالة المنار اسليمي من أن تلك السنة كانت سنة الذروة في المد الديني في العالم وأن سنة 2009 كانت سنة السكون، مما يعني أن نتائج تقرير الحالة الدينية نتائج مطبوعة بتلك الظرفية وينبغي عدم تعميمها على السنوات التي تلتها، هو انتقاد مردود لسبب بسيط هو أن تقرير الحالة الدينية ل2007-2008 ليس سوى الإصدار الأول وستتلوه إن شاء الله إصدارات لاحقة خاصة بالسنوات القادمة. وكان من الضروري أن يتم البدء بفترة مرجعية بالنسبة إلى التقارير اللاحقة. وأعتبر أن من إيجابيات الانطلاق من 2007-2008 أنها شكلت فترة خاصة من حيث تراكم الوقائع التي يندر أن تتجمع في سنوات أخرى. وأذكر هنا مثالين، فهي من ناحية شكلت فترة مرور خمس سنوات على انطلاق المسار الجديد لهيكلة الحقل الديني، مما أتاح من ناحية الوقوف على مدى استقرار وفعالية هذا المسار وعلى متابعة التطورات الكبيرة التي عرفها من مثل إطلاق ميثاق العلماء أو تنظيم ملتقى سيدي شيكر للزوايا، بمعنى أن تلك الفترة شهدت تكثيفا في المبادرات الدينية المؤسساتية، ومن ناحية أخرى فهي فترة الانتخابات التشريعية والمؤتمرات الحزبية وانطلاق الحكومة الجديدة مما يساعد على امتلاك مرجعية في رصد تفاعلات السياسي والديني. وهذه فقط مجرد أمثلة عن عدد من الحيثيات التي وردت في مقدمة التقرير تحت فقرة: لماذا هذا التقرير؟ رابعا، على المستوى المفاهيمي، انطلق تقرير الحالة الدينية من تحديد دقيق لأربعة مفاهيم هي: الدين، والتدين، والقيم، والفاعل الديني، حيث تم تحديد مضامينها والعلاقات القائمة بينها. وبعد إعمال منهج دراسة الحالة على تلك المفاهيم، تم استخلاص وحدات الرصد الأساسية التي انبثقت منها المؤشرات. هذه الأخيرة هي التي شكلت شبكة رصد تطورات ووقائع الحالة الدينية وتجاوزت المائة مؤشر، والتي عرضتها مقدمة التقرير كما هو مبين في الصفحات من 13 إلى 25. لقد شكلت هذه المفاهيم الأربعة الناظم المؤطر لمداخل رصد الحالة الدينية. وقد قدم التقرير المراجع الأساسية التي اعتمد عليها في تحديد تلك المفاهيم سواء من داخل حقل العلوم الشرعية، ك«تفسير التحرير والتنوير» للطاهر بن عاشور، أو من داخل حقل العلوم الاجتماعية، ككتاب «نحو نظرية عامة للفعل الاجتماعي» لتالكوت بارسونز، فضلا عن عودته إلى نظريات اجتماعية كثيرة في تحديده لمفهوم القيم (ص 16). ولهذا كان من الغريب أن تتسرع المقالة النقدية في القول بأن التقرير أعد بدون شبكة مفاهيمية دقيقة، ولاسيما أن المقالة نفسها تتحدث عن استعمال التقرير ل«مفهوم الدين بطريقة عقدية ومعرفية وسلوكية وقيمية»، بمعنى أن القول بوجود غياب تحديد دقيق للمفاهيم حكم غير دقيق. وأعتبر أن السبب في هذا التسرع هو أن الكاتب كان ينتظر شبكة لتحليل الحالة الدينية، وهو الأمر الذي أعلن التقرير منذ البداية عدم انخراطه فيه لأنه يقدم عملا من منظور وصفي تركيبي وليس عملا تحليليا ينزلق نحو متاهات التأويل، فهذه مرحلة لاحقة على مرحلة تجميع الوقائع مما أشاد به المنار اسليمي في مقدمة مقالته. وهذا لا يمنع من الإشارة إلى أن تقرير الحالة الدينية تجاوز المستوى الوصفي عندما تعرض للفاعلين الدينيين اشتغل بالمنهج النسقي من أجل الربط بين المبادرات الصادرة عنهم باعتبارها مخرجات وبين المدخلات والتحديات التي عملوا على الاستجابة لها من خلال تلك المخرجات، وهذا التحديد أعلنه تقرير الحالة الدينية في المقدمة بوضوح وصراحة. في نفس السياق، نجد أن الملاحظة الخاصة بالفاعل الديني وكذا الحركة الدينية غير دقيقة، فالتقرير (ص18) وضع تمييزا يقوم على أن الفاعل الديني هو من يضطلع بالوظائف الدينية المؤسساتية أو المدنية أو يؤثر بشكل مباشر في أدائها وفعاليتها. وانطلق في تحديد ذلك من كل من ابن خلدون في حديثه عن الولايات الدينية وتالكوت بارسونز في تحديده للمقصود بالفاعل الاجتماعي، أما الفاعل السياسي فقد عده غير مباشر في حالة اشتغاله على السياسات العمومية المتعلقة بالمجال الديني، ولهذا خصص لهذا الأخير محورا مطولا ضمن تفاعلات الديني والسياسي. وبخصوص الحركة الدينية، فهي جزء من مكونات الحالة الدينية ويمثل التفاعل بين مجموع المكونات تعبيرا عن الحركية الداخلية لهذه الحالة. ويمكن هنا العودة إلى نظريات «الفعل الجماعي»، خاصة في تطبيقاتها على الحركات الدينية والتي تتجاوز أن تقتصر على الحركات الإسلامية لتشمل حركات التشيع والتنصير وغيرها.