قبل بضعة أشهر، تناقلت وسال الإعلام الأمريكية خبرا يقول إن طفلة أمريكية أجبرت الرئيس باراك أوباما على قطع أزيد من ألفي كيلومتر على متن طائرته الرئاسية الخاصة من أجل مقابلتها في بلدتها الصغيرة. الطفلة، التي يبدو أنها معجبة جدا برئيسها، أرسلت إليه رسالة تعاتبه لأنه زار كل الولاياتالأمريكية الخمسين ونسي بلدتها المعزولة التي مرَّ قربها ولم يدخلها، فما كان من الرئيس الأمريكي، الذي يبدو أنه يتوفر على قلب هش، إلا أن استقل طائرته وقضى ساعات طويلة يحلق إلى أن وصل إلى بلدة الطفلة والتقى بها رفقة والديها وتجاذب معها أطراف حديث جميل والتقط معها صورا وتركها سعيدة جدا ثم رحل. تبدو هذه حكاية رومانسية يختلط فيها الإنساني بالسياسي والعفوي بالمتصنع، لكنها حكاية تدل، عموما، على أن حكام الدول العظمى يظلون ملتصقين بمواطنيهم، حتى لو كان ذلك من أجل البهرجة الإعلامية، لكنهم يفعلونه في كل الأحوال. لننتقل الآن إلى الحكاية الثانية، وهي ليست رومانسية بالمَرَّة، بل حزينة جدا إلى درجة الألم؛ فقبل بضعة أشهر كتبت طفلة مغربية تسمى هاجر الدّبْدي فريشي، وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، رسالة إلى رئيس الحكومة المغربية، عبد الإله بنكيران، تدعو له بالتوفيق لأنها تحبه؛ وبما أنها تحبه فإنها تريد منه أن يحبها أيضا، ليس أن يحبها هي بالضبط، بل أن يحب البلاد عموما ويعمل على تطبيق القانون على الكبار والصغار والأقوياء والضعفاء؛ لكن بما أن القانون لا يطبق سوى على الصغار، فقد جرى ما جرى لعائلة هاجر، والتي كانت لها أخت تقاربها سنا، قبل أن تعجن شاحنة عملاقة جسدها الصغير في قلب ساحة المدرسة التي كانت تدرس بها، وتلك حكاية ما بعدها حكاية. هاجر تنتمي إلى قرية صغيرة في منطقة «ثلاثاء تغرامت» بعمالة فحص أنجرة، ما بين طنجة وتطوان، والناس في هذه المنطقة يؤمنون بالقيامة والحساب والعقاب، لكنهم كانوا يتوقعون أن يوم القيامة يحدث بعد الموت، إلا أنهم فوجئوا بأن القيامة في منطقتهم جاءت قبل الأوان، وأن من يحاسبهم ويعاقبهم ليس هو رب الأرباب الذي في السماء، بل هم أرباب مقالع الحجارة في المنطقة، وهي مقالع قضت على الحرث والنسل، ولوثت الماء والهواء وقتلت النحل والطير والشجر، والأكثر من كل هذا أنها قضت على أرواح كثيرة، من بينها أخت الطفلة هاجر. الرسالة الكاملة التي بعثتها هذه الطفلة موجودة في هذا العدد الذي بين أيديكم، ومعها بعض من صور تلك الفظاعات التي بسببها كتبت هاجر رسالتها إلى الرجل الثاني في البلاد (أنظر ص21).. إنها صور قد لا يصدق كثيرون أنها لاتزال تحدث في هذا البلد العجيب، صور شاحنات المقالع وهي تزرع الموت والرعب في كل مكان للسكان البسطاء، لكنها تجني الأموال الوفيرة لوحوش المقالع الذين يأخذون كل شيء ولا يتركون وراءهم غير الموت والآلام. في منطقة هاجر، تم إنشاء الميناء الكبير الذي يسمى ميناء طنجة المتوسط، وهو ميناء يتم التهليل له كمعجزة، لكن دائما خلف المعجزات الاصطناعية يوجد الخراب، وهذا بالضبط ما حدث هناك. في منطقة الطفلة هاجر، لم يعد الناس يربون أبقارا وماشية لأن العشب تسمم بغبار المقالع، وكثير من الأراضي لم تعد تنبت شيئا، ولم يعد الناس يربون نحلا لأنه أُبيد بسبب الغبار والضجيج، والطيور النادرة في المنطقة نفقت أو هاجرت، والمياه الجوفية تلوثت وتسممت حتى أصيب الناس بأمراض جلدية مخيفة ونادرة، والحقول التي كانت تنتج طماطمَ ونعناعا وبصلا وقمحا وفواكه صارت مجرد يباب أصفر… وأشياء كثيرة أخرى. فوق كل هذا، فإن أصحاب المقالع هناك يتصرفون بعقلية مافيوزية محضة، وهذا الوصف استخدمه قياديون في حزب «العدالة والتنمية» أنفسهم، وإذا كان بنكيران يملك بعض الصبر والوقت فليتصل بوزيره محمد نجيب بوليف، ويسأله عن ذلك اليوم الذي كان الوزير يزور فيه منطقة المقالع رفقة وفد برلماني، وكيف زرعت لهم مافيا المقالع مسامير تحت الطريق حتى تتعطل سياراتهم ولا يصلون إلى المقالع. يومها، وصف بوليف ومن معه أصحاب المقالع بالمافيوزيين. أوباما قطع ألفي كيلومتر بعد أن توصل برسالة قصيرة بها رسم لقلب بالأحمر، وبنكيران لم يتحرك لقطع مائتي كيلومتر، هي كل المسافة الفاصلة بين الرباط وقرية الطفلة هاجر، رغم أنها أرسلت إليه قلبها الصغير كله وهو يخفق هلعا بالموت المحيق بالناس في المنطقة. هل يفعلها بنكيران ويزور الطفلة المكلومة ومعها عشرات الآلاف من السكان المفجوعين في حياتهم اليومية وفي مورد رزقهم وفي أراضيهم وحاضرهم ومستقبلهم بسبب مقالع الدمار؟ الخصوصية المغربية تقول إن المغرب لا يشبه أمريكا، والرباط لا تشبه واشنطن، وأوباما مجرد رئيس بسيط منتخب في دولة عادية اسمها أمريكا، بينما بنكيران هو رئيس حكومة لا يشق له غبار في أجمل بلد في العالم.. لهذه الأسباب لا تتوقعوا أن يفعلها بنكيران كما فعلها أوباما! أما الطفلة هاجر.. فيجب أن تتعود على النوم باكرا حتى يتسع لها الوقت وتحلم بأنها فتاة أمريكية زارها أوباما.. لكن بما أن الأحلام يمكن تعديلها، فيمكن لهاجر أن تبقى في الحلم مغربية، لكن الذي سيزورها في الحلم هو أوباما وليس بنكيران!