بتعليمات من جلالة الملك: تمديد مدة صرف المساعدات الاستعجالية للمتضررين من زلزال الحوز ل5 أشهر إضافية من أجل إكمال إصلاح مساكنهم    نقابة مغربية تتضامن مع عمال فلسطين    الدفاع الجديدي يهزم الجيش بهدف نظيف    تعنت نظام الكبرانات.. احتجاز فريق مغربي بمطار جزائري ليلة كاملة ومنعهم دخول البلاد    نائلة التازي: الصناعات الثقافية و الإبداعية رهان لخلق فرص الشغل    ملكة هولندا "ماكسيما" تفتتح معرضاً حول "الموضة المغربية" في أوتريخت    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    انخفاض جديد في أسعار الغازوال والبنزين بمحطات الوقود    السياحة المغربية: رافعة أساسية للتشغيل، لكن هناك حاجة ملحة لتعبئة أكبر لجميع المناطق    طقس الخميس .. امطار بالشمال الغربي ورياح قوية بالواجهة المتوسطية    في العروق: عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    الرئيس الإيراني يتعهد ب"رد أقسى" في حال ردت إسرائيل على الهجوم الصاروخي    مواجهة أفريقيا الوسطى.. منتخب الأسود يقيم في مدينة السعيدية        عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري البريطاني لمناقشة تعزيز التعاون الأمني    بلينكن يجدد دعم بلاده لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء        أساتذة الطب والصيدلة يتضامنون مع الطلبة ويطالبون ب"نزع فتيل الأزمة"    "حزب الله" يعلن تدمير 3 دبابات إسرائيلية    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ثمانية من جنوده في معارك مع حزب الله بجنوب لبنان    الودائع لدى البنوك تتجاوز 1.200 مليار درهم    القاهرة.. الجواهري يستعرض التجربة المغربية في مجال دور المصارف المركزية في التعامل مع قضايا التغير المناخي    دريانكور: الجزائر تنسى اتفاق الحدود مع المغرب .. والنظام يعاني من العزلة    إحباط عملية للتهريب الدولي لشحنة من الكوكايين بمعبر الكركرات    التحريض على الهجرة إلى سبتة يقود 52 شخصا إلى الحبس لعدة أشهر    الإحصاء العام للسكان والسكنى 2024: انتهاء مرحلة تجميع المعطيات من لدن الأسر    الدنمارك: انفجار قنبلتين قرب سفارة إسرائيل    فيلم…"الجميع يحب تودا" لنبيل عيوش يتوج بجائزتين    اعتداء جنسي على قاصر أجنبية بأكادير    الصويرة بعيون جريدة إسبانية    بسبب "عدم إدانته" لهجوم إيران.. إسرائيل تعلن غوتيريش "شخصا غير مرغوب فيه"    لقجع: "سننظم كأس العالم لكرة القدم داخل القاعة 2028 وسنفوز بها على أراضينا"    نزاع يؤدي إلى طعن النائب البرلماني عزيز اللبار ومدير الفندق    إيران تقصف إسرائيل وتهدد باستهداف "كل البنى التحتية" لها    وفاة شاب في الأربعينات متأثراً بجروح خطيرة في طنجة    الولايات المتحدة تثمن الدور الحيوي الذي يضطلع به جلالة الملك في تعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط    لهذا السبب تراجعت أسعار الدواجن !    ابتداء من 149 درهما .. رحلات جوية صوب وجهات اوروبية انطلاقا من طنجة    الجديدة: سربة المقدم 'بنخدة' تتصدر ترتيب اليوم الأول للجائزة الكبرى للملك محمد السادس للتبوريدة    الولايات المتحدة تعيد التأكيد على دعمها للمبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء كحل جاد وموثوق وواقعي    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    كوت ديفوار تنفي اتهامات بوركينا فاسو لها..    أبطال أوروبا.. أرسنال يحسم القمة أمام سان جرمان وإنتصارات عريضة للفرق الكبيرة    الاعلان عن موسم أصيلة الثقافي الدولي 45 بمشاركة 300 من رجال السياسة والفكر والادب والاعلام والفن    احتفاء بذكرى المسيرة الخضراء.. الداخلة تستعد لاحتضان حدث رياضي دولي في المواي طاي        ألمانيا تشيد بالروابط "الاستثنائية" مع المغرب    السيد: مستشرقون دافعوا عن "الجهاد العثماني" لصالح الإمبراطورية الألمانية    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    "أنين صامت" ينافس في مهرجان دولي    رجل يشتري غيتاراً من توقيع تايلور سويفت في مزاد… ثم يحطّمه    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    جدري القردة يجتاح 15 دولة إفريقية.. 6603 إصابات و32 وفاة    تناول الكافيين باعتدال يحد من خطر الأمراض القلبية الاستقلابية المتعددة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقالع فحص أنجرة .. ملايير يجنيها أباطرة ومآس تحصد حياة البؤساء
الحقول بارت والمياه تسممت والمواشي نفقت والعشرات دهستهم الشاحنات وصمت مريب للسلطات
نشر في المساء يوم 02 - 03 - 2012

الحقول بارت والمياه تسممت والمواشي نفقت والعشرات دهستهم الشاحنات.. وصمت مريب للسلطات.. ومنتخبون يطبّقون نظرية
«الصمت حكمة».. مقالع فحص أنجرة في جهة طنجة تطوان: ملايير يجنيها أباطرة اقتصاد الريع ومآسٍ تحصد حياة البؤساء. هل يمكن أن يحدث كل هذا أمام عيون الجميع ويصمت الجميع؟ نعم ممكن، فالمقالع المتناسلة في المنطقة الفاصلة بين طنجة وتطوان تعطي الدليل على أن هناك غيابا مطلقا للقانون، والمآسي الاجتماعية والصحية والمادية التي نشرتها بين السكان تشي بأن اقتصاد الريع صارت له أجنحة ولا أحد يستطيع الإمساك به. في هذا الربروتاج تحدث البسطاء وفضّل الآخرون التزام الصمت. المسألة واضحة، فالفساد لا يمكن أن يفضح نفسه، تماما مثل الأفعى التي لا يمكنها أن تلدغ نفسها..
الطريق من منطقة القصر الصغير نحو المقالع مفروشة بالبياض، لكنه ليس بياض الثلج، بل بياض الغبار، ذلك الذي يسميه السكان سما زعافا لأنه قضى على كل أحلامهم في العيش، والذي جعل أشجار التين عاقرا والأبقار تدر أقل قدر من الحليب والأطفال يرون بربع طاقة عيونهم.. باختصار، إنه الغبار الذي حوّلَ حياة السكان إلى جحيم، جحيم حقيقي وليس مجرد استعارة لغوية.
على طول الطريق ما بين القصر الصغير، في عمالة فحص أنجرة، وما بين بلدة «ثلاثاء تاغرامت»، مركز المقالع والمشاكل، هناك مشاكل تقترب من الألم وآلام تقترب من الموت العلني وفضائح كثيرة بالجملة..
هذه الطريق تعبرها مئات الشاحنات يوميا، وهي شاحنات عملاقة تحمل كل واحدة منها عشرات الأطنان من حجارة المقالع، وكلها تمر عبر مئات الحقول والأشجار والأغراس والمنازل وتمر قرب آلاف السكان، الذين صاروا يرددون عبارة واحدة: اللهم إن هذا منكر.. ألا يرى العالم مأساتنا؟
التين والزيتون.. والشاحنات
الحقول المحيطة بالطريق لم تعد حقولا، بل أكواما من الغبار، ويكفي أن تحرك العشب حتى يطير منه غبار شبيه بالدقيق. إنه الغبار الذي يقضي على كل شيء، وكأن الأمر يتعلق ب«تشيرنوبيل» حقيقية، تشيرنويل على الطريقة المغربية.
في أيام الشتاء، يقل هذا الغبار نوعا ما، يقول السكان، لكن الضجيج لا يقل واضطراب النوم يستمر وهلع الأطفال لا يتوقف، من فرط هدير الشاحنات، التي تبدأ في التحرك منذ الفجر.
أحمد الضراوي، رجل عاش في بلجيكا منذ سنة 1947، ثم قرر العودة إلى مسقط رأسه سنة 2000 للاستثمار في المجال الفلاحي. أنشأ ضيعة صغيرة، بأبقار وماشية وأشجار الزيتون والفاكهة وحقول صغيرة لخضر، وقرر أن يعيش تقاعده بالطريقة التي يحلم بها، لكن ليس كل الأحلام تتحقق، لأنه بعد بضع سنوات فقط من ذلك، بدأت حمى المقالع في المنطقة.
«انظُرْ إلى هذه الشجرة»، يشير الرجل إلى شجرة زيتون، ويردف: «كانت هذه الشجرة تمنحني أزيد من 300 كيلوغرام من الزيتون كل عام، اليوم لا آخذ منها شيئا، لأن غبار الشاحنات أهلك كل شيء».
كانت عند الضراوي العشرات من رؤوس الأبقار، التي كانت تدر الكثير من الحليب، واليوم لديه 13 بقرة، بلا حليب تقريبا، والحليب القليل الذي تدره غريب اللون والرائحة، ويمكن أن يكون ملوثا..
يوميا، يصعد هذا المهاجر السابق إلى سطح منزله المتواضع ويمسك أنبوب الماء ويبدأ في غسل الأشجار والحقول لطرد الغبار.. إنها محاولة يائسة للإبقاء على مورد العيش. حتى النعناع يضطر لإبقائه في الماء ليلة كاملة، حتى يزول عنه الغبار. يا لها من حياة.
يقول الضراوي إنه أرسل عشرات الشكاوى إلى كل الجهات، إلى قايد فرسيوة، قرب القصر الصغير وإلى قايد جماعة قصر المجاز وإلى الدرك الملكي وإلى عمالة فحص أنجرة وإلى جهات كثيرة أخرى، لكنْ بلا جدوى.
السكان، ومنذ أن وُجِدوا هنا، كانوا يعتبرون الفلاحة وتربية المواشي أساس معيشتهم. اليوم تلوثت الحقول وصارت المواشي تموت بلا سبب، أي بلا سبب «رسمي» حتى الآن، وكثير من الأبقار صارت عاقرا بسبب الشاحنات وتلويثها والضجيج المرعب الذي تصدره. «قبل أيام، يقول الرجل، أسقطت إحدى بقراتي جنينا ميتا بعد أن كانت على وشك الولادة، فهذه الشاحنات لم تترك لنا طعما للحياة، ولا أحد يلتفت إلينا، لا أحد على الإطلاق، بل إننا نتعرض للضرب والتنكيل حين نطالب بحقوقنا، ويأتي رجال الدرك إلى هنا ليس لدعمنا، بل لضربنا».. يقول شاب من منطقة قريبة من قرية بوعبّاد.
الحسن الهيشو رجل من مدشر «واد العلاق» في قيادة تغرامت، كان يتوفر على 120 رأسا من البقر و200 رأس من الغنم و30 ألف دجاجة، إضافة إلى 1000 شجرة من جميع أنواع الفواكه والزيتون، كما كان يملك محلات تجارية ومطعما، لكنه اليوم اضطر لإقفال محلاته التجارية وصار عدد الأبقار 40 فقط والماشية أقل من النصف، أما الدجاج فإنه يضطر لشراء ما يزيد على خمسة ملايين سنتيم من الأدوية لعلاجه، وأشجار الفواكه «بارت» تماما..
ولكن أين الدرك؟
لدى الدرك، في قيادته الجهوية في طنجة، على خلية خاصة للبيئة، وهذا الخطر الداهم المخيّم المنطقة يراه الجميع، لكن تقارير الدرك لا ترى الكثير منه.
اتصلت «المساء» بخلية البيئة بالقيادة الجهوية للدرك في طنجة وسألت عما تفعله هذه المصلحة في المنطقة، فكان جواب مسؤول في القيادة بأن الهاتف لا يكفي للحديث وأن الأمر يتطلب الحضور شخصيا إلى مقر الدرك، لكن ذلك لم يتم، والدرك لم يتصل، وكل الاتصالات الهاتفية التي أجرتها «المساء» مع مصلحة الدرك بعد ذلك لم تُؤت نتيجة. كانوا يعدون بمعاودة الاتصال، لكنهم لا يتصلون. ربما يطبقون نظرية «كم حاجة قضيناها بتركها»..
لكن سكان المنطقة لا يقضون حوائجهم بتركها، بل إنهم يوجهون اتهامات مباشرة لأطراف كثيرة ب«إغماض العين عن الفساد»، ويضيفون أن هناك «إتاوات» يومية مفروضة على شاحنات المقالع. إنه كابوس حقيقي حين يصبح الأمن جزءا من اللا أمن.
يقول السكان إن كل شاحنة تؤدي إتاوة خارج القانون، هي ما بين 10 و20 درهما للشاحنة الواحدة، مقابل إغماض العين عن الخروقات القانونية. وفي كل الأحوال، فإنه لا حاجة إلى الخروقات من أجل تأدية الإتاوة، لأن الجميع يؤدّون، لذلك فإن أزيد من 90 في المائة من الشاحنات التي تنقل الحجارة لا تلتزم بالمعايير المعمول بها في هذا المجال، فهي لا تقوم بتغطية الحجارة بقلاع، من أجل التخفيف من تطاير الغبار، وكثير منها تمارس تهورا خطيرا جدا، حيث لا تتوفر على الحاجز الحديدي الخلفي من أجل منع انهيار الحجارة الضخمة في أي وقت. هذه الشاحنات تمر أمام عيون الدرك، وأحيانا، يكون الدرك بلا عيون، فتُفقأ عيون القانون، وأكثر من ذلك، تُفقأ عيون التنمية المزعومة في هذه المنطقة، التي عاشت في سلام لقرون طويلة، قبل أن تنهض مذعورة على وقع تنمية قاتلة..
يكذبون علينا.. فنكذب عليكم
عندما يحاول السكان الاحتجاج، فإنهم يحاولون الوقوف في الطريق من أجل أن تتحاور معهم السلطات. كل ما يريدونه هو الحوار، لكن هذه أمنية لا يدركونها، لأن الدرك يتحرك بسرعة من أجل تفريق اعتصاماتهم، رغم أن الاحتجاجات تكون سلمية. «تصوروا أن الهراوات تلاحقنا نحن لأننا نعارض قتلنا صحيا وماديا، بينما الشاحنات والمقالع تحظى بكل الاحترام اللازم»، يقول أحد سكان المنطقة.
«لا شيء بقي كما كان»، يقول تاجر شاب يقع محله على قارعة الطريق، أو على قارعة الموت: «كلنا أصبحنا ضحايا للمقالع والشاحنات. نحن وأسرنا وأولادنا وماشيتنا وملابسنا صرنا مجرد أصفار على الشمال، وبدأنا نشك كوننا بشرا. صرنا نأكل الغبار مع الخبز، ولم نعد نستطيع نشر ملابسنا تحت الشمس، لم نعد نحرث الأرض، لأنها لا تعطينا شيئا. في الماضي، كنا نأكل منها الخضر والزرع وثمار الأشجار، أما اليوم فإنها لا تعطينا غير الغبار، وكل المزروعات تحترق بسبب ذلك». ويضيف الشاب، مغبونا: «هذه المقالع لا تحترم أحدا، وسائقو الشاحنات المملوءة بحجارة المقالع لا يحترمون أحدا. فالوزن زائد عن «القانون» والسرعة مفرطة.. هذا ظلم لا يمكن تصديقه. لقد صرنا نعيش في منازل مغلقة بالكامل، وعندما تهب الرياح القوية في فصل الصيف، تتحول حياتنا إلى جحيم».
قبل بضع سنوات، كانت نسوة المنطقة يجلسن على قارعة الطريق لبيع الحليب والبيض واللبن ومنتجات أخرى تنتجها حقولهن. كن يجلسن في العراء أو تحت ظلال الأشجار أو في أكواخ من قصب، اليوم، تحولت تلك الأكواخ إلى أطلال، لأنه لم يعد يوجد ما يمكن بيعه، والجلوس على قارعة الطريق صار مغامرة غير محسوبة العواقب.
الحاج البقالي، أحد الذين لم يعودوا يملكون شيئا، لأن الغبار «قضى» على كل شيء في حقله. لم تعد أشجار التين والزيتون في حقله، التي كان يقتات منها، تنتج شيئا وتوقفت أشجار الفواكه عن الإنتاج، والخضر تحترق. «أنا هنا منذ 11 سنة، وحياتنا بارت مثلما بارت حقولنا.. لقد اشتكينا لكل المسؤولين ولم يلتفت إلينا أحد. مرة، قلت للقايْد لماذا لا يلتفتون إلى وعودهم لنا فقال لي «المسؤولون الآخرون يكذبون علينا.. ونحن نكذب عليكم»، هذا هو واقع الحال، وهذه العبارة تلخص كل شيء.
الأطفال «سينقرضون» قريبا
يصف محمد قنجاع، وهو رب أسرة، ما يجري بطريقة مباشرة وسريعة: «لم يبق لنا شيء، لا خضر ولا نعناع ولا صحة ولا أرض ولا حياة.. كل رؤوس الأبقار نفقت وبقيت لي فقط بقرتان مريضتان. أحد جيراني، يقول قنجاع، نفقت ثلاثة من أبقاره في أسبوع واحد، وكلها صدمتْها الشاحنات. كل بقرة هنا تساوي قرابة مليوني سنتيم، وفجأة، تأتي شاحنة وتصدمها، إضافة إلى رؤوس الماشية التي تموت كل يوم بالتلوث. أما الخضر فانتهت إلى الأبد، وأشجار التين لم تعد تعطي شيئا وشكاياتنا تذهب مباشرة إلى المزابل. المسؤولون يحتقروننا ونحن لا حول لنا ولا قوة»..
لكنْ هناك ما هو أكثر قيمة من الأبقار، إنهم الأطفال، الذين صارت صحتهم على كف شيطان بسبب هذه المقالع اللعينة وشاحناتها، التي تزرع الموت في كل مكان، وبسبب التواطؤ المخجل للسلطات والمنتخبين.
يعطي قنجاع صورة قاتمة ومحزنة عن وضع الأطفال في هذه المنطقة، حيث تمر الشاحنات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وبذلك غربت شمس أطفال المنطقة إلى الأبد. يقدم قنجاع صورة قاتمة لوضعية الأطفال في المنطقة «لدي سبعة أطفال وقد أوقفتهم عن الدراسة، لأن المدرسة بعيدة وخطر الشاحنات يتهددهم في أي وقت. «لا صحة بقيت لأطفالنا، وكل واحد فيهم ينتظر دوره لكي تدوسه شاحنة.. وقريبا، سينقرض الأطفال في هذه المنطقة»، يقول قنجاع، بسخرية موغلة في المرارة.
في طرف الحقل، تظهر امرأة تمسك بيد طفل أشقر، في حوالي الخامسة من عمره. اقترب الطفل وهو يحاول بالكاد فتح عينيه. هو ليس أعمى، لكنه قريبا سيصير كذلك، لأنه لم يعد يرى بإحدى عينيه، ويكافح من أجل ألا يفقد العين الأخرى قريبا.
صار هذا الطفل، وغيره كثيرون، اليوم أكبر ضحايا المقالع في عمالة فحص أنجرة، ويكفي أحدهم أن تدمع عيناه قليلا لسبب من الأسباب حتى يتراكم فوق دموعه غبار دقيق جدا، وسرعان ما يثير هذا الغبار حكة قرب العين، وعندما يفرك الطفل عيونه تحدث الكارثة.
ليس هذا فحسب، فهذا الطفل نفسه يعاني من بثور جلدية كثير على جلده الطري. وعندما رفعت أمه قميصه عن ظهره، ظهرت بثور كثيرة حمراء. في كل الأحوال ليس وحده الذي يعاني هول «التنمية الحمقاء» التي تجتاح منطقة فحص أنجرة، فهناك أطفال كثيرون عادت إليهم أمراض القرون الوسطى.
وقبل بضعة أشهر، ظهرت في مدشر «دوق شايْر»، على مقربة من القصر الصغير، في طريق ثلاثاء تغرامت، أمراض جلدية غريبة، حيث أصيب العشرات من سكان المنطقة ببثور خطيرة أثارت الذعر في المنطقة. وبما أنه لا وجود لأطباء في المنطقة، ولا وجود لمستشفى حقيقي، ولا وجود أيضا لسيارة إسعاف، فإن السكان سلموا أمرهم لخالقهم في انتظار أن تمر هذه المحنة، التي ربطها السكان بتلوث المياه بسبب عمليات الحفر المتوحشة التي تمارسها المقالع، والتي لوثت المياه الباطنية، وانتشرت سمومها نحو أجساد الكبار والصغار.
قضاء وقدر.. وفساد
الناس في المنطقة يبدون وكأنهم يواجهون قدرا لا راد له، لذلك يتحدثون بمزيج من السخط والاستسلام. «ألا ليتهم تركوا لنا فقط أراضينا، لأنهم يأخذونها منا أيضا بحجة المصلحة العامة. نحن بلا عمل، ولقمة عيشنا نكسبها من حقولنا، وهم أخذوا منا كل شيء، حتى صحتنا، وهي رأسمالنا الأخير»، تقول امرأة من المنطقة.
على الطريق ما بين القصر الصغير و«ثلاثاء تغرامت» هناك الكثير من أكواخ القصب المهجورة. هنا كانت تجلس عشرات النسوة لبيع محصول حقولهن من تين وزيتون ونعناع وبيض وحليب. لكن كل هذه الأكواخ صارت مهجورة يعلوها الغبار بعد أن بارت الحقول. لا صوت هنا يعلو على صوت الشاحنات العملاقة التي تزرع الخراب أينما مرت.
فطّومة الضراوي، امرأة طيبة تحكي كيف أنها لم تأسف على ضياع كسب لقمة العيش عبر بيع منتجاتها الفلاحية بجانب الطريق، بقدر ما تأسف على ضياع أشياء أخرى كثيرة: «تلوث الماء وصار خطيرا، ليس للشرب فقط، بل حتى لغسل الملابس. بدأنا أيضا نحس ب»الضيقة» وبصعوبة كبيرة في التنفس، وليس هناك مستشفى في المنطقة نُعالَج فيه ولا يزورنا أطباء».
الناس يقولون إنهم حاولوا مرارا إيجاد حل لكارثة الشاحنات العملاقة المُحمَّلة بأحجار وغبار المقالع بمحاذاة حقولهم، لكنهم عندما يحتجون، تنزل إليهم القوات العمومية بسرعة البرق، وعوض إيقاف الشاحنات، فإن الناس البسطاء هم الذين يتم إيقافهم، وهناك شكاوى في المحاكم وضعها لوبي الشاحنات ضد السكان، وهي عملية تطبيق نادرة لتك النظرية العبثية التي تقول «ضْربْني وبْكى.. وسبقْني وشْكى».
هناك أشخاص اكتروا أراضيَّ من أصحابها من أجل استغلالها فلاحيا، لكن دمار المقالع لم يبذر أرباحهم فقط، بل لم يترك لهم حتى ما يقتاتون به من زراعة بسيطة. «كنت أجني 60 صندوقا من الطماطم قبل أن تبدأ المقالع هنا، اليوم لا أجني أكثر من صندوقين»، يقول مواطن في المنطقة يدعى عبد الله قنجاع، ويضيف أن أصحاب المقالع يجنون الملايير، بينما السكان البسطاء تعرضوا للإفلاس المادي والصحي والنفسي.
في الطريق صعودا نحو معقل المقالع، «ثلاثاء تغرامت»، يردد الناس نفس المعاناة: «تبدأ الشاحنات العمل في الرابعة صباحا، ونحن نضطر إلى الاستيقاظ في نفس الساعة، ليس لأننا نريد ذلك، بل لأننا لا نستطيع النوم، وكل شاحنة تمر قرب منازلنا تحدث زلزالا، أما حالة أطفالنا فتلك معاناة من الصعب أن نرويها. إنها نكبة حقيقية»، يقول مواطن يملك ضيعة صغيرة على حافة الطريق، وهو يفكر الآن في الرحيل إلى أي مكان لإنقاذ نفسه وأطفاله بعد أن هلكت ماشيته وبارت زراعته. ويضيف «الناس اشتكوا كثيرا وتوجهوا نحو عمالة فحص أنجرة، ومسؤولو هذه العمالة يتعاملون معنا كما لو أننا متخلفون عقليا، في كل مرة نشتكي يواجهوننا بالوعود الكاذبة، وأحيانا بالترهب والتخويف، هذا طبيعي لأن لوبي المقالع غني جدا وخطير جدا ويعرف كيف يزيل كل المعيقات من طريقه».
حوادث مفجعة
في المرتفع المؤدي إلى «ثلاثاء تغرامت» هناك منعرج على وزاويته صخرة كبيرة. هذه الصخرة شاهدة على مقدار العبث الذي تمارسه شاحنات المقالع ضد الأرواح البشرية.
قبل حوالي سنتين، وفي هذا المكان بالضبط، دهست شاحنة عملاقة مُحمَّلة بأطنان من الحجارة سيارة «فاركونيط» كان على متنها عشرات القرويين والقرويات من سكان المنطقة، كانوا عائدين من السوق الأسبوعي نحو ديارهم. أسفرت الحادثة عن مقتل خمسة أشخاص، بينهم شيوخ وأطفال ونساء، لكن عمق المأساة ليس فقط في عدد الضحايا، بل في سبب الحادثة ونتائجها. فالشاحنة التي تسببت في الحادث، بشهادة سائق الشاحنة نفسه، كانت تنزل المنحدر بمحرك غير مشغل، وفي تلك الحالة، فإن فراملها تكون ضعيفة جدا، لذلك عندما التقت في طريقها بسيارة القرويين دهستها بقوة شديدة، فاختلطت أطراف الجثث ببقايا الدقيق والسكر والزيت والطماطم.. وصار صعبا مشاهدة تفاصيل تلك الحادثة المروعة.
لإيقاف سائقي الشاحنات محركات سياراتهم في المنحدرات سبب واحد، وهو توفير «المازوط» من أجل بيع الفائض لسيارات النقل السري، وهذا شيء يعرفه الجميع في المنطقة، وهناك عشرات الضحايا الذين سقطوا في هذه «الحرب» المجنونة لجشع يبدأ بأصحاب المقالع وينتهي عند سائقي الشاحنات، ومن بين الضحايا أطفال وشيوخ ونساء. ويحكي السكان عن حوادث مفجعة لأشخاص تم «سحقهم» تماما تحت العجلات، وكان من الصعب جدا جمع أشلائهم..
هناك حادثة دخلت التاريخ في «ثلاثاء تغرامت»، والتي حدثت قبل أزيد من سنتين، عندما توجهت شاحنة مباشرة نحو ساحة مدرسة، بعد أن فقدت فراملها بسبب إيقاف سائقها المُحرّكَ، لتوفير البنزين، فاقتحمت الشاحنة ساحة المدرسة التي كان فيها عشرات التلاميذ في ساعة الاستراحة، ويبدو أن القدَر وحده ساهم في التقليل من حجم الكارثة، حيث صرخ التلاميذ في بعضهم البعض حين رأوا شاحنة تتجه نحو الساحة وتدمّر السور، ثم سقطت مباشرة وسط الساحة، وتحتها كان جسد تلميذة في حوالي الحادية عشرة من عمرها. لقد سحقت الشاحنة جسدها تماما..
كشفت التحريات الأولية التي قام بها الدرك وقتها تهاون سائق الشاحنة»، وقال السكان إن السائق، إضافة إلى أنه أوقف محرك شاحنته، فإنه كان ثملا، وهذه معضلة أخرى في المنطقة، لأن هناك سائقين يفضلون السياقة وهم سكارى.
بعد تلك الحادثة، توقع السكان الكثير وطالبوا بزجر سائقي الشاحنات وبلجْم أصحابها ونصبوا علامات في الطرق تمنع مرور الشاحنات، لكن لوبيات الشاحنات والمقالع جاؤوا بعد وقت قصير وأزالوا علامات المنع وهددوا السكان.
السكان يتهمون أيضا أصحاب هذه الشاحنات بأنهم لا يتوفرون على التأمين وعلى وثائق أخرى، وحين تقع حادثة ما، فإن تأمينا واحدا يتم استخدامه من أجل جميع الشاحنات!.. وفي كثير من الأحيان، تقع الحادثة فيتصل السائق بمشغليه من أجل إحضار الأوراق. إنها مخالفات مروعة في مغرب القرن الحادي والعشرين وفي منطقة يقال إنها ستكون المحرك الاقتصادي للمغرب. وحين يُسأل السكان عن دور الدرك في المنطقة، فإنهم يكتفون بجواب صادم، أو عبر ابتسامة خفيفة تخفي الكثير.
الأشباح في المدرسة والمستشفى
ما تزال مدرسة «ثلاثاء تغرامت»، التي شهدت تلك الحادثة المفجعة اليوم تعيش على شبح ما جرى، شبح الموت، وما يزال السور القصير على حاله. ورغم أن هذه الجماعة هي الأغنى من بين كل جماعات المنطقة، فإن أقسام هذه المدرسة آيلة للسقوط وأكلت الرطوبة أغلب مرافقها، وهناك وثائق كثيرة، سواء للإدارة أو التلاميذ، أصابها التلف بسبب ذلك، وهناك أقسام تم إغلاقها لأنها لم تعد صالحة وتهدد سلامة التلاميذ.
يبدو حال مدرسة «تغرامت» غريبا في واقع يقول إن هذه الجماعة تجني فيها المقالع الملايير كل يوم، نعم... الملايير، وهذا ما تثبته الأوراق، لكن رئيسة جماعة «تغرامت»، نزيهة الخراز، تصاب بما يشبه البكم المفاجئ حين يسألها أحد عن مداخيل الجماعة. في البداية، وعدتنا بكشف الأرقام، ثم قالت إنها ستكشف أيضا حقائق كثيرة حول عمل المقالع وأضرارها على السكان، ثم طلبت مزيدا من الوقت، فمطّطت الوقت أكثر، وفي النهاية، لم تعد تردّ على الهاتف... ثم «خرجت ولم تعد».
يقول سكان من المنطقة إن رئيسة جماعة «ثلاثاء تغرامت» تملك الكثير من الأسرار وإنه لو تم الكشف عن هذه الأسرار فستكون مضرة للكثيرين. «كان يجب على هذه المرأة أن تتعاطف معنا، نحن الذين انتخبناها لتكون في منصبها»، يقول أحد السكان، متابعا: «إذا لم تكن هذه المرأة قادرة على فضح لوبيات المقالع في جماعتنا، فعلى الحكومة الحالية أن تتدخل مباشرة لفعل ذلك».
المستشفى الموجود في قلب جماعة «تغرامت» تسكنه أشباح من نوع آخر، إنها أشباح الغياب. في المكان ممرضتان لا تريدان الحديث إطلاقا عن نوعية الأمراض التي يصاب بها سكان المنطقة وترفضان بالمطلق إعطاء أي أرقام حول أمراض الربو وضيق التنفس وأمراض أخرى مرتبطة بهستيريا المقالع في المنطقة. أما الطبيب فغير موجود. تقول ممرضة إنه سيأتي يوم الخميس أو في يوم آخر ليست متأكدة منه، وهو إما في طنجة أو تطوان (بما أن منطقة تغرامت تقع في الوسط بين المدينتين)، أما هاتفه المحمول فممنوع إعطاؤه لأحد. جميل هذا الواقع الصحي في منطقة كانت «جنة» بيئية وصحية فصارت «كارثة» حقيقية بعد شروع المقالع في عملها.
مرحبا بكم في «قندهار»..
يعكس سوق «تغرامت»، بدوره، ذلك التفاوت الخطير بين غنى الجماعة وبين واقعها. ففي مكان يجني فيه مقلع واحد مَبالغَ خرافية من المال، دون أي استثمار حقيقي ودون رأسمال، فإنه لا فرق بين سوق المنطقة وبين أي سوق في قندهار، الأفغانية، وربما في ضواحي قندهار، بمظاهر تخلُّفها، كما يراها الناس في التلفزيون.
في هذا السوق مناظر من العصور الوسطى: شياه تذبح في العراء وتعلق في قبضات من حديد صدئة، أما المكان الذين تباع فيه اللحوم فقد بُني في هذا المكان منذ أن وصل الإسبان إلى المنطقة، ومعلوم أن الإسبان وصلوا منذ 100 عام.. إنه منظر لا يصدقه من لم يره!..
في منحدر غير بعيد عن السوق، هناك بركة آسنة بلون أحمر، إنها ليست بركة مياه، بل بركة دماء، لأن دماء المواشي التي يتم ذبحها في العراء تتجمع هنا، فيتجمع الذباب على القاذورات، ويكون المشهد صادما في جماعة «تحْصُد» فيها المقالع الملايير يوميا، ينما يعيش سوقها مظاهر تخلف خرافية، وتُفضّل رئيسة الجماعة نظرية «الصمت حكمة».
الناس هنا يشُكّون في أشياء كثيرة، يشكّون في كل مسؤول يحصل فجأة على سيارة جديدة أو على قطعة أرض أو يبني فيلا في تطوان أو طنجة وضواحيهما. فالمسؤول الذي لا يفضح الذين ينهبون المنطقة، يصبح بدوره معرضا للنهش في سلوكه.
غير بعيد عن سوق «ثلاثاء تغرامت»، تتحرك الشاحنات العملاقة بضجيج مقزز، وهي تحمل آلاف الأطنان من الحجارة والأتربة، فينتشر الغبار الخطير على مسافات بعيدة.
رحيل الطير والنحل
لا تقتصر خطورة ما يجري في منطقة «ثلاثاء تغرامت» ونواحيها على ما سبق ذكره، بل يصل حدا لا يمكن تصوره من خلال تسميم المياه الجوفية وتهجير حيوانات وطيور نادرة.
لم يقض التلوث على صحة الأطفال وراحة السكان وإنتاجية الحقول فقط، بل طارد أيضا أسراب النحل التي كانت تعيش بأعداد كبيرة في المنطقة، كما أن الكثير من الطيور والحيوانات النادرة انقرضت أو هاجرت نحو مناطق أخرى.
ويحكي أحمد الرهوني، رئيس جمعية الصيد البري في «ثلاثاء تغرامت» كيف أنه في زمن مضى، وبالضبط قبل أن تبدأ هستيريا المقالع في المنطقة، كانت كثير من الحيوانات والطيور ترتع في المنطقة وتعتبرها «جنتها الطبيعية»، لكنْ بعد ذلك، تعرضت الطبيعة للبوار، ومعها «بارت» الكثير من مظاهر العيش للإنسان والحيوان.
يقول الرهوني: «كانت هناك طيور الحجل والأرانب والخنزير، لكنْ اليوم انقرض كل شيء تقريبا ولم يعد هناك غير أعداد قليلة من الخنازير البرية. أعطيك مثالا حول الصيادين، فمن قبْلُ كانوا يصطادون حيوانات كثيرة في نصف يوم، واليوم يمكن أن يبقوا لبضعة أيام من دون أن يقتنصوا أي طريدة، سواء في ما يخص الطيور أو في ما يخص الحيوانات».
ويضيف الرهوني أن الكائنات التي كانت موجودة بكثافة في المنطقة إما نفقت أو أصيبت بأمراض غريبة، مثل العمى، والسبب هو الجو المليء بالغبار السام، ومن الصعب على حيوانات عمياء أن تستمر في العيش.. هناك أيضا طيور تعرضت للعمى، خصوصا طيور الحجل، التي يتم العثور على الكثير منها نافقة وعيونها ملتصقة تماما بسبب العمش الملتصق بغبار المقالع!..
يقول الرهوني، الذي يشغل في الوقت نفسه منصب رئيس جمعية تربية النحل في المنطقة، إن هذا النشاط الاقتصادي الهامّ تعرض لكارثة حقيقية. فقبل بضع سنوات، كان النحل يدر كميات كبيرة من العسل، وساعد ذلك السكان ماديا وغذائيا، لكنْ مع مرور الوقت، انقرض النحل بالكامل وتعرَّضَ للفناء.
اليوم، تتكدس العشرات من مساكن النحل في مخازن مهجورة في «ثلاثا تغرامت» بعد أن تخلى عنها الذين كانوا يزاولون هذا النشاط الاقتصادي الهام، فمن الصعب أن ترى في طول المنطقة وعرضها نحلة، لأن وجودها غير ممكن في وقت أبيدت فيه الطبيعة ولم يعد للأزهار مكان.. فما «يزهر» في هذه المنطقة هو الأرباح الخيالية لأصحاب المقالع وأصحاب الشاحنات، أي لوبي المقالع عموما، والذي يعمل خارج أي سيطرة أو مراقبة حقيقية.



صورة للتاريخ.. وللمستقبل
الشخص الذي يظهر في وسط الصورة، صاحب الجلباب، هو نفسه الوزير المنتدَب لدى رئيس الحكومة، مكلف بالشؤون العامة وبالحكامة في حكومة عبد الإله بنكيران.
لكن هذه الصورة تعود لسنوات خلت، حين كان بوليف يقوم بزيارة لمنطقة فحص أنجرة، وبالضبط إلى منطقة «ثلاثاء تغرامت»، حيث تمارس المقالع حربا ضروسا ضد الإنسان والطبيعة والحيوان.
زار بوليف المنطقة بصفته نائبا برلمانيا، بعد توصله شكاوى كثيرة من السكان، الذين كانوا يريدون منه، رفقة برلمانين آخرين من حزبه، الاطّلاع عن قرب على مآسيهم مع المقالع.
لكن رحلة بوليف ورفاقه إلى المنطقة طبعتها حادثة، أو حوادث، ستبقى عالقة في أذهانهم إلى الأبد، ويمكن لبوليف أن يؤكدها أو ينفيها، وهو اليوم وزير في «حكومة إنقاذ ما يمكن إنقاذه».
حاول بوليف في ذلك اليوم، رفقة قافلة من السيارات، الاقتراب من عدد من المقالع في المنطقة للحديث مع مسؤوليها حول شكاوى السكان، لكن الذي حدث هو أن السيارات التي كانوا على متنها تعرضت، بغتة، ل«أعطاب» مفاجئة، وهي أعطاب متشابهة، ذلك أن عجلاتها فرغت فجأة من الهواء، وبذلك تَعَذّر عليها الاقتراب من المقالع.
بعد فحص الأعطاب، تأكد بوليف ورفاقه أن مسامير كانت مخبأة بعناية تحت الطريق الترابي وأن المسامير كانت مثبتة بعناية في قطع من جلد، حيث لن تفلت منها سيارات الزائرين المزعجين الذين يريدون دخول «مغارة علي بابا»، أي هذه المقالع التي تدر على أصحابها الذهب وتطحن السكان بالموت والأمراض والكوارث البيئية والصحية.
اليوم، يوجد بوليف في حكومة تقول إن مهمتها الكبرى هي محاربة الفساد، وهو ما يزال يتذكر جيدا تلك الحادثة التي وصفها حزبه وقتها ب«أسلوب المافيا»، لذلك عليه أن يتحرك، هو وحزبه، لمواجهة هذه المافيا. ففي الماضي، كان بوليف مجرد نائب برلماني لا حول له ولا قوة، وهو اليوم وزير فاعل في حكومة ينبغي أن تكون قوية.
وعد بوليف، في آخر حواراته الصحفية، وعدا قاطعا، بأن حكومته ستضع حدا لاقتصاد الريع، وهو يعرف جيدا أن مقالع فحص أنجرة ليست مجرد وجه من وجوه اقتصاد الريع، بل وجها فاقعا للاحتقار والإهانة وحصد الملايير على حساب حياة وكرامة ومستقبل الناس.
السكان ينتظرون اليوم ما سيكون، وبناء على ذلك سيحددون أمورا كثيرة، ولن يكونوا محتاجين لانتظار انتهاء الخمس سنوات من عمر حكومة بنكيران لكي يعرفوا إنْ كانت حكومة حقيقية أم حكومة أشباح...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.