حاوره – رشيد عفيف ليس منير شفيق مفكرا عاديا، اعتنق التنظير واعتكف في الصالونات الأدبية؛ إنه رجل جمع بين النظرية والممارسة، وجسد بقوة، عبر مساره الفكري والسياسي الطويل، مقولة «المثقف العضوي». ما يميز هذا المناضل الفلسطيني هو انتماؤه الدائم إلى ما يرى فيه أمل ومستقبل الأمة. جمع الرجل بين المسيحية مولدا ثم الإسلام مآلا، وبين الشيوعية منطلقا ثم القومية والحركية الإسلامية أفقا. عاش في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وفيها تشرب مبادئ الشيوعية قبل وبعد النكبة، ثم في لبنان حيث قدم إلى حركة فتح جزءا من مسيرته، وشكل داخلها صوتا متفردا من خلال «السرية الطلابية»، قبل أن يطور مشروعه الفكري ليفرز التصور الجهادي من خلال «سرايا القدس». على كرسي الاعتراف، يحكي منير شفيق جانبا من ذاكرته الخاصة، ويبسط شهادته على ما عاشه من أحداث بدءا بالنكبة وحرب 1948 مرورا بهزيمة 1967، ثم خروج حركة فتح من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود؛ كما يقدم روايته حول نضال فتح من داخل الأراضي اللبنانية في سنوات السبعينيات، قبل الخروج الأخير إلى تونس. في هذه الأحداث وغيرها، تبرز شخصية منير شفيق المناضل العصي على التطويع والمهادنة المجانية كما تجسدت في رفضه لكل «مشاريع وخطط التسوية» مع إسرائيل. – قبل النكبة، كانت الأممالمتحدة قد أصدرت قرار التقسيم بين الفلسطينيين واليهود؛ ألم يكن القبول بهذا القرار أفضل للعرب؟ قرار التقسيم أعطى للدولة الصهيونية 54 في المائة من مساحة فلسطين بينما أعطى للعرب 46 في المائة منها، وجعل القدس مدينة دولية تدار من طرف الأممالمتحدة. ولقد كان في هذا القرار ظلم كبير بالنظر إلى أن عدد السكان اليهود لم يكن يتجاوز حينها نصف عدد السكان الفلسطينيين، ففي سنة 1947 كان عدد اليهود يبلغ 750 ألفا بينما كان عدد الفلسطينيين يصل إلى مليون ونصف المليون؛ فكيف كان ليحق لهم أن يأخذوا أكثر من الفلسطينيين؟ ثم بأي يحق يحصلون على دولة وهم مجرد وافدين ومهاجرين؟ ورغم ذلك، فإن كثيرا من الفلسطينيين تساءلوا بعد النكبة التي عاشوها: لو كنا قبلنا بقرار التقسيم وإقامة دولتين لما وصلنا إلى هذه الحال ولما هجرنا من وطننا! وكانت هذه النظرية هي التي دافع عنها آنذاك الشيوعيون الذين بدؤوا يقولون: لو سمعتم ما قلناه وقبلتم بقرار التقسيم لما صرتم إلى ما صرتم إليه اليوم. – ألم يكن هذا الطرح منطقيا؟ لا، كان خطأ كبيرا. لماذا؟ أولا، لأن منطقة الأربعة والخمسين في المائة التي خصصها قرار التقسيم لليهود لم تكن لتُنشِئ فيها الصهيونيةُ دولتَها حتى ولو قبل الفلسطينيون بذلك؛ فقد كانت هذه المنطقة تعرف وجودا عربيا كثيرا يفوق 48 في المائة من السكان وكانت ملكية العرب لأراضي هذه المنطقة تزيد على 90 في المائة، فكيف كان يمكن للإسرائيليين إقامة دولة في منطقة ستصبح فيها أغلبية عربية ديمغرافية ولا يملكون فيها الأرض؟ على اعتبار أن 90 في المائة من المزارع والأراضي والبيوت والطرقات، كما سلفت الإشارة، كانت في ملكية العرب. هذا يعني أن دولة إسرائيل لم يكن لها أن تقوم إلا على حساب الفلسطينيين وتهجيرهم وأنتزاع ملكياتهم وبيوتهم، خصوصا وأن اليهود كانوا متفوقين من حيث السلاح وكانوا يحظون بتأييد من طرف القوى الدولية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.. لقد كان القادة الصهاينة مصممين حتما على شن حرب 1948 ليحتلوا الأربعة والعشرين في المائة من الأرض الإضافية التي احتلوها لتصل المساحة مع قرار الهدنة إلى 78 في المائة. – لماذا قبل الإسرائيليون بالتقسيم، إذن؟ لم يقبلوا بالتقسيم.. من قال إنهم قبلوا؟ لدي قناعة بأن قرار التقسيم لم يكن الهدف منه التطبيق، بل كان الهدف منه هو إعطاء الشرعية لإعلان قيام دولة إسرائيل. فحسب القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة، لم يكن لليهود الحق في إنشاء دولة، لأن حق تقرير المصير، وفقا للقانون الدولي وميثاق هيئة الأممالمتحدة، حصري للشعب الذي كان يسكن البلد أثناء حلول الاستعمار. ويؤكد القانون الدولي أنه لا يحق للمستعمر أن يغير من الديمغرافية أو الطوبوغرافية الخاصة بهذا البلد. وهذا يعني أن قرار التقسيم كان تدخلا في تقرير مصير الفلسطينيين، ومن ثم فهو قرار باطل قانونيا. ولو كان العرب والفلسطينيون وافقوا على قرار التقسيم في حينه لما قبله الصهاينة الذين كانوا سيحاربون، لكن الهدف منه كان فقط هو انتزاع الشرعية. وحتى اليوم، تبقى دولة إسرائيل دولة غير شرعية رغم اعتراف الأممالمتحدة وتبادل التمثيليات الدبلوماسية، وحتى لو اعترف العالم كله؛ فمادام الشعب الفلسطيني، الذي يخول له القانون الدولي الحق الحصري في تقرير المصير، لم يعترف بإسرائيل فإن الأخيرة تبقى دولة غير شرعية. – هذا يعني أن رفض قرار التقسيم من طرف العرب في تلك المرحلة كان قرارا صائبا… بدون شك، لأنه حافظ على الشرعية الفلسطينية وأبقى دولة إسرائيل غير شرعية. لكن بالنسبة إلى النتائج، لم يكن الرفض أو القبول به ليغير شيئا منها؛ ولذلك فعندما أعلن بن غوريون عن قيام دولة إسرائيل لم يقل لفظا نحن نوافق على القرار 181 القاضي بالتقسيم، بل قال لقد صدر قرار عن الأممالمتحدة رقم 181 سنة 1947 أعطى الشعب اليهودي حق إقامة دولة على أرض إسرائيل. – لماذا لم يتضمن الإعلان الموافقة على قرار التقسيم؟ لأن الموافقة على هذا القرار كانت تعني بالنسبة إلى الإسرائيليين اعترافا بحدود ال54 في المائة من الأرض، واعترافا بحق الفلسطينيين في إقامة دولة. وعندما سعت إسرائيل إلى كسب عضوية الأممالمتحدة، ووجهت بكونها لم تقبل قرار التقسيم الذي أصدرته الهيئة الأممية ولم تطبقه. وبالمناسبة، فإن قادة الكيان الصهيوني لم يعترفوا قط بأي قرار من قرارات الأممالمتحدة، وبالمقابل يضغط العالم كله على العرب والمسلمين والفلسطينيين من أجل القبول بقرارات هيئة الأممالمتحدة. وها هي ذي إسرائيل لا تعترف لا بقرار التقسيم ولا بقرار العودة 194، ولا بالقرار 242.