اليهودي يهز برأسه عند حائط المبكى والأرثوذكسي يهز المبخرة ويرش الماء المقدس، والسني يقبل الحجر الأسود والشيعي يسجد عند عتبة زينب والكاثوليكي يرتعش عند الفاتيكان هذه الأيام، الشيعة منشغلون بحماس في قراءة دعاء كميل، وبينهم وبين يوم الحج الأكبر كربلاء أيام معدودات، فمن دخله أصبح آمنا مؤمنا.. أما موسم كربلاء فهو دموي جدا.. مذكر جدا.. بحيث ينسى فيه الناس مؤسس الإسلام الناجح محمدا بن عبد الله (ص) لصالح حفيده الفاشل الحسين رضي الله عنه.. الحديث حساس ومزعج ومؤلم، ولكن لا بد منه؟؟ فمن أين انبثقت الشيعة؟ وما هو الحدث التاريخي الذي ينشق عنده البشر إلى ملل ونحل وطوائف ومذاهب، تتناحر وتتقاتل وتقتل بدم بارد خصومها، كما رأينا في رواندا بين التوتسي والهوتو، وبين الشيعة والسنة على نهر دجلة في بغداد.. في الواقع إذا لم يتم فهم الاختلافات في الصورة السيكولوجية، فسوف يبقى البشر يذبحون بعضهم بعضا على أتفه الخلافات، كما ذبح الكاثوليك الهوجنوت في باريس في عيد القديس بارتليميوس، فألقوا بجثثهم ونسائهم وأطفالهم مقطعين ممزقين غارقين في دمائهم إلى نهر السين بكل عربدة.. وحين يتم فهم الخلافات البشرية في (الصورة السيكولوجية)، وأن اليهودي يهز برأسه عند حائط المبكى، والأرثوذكسي يهز المبخرة ويرش الماء المقدس، والسني يقبل الحجر الأسود، والشيعي يسجد عند عتبة زينب، والكاثوليكي يرتعش عند الفاتيكان، واليزيدي يحتبس في دائرة إذا رسمت حوله، وفي قبائل نيوزيلنده يجب على الرجل أن يحمل قضيبه داخل قرن ثور، مربوطا بخيط إلى حقويه وإلا كان عارا على فحولته.. فكلها مواضعات بشرية اجتماعية تبرمجنا جميعا مثل فئران التجارب، ولكن كل واحد منا يضحك على الآخر.. لذا إذا رأينا دماء الشيعة مع ذكرى كربلاء تنهار مدرارة بالساطور والسلاسل، فيجب ألا نضحك منهم كثيرا، وإذا رأيناهم يبكون كثيرا، فيجب احترام خرافاتهم، لأن خرافاتنا أكثر من خرافاتهم، ولكن أعيينا لاتدرك فروق الثقافة، لأن الإنسان حتى يرى أنفه الكبير يجب أن يضع مرآة واحدة، فإذا أراد رؤية صلعته وقذاله من الخلف جيدا فعليه وضع مرآتين، وكذلك حال الثقافة.. وحين ضحك البريطاني على الصيني كيف يضع الطعام على قبر الميت، فهو لا يأكل ولا يقوم من قبره لأكل الوجبة الشهية، ضحك الصيني على البريطاني لأن أموات أسكتلندا وويلز لا ينهضون لشم رائحة باقة الزهور.. وكل حزب بما لديهم فرحون. مع هذه المقدمة البسيطة يمكن أن ندخل البحث، كما يفعل الجراح في شق بطن المريض، تحت التخدير والتعقيم والغسل الجيد باليود والكحول والتغطية بالملاءات المعقمة.. لندخل جراحتنا الفكرية بشيء من الاحتراف.. جلس الرسول (ص) بين سبعين من الصحابة المقربين، بما هو أكثر من أصحاب الشجرة والبيعة الكبرى في غدير خم فقال: أنظروا جيدا لقد استخلفت عليا من بعدي، مثل الانتخابات الأمريكية لأربع سنين، واحذروا من الانقلابيين والمروانيين؟ وبعد دورتين انتخابيتين، يرشح ابن الرئيس وينتخب مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى الأبد.. إلى الأبد... ولكن الملاعين من الانقلابيين خطفوا الصولجان ونصبوا رجلا من جماعتهم.. وهكذا، ضاعت الخلافة الراشدة فوجب إحياؤها مرة أخرى تحت ولاية الفقيه؟ هذا، باختصار، هو الجدل الشيعي التاريخي حول قصة حديث الغدير المزعوم؟ وهذه، باختصار، هي العقيدة الشيعية المبنية على حدث تاريخي. وهذه، باختصار، هي مصيبة الانشقاق الإسلامي الأعظم إلى ثلاث فرق: المروانية والشيعية والخوارج، يلعن بعضها بعضا، كل فرقة تدعي وصلا بالأصولية النقية؟ فأما الشيعة فقد (جَّيروا) الإسلام لحساب عائلة؟ وأما المروانيون فقد (جيروا) الإسلام لحساب قبيلة تحت حديث الأئمة من قريش؟ وأما الخوارج فكانوا أكثر ديمقراطية وأشد دموية ووقاحة وسذاجة حين قالوا إن الحاكم لا يشترط له سوى أن يكون مطابقا لهذا المنصب الحساس، حتى لو كان رأسه زبيبة وعبدا أسود يلمع من شدة السواد.. ومن سخرية التاريخ أن يكون أبسطهم وأشدهم عنفا وذبحا للمسلمين هم الخوارج، في الوقت الذي يدرس فيه الشيعة الفلسفة. ربما لتبرير وتمرير مذهبهم في غطاء من غبار الكلمات؟ أما البيت المرواني فاجتهد في نبش أحاديث الردة وتوزيعها لتصفية المادة الرمادية في بقايا المجتمع الإسلامي المنتهب منذ وقعة الحرة، واستباحة نساء الأنصار، وذبح آل البيت جميعا في تطبيق عملي للآية: ما أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى!! فكانت المودة بلون أحمر قانٍ لا يسر الناظرين ويستدعي القيء للسامعين.. وهكذا، انتهت رحلة الإسلام في التاريخ قبل أن تبدأ، واستبدلت العباءة الإسلامية بعباءة من بيزنطة، حتى يعاد إحياؤها من جديد، صدقا وعدلا. وصدق النبي العدنان، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، كما ضرب الكل رقاب الكل، من مرابطين وموحدين، وأيوبيين وفاطميين، وعثمانيين ومماليك، وحزب الله وأمل، وحماس وفتح بكل حماس، ومن شايعهم أجمعين. وكما يضرب العراقيون اليوم رقاب بعضهم تحت كلمة مجللة بالعار: شيعي وسني وخلفي وسلفي ووهابي وصوفي.. وكلها أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان.. إلى حين صحوة العقل من السبات الشيعي السني، إلى ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المفسدين.. ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات هو الدعوة التي تلقيتها من مركز الإمام علي لحضور (السيرموني) في مركزهم في أقصى الأرض، وأنا في أدنى الأرض، بعد أن محى الأنترنيت المسافات، فأصبح الناس بنعمته إخوانا.. وهذه المسألة تحركت عندي على نحو حاد مع الثورة الإيرانية عام 1979م حين ارتج الغرب وخاف، فلما دخل الخميني الحرب مع صدام، وضع الغرب رجله في ماء دافىء، يناسب صقيع أوربا وكندا وبلاد الإسكيمو.. ويومها دعيت لحضور المناسبة الثانية للثورة الإيرانية، وكنت في ألمانيا، وكان الداعي أخ جزائري أعرف فيه العقل والتنوير، هو من أفضل تلامذة المفكر الجزائري مالك بن نبي، فلبيت الدعوة.. واكتشفت أن الأخ قد فقد عقله تماما، فكان يقفز معهم كالقردة في طهران وعبدان، مثل مظاهرات الرفاق الحزبية، بفارق العمامة والقبعة واللحية ونفش الشعر؟ فهنا كان الهتاف يقص الحنجرة عجَّل الله فرجه، وهناك بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم.. مع دخولنا مطار مهاباد، وفي حي الأمين في دمشق، حملت أطنانا من كتب الشيعة للبهبهاني والطبطبائي والمراجعي والتسخيري والعاملي والجاعلي.. إلخ، وكلها كتب تعود إلى ألفية كاملة إلى الخلف، في استرجاع الشخير الشيعي السني.. حيث توقف التاريخ، والله يقول: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.. ولكننا نقف في خندق الزمن، كما تفعل الكاميرا في التقاط الصورة الجامدة فتحبس الزمن.. ونحن محبوسون في وحدة الزمن الشيعية السنية بدون أمل في الخلاص، بل تجديد هذه الخرافة كل سنة.. كما يفعل المسيحيون في حمل الصليب إلى جبل الجلجثة مع كل عيد ميلاد، والمسيح والحسن وحسين ومحمد وعلي وموسى برآء من كل هذا.. وقلت في نفسي يومها: خالص راجع نفسك، ففيك بقية من عقل، فإن كان مذهبهُم حقا وطريقتُهم صدقا فيجب أن تعلن ولاءك للفقيه، وتلتحق بالمرجعيات وتضرب نفسك بالساطور في يوم محرم وعاشوراء ودعاء كميل؟ وفعلا، وضعت السؤال المحرج أمام عيني وقرأت واستغرقت، لفهم هذه المعضلة التاريخية، وكان ذلك مع انفجار الثورة الإيرانية وبدء الحلم العظيم في استيقاظ المارد الإسلامي، فكان برقا خادعا وسرابا فاقعا، كما هو الحال اليوم مع الصنم النووي الإيراني وحزب الله الذي يذكر بالشقي المكسيكي بانشو فيا.. بل لقد كتبت كتابا في الثورة الإيرانية وألقيت محاضرة بحماس في مركز ميونيخ عن أسباب وفلسفة الثورة الإيرانية، وكان الغرب يرتعش خوفا وينتفض كمدا، بعد أن تحركت الجماهير بأذرع عارية، كما وصفها روجيه غارودي، في أعظم ثورة لا عنفية منذ أن بعث النبي (ص)، وسبقت إيران أوربا الشرقية في التخلص من الطغاة، ولكنها تحالفت مع الطغاة، مثل الأسد وشاوسسكو، في انقلاب من الثورة إلى الدولة، كما هي حال كل الثورات التي حذرنا منها أرسطو قبل ثلاثة آلاف سنة؟ كما تلتهم الأرانب والقطط أولادها.. وهي الآن في طريقها إلى بناء صنم نووي، على طريقة بني صهيون، فيقولون كما قيل لموسى بعد الخلاص من فرعون وعبور البحر: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟!! هوهو ما يستدعي إلى الذاكرة تعليق موسى على هذه الألهة؟؟ إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبَّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون؟ ثم ذهبنا إلى إيران، وقابلت أنا شخصيا الخميني، وكان شخصية لا توصف إلا بكونها مميزة وكارزمائية ووجها صادقا صارما لا يخيب. ثم اجتمعت بجماعة كيهان (نشرة الثورة)، ثم قابلت يزدي وزنكنا والخلخالي (الذي تتخلخل مفاصله في قبره الآن) في مجلس نوابهم وآخرين.. وفي سؤال ليزدي عن معنى استمرار الإعدامات بدون توقف؟ غضب الرجل، واعتبرني من مناهضي الثورة؟ أما صبحي زنكنا الذي قلنا له إن حماة تدمر بيد حافظ الأسد، حيث تم مسح نصف المدينة براجمات الصواريخ وأرغن ستالين، وتمت إبادة ثلاثين ألفا من الأنام، لمدينة أثرية منذ أيام الرومان، فالتهمها حافظ الأسد في ثلاثة أيام، وهي كارثة غير مسبوقة، وليس لها نظير حتى سبرنيتشكا في البوسنة، حيث بلغ عدد القتلى سبعة آلاف في البوسنة، بل منذ الحرب العالمية الثاني للإعدامات والمقابر الجماعية، وهي غير محفوظة إلا في الآراشيف الأمريكية، مما يذكر بمأساة هيروشيما وكيف لم تحفظ للبشاعة إلا ثلاث صور؟؟؟ قلت للثوري الإيراني: هلا تدخلتم عند صديقكم وحليفكم الاستراتيجي، لإيقاف سفك دماء الأبرياء من المدنيين بأيدي سرايا الدفاع ووحدات الصراع وفرق المخابرات الجهنمية، بما تورع عنه النازيون؟ في حمامات دم لم يفعلها بنو صهيون؟ (مما نقل من أحداث حماة أنهم نهبوا سوق الذهب ولم يعفوا عن المسيحيين، بل وقتل وغد منهم خمسين امرأة مسكينة هاربة من الجحيم في قبو مظلم، لم تنج سوى فتاة حفظتها أمها تحت جسدها البارد فنجت وأخبرت؟؟) غضب زنكنا وقال: إنهم إخوان مجرمون يستحقون الذبح من الوريد إلى الوريد. المهم، لنرجع إلى الأسطورة الشيعية. تقول الأسطورة إن الرسول (ص) جمع سبعين من أصحابه في غدير خم فقال لهم: إن الحكم يجب أن يكون في علي ونسله إلى يوم القيامة، وهو حديث يقول عنه ابن خلدون أمورا يقولونها ولا يسلم لهم بها. ولكن الإيديولوجيات بنيت دوما على الأساطير، مثل رومولوس في قيام روما، والأساطير النوردية، أو النارتية عند الشراكس، وأوزيس وأوزرويس حول ألوهية الفراعنة.. يتبع...