إن صفتي التمايز والتداخل إذا كانتا تنطبقان على العلاقة بين السواء النفسي والسواء الاجتماعي فهما تنطبقان أيضا على العلاقة بين السواء النفسي والسواء الديني. وهذه العلاقة موضوع سوء فهم واسع بسبب تشابه المصطلحات والخلط بين المفاهيم. فالسواء النفسي حالة طبيعية في الفرد، تكون جوانب منها فطرية وأخرى مكتسبة، لكنها تخضع لقوانين وسنن هي التي تكتشف وتدرس في علوم الإنسان. وبالتالي فتطورها لا يكون بإرادة الفرد واختياره الحر، بل يخضع لتلك القوانين، وأي تأثير لا يكون إلا من خلالها وباستثمارها. صحيح أن ذلك لا يعني أن تلك القوانين مماثلة لتلك التي يخضع لها المجال المادي، بل هي قوانين من نوع خاص، بطابع خاص، لكنها قوانين على كل حال. أما السواء الديني فهو ما تقتضيه مبادئ الدين وأحكامه، وهو ما يعتبره الدين استقامة في الفكر والعاطفة والسلوك. واتباعه أو العيش وفقه يرجع إلى اختيار الإنسان وقراره الحر. وعليه المسؤولية ليختار طريق الصلاح والاستقامة. وتلك الحرية هي مناط التكليف وأساس الجزاء الأخروي. ولذلك تقول الآية القرآنية عن الإنسان: «إنا خلَقْنا الْإِنسان من نُطْفَة أَمشاجٍ نبتليه فَجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» (الإنسان/2 3). كما نفى القرآن الكريم أي إكراه في الدين فقال: «لا إكراه في الدينِ قد تبين الرشد من الغي» (البقرة/ 256). وقال: «فَذَكر إنما أَنت مذَكر، لست عليهم بمصيطر» (الغاشية/ 22 21). السواء الديني إذن على عكس السواء النفسي ينبني على الاختيار الحر والإرادة المستقلة. وعدم السواء الديني هو أيضا اختيار من الفرد، وليس كذلك عدم السواء النفسي الذي له في الأصل عوامل وأسباب، يكتشفها الإنسان ويستثمرها لمعالجته. وعدم السواء الديني أو الانحراف الديني إذا لم يصحبه خلل في الأداء الأسري أو المهني أو الدراسي أو العلائقي لا يعتبر عدم سواء نفسي ولا اضطرابا نفسيا. وبالتالي يمكن أن يكون الإنسان سويا من الناحية النفسية، وغير سوي من الناحية الدينية، كما أن العكس أيضا صحيح. واعتبار السواء النفسي مطابقا للسواء الديني، يعني من جهة أولى اعتبار كل ما ليس موافقا للمبادئ والأحكام الدينية حالة مرضية أو سلوكا مرضيا. وهذا غير صحيح لا علميا ولا منطقيا ولا دينيا. ومن أبسط مستلزماته إخراج الانحراف الديني من دائرة المسؤولية، وهو ما يؤدي إلى هدم أساس الدين كله. وهو يعني من جهة ثانية اعتبار كل ما ليس سواء نفسيا من جنس الانحراف الديني. وهذا أيضا غير صحيح لأن الاضطراب النفسي من جنس ما يصيب الإنسان من اختلالات أو أمراض، ولا يمكن أن يكون مسؤولا عنها أو محاسبا دينيا. ومبادئ الدين نفسه تقتضي اللجوء في علاجها إلى المختصين في الطب النفسي، وبوسائل العلاج النفسي، بينما علاج عدم السواء الديني يكون بوسائل التربية والهداية الدينية. لا شك أن التشابه والتداخل بين السواءين موجود، لكن لكل واحد منهما سماته وصفاته. ويمكن لأحدهما أن يكون معينا على الآخر. فالسواء الديني ييسر السواء النفسي ويعززه، والسواء النفسي يؤهل الفرد لفهم مبادئ الدين أحسن وتقبلها أكثر. ومن أنواع الخلط الني تقع بين المستويين، أن كثيرا من المصطلحات المستعملة في المجالين الديني والنفسي تفهم على أنها واحدة، تحمل نفس المعنى ونفس الحمولات. وهذا فيه تجاوز كبير. لنأخذ مثلا لفظ الوسوسة التي يعتبر كثير من الناس استعمالها في السياق الديني مماثلا لاستعمالها في السياق النفسي. والصحيح أن بينهما فرقا كبيرا. فوسوسة الشيطان الواردة في النصوص القرآنية والحديثية تعني الوسوسة بالمعصية، وليس لها تأثير حقيقي على الإنسان، ألم يورد القرآن الكريم قول الشيطان: «وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي»؟ وبالتالي فهي وسوسة ترجع إلى إرادة الفرد، فيطيعها أو يعصيها، وهذا هو مناط التكليف لدى المؤمن. وعلاجها يكون بالتذكير واللجوء إلى العبادة من صلاة وقراءة للقرآن وذكر ودعاء وغيره. فهذا مجال الدين لا مجال الطب. أما الوسوسة المرضية فهي أفكار تفرض نفسها على المرء، يعرف أنها غير صحيحة، ويريد التخلص منها، ويقاومها، لكنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا في الغالب الأعم. ونفس الشيء بالنسبة للأفعال القهرية التي يكررها الفرد دون إرادته، ويفشل في مقاومتها في الغالب. فهو غير مسؤول عنها حقيقة. وهذا هو جوهر المرض أيا كان، أنه يأتي دون إرادة الإنسان. فهذا النوع من الوساوس أو الأفعال القهرية يحتاج إلى علاج نفسي متخصص. وهذا مجال الطب لا مجال الدين.