من المفيد في أي دراسة للصحة النفسية توضيح العلاقة المتشابكة بين السواء النفسي من جهة، والسواء الاجتماعي من جهة أخرى. إن السواء النفسي حالة يكون فيها الفرد خاليا من المرض أو الاضطراب النفسي. وهو درجات، أعلاها سواء نفسي مطلق لا يتصور في عالم الواقع، ودونه مراتب تتفاوت، لكنها كلها تدخل ضمن ما هو طبيعي من التفكير والعاطفة والسلوك. وبالتالي فإن القاعدة تقتضي أن يكون الذي يحتاج إلى إثبات هو كون الفرد مريضا نفسيا، وليس كونه سليما معافى. ومستند ذلك أن كل من ليس مريضا فهو سليم. والأصل في الفرد أن يكون سليما، وقد يمرض، وليس العكس. وبالرجوع إلى التصنيف الدولي للاضطرابات النفسية والسلوكية (المراجعة العاشرة) الصادر عن منظمة الصحة العالمية وهو أحد أهم التصنيفات المعتمدة اليوم نجده يستخدم مصطلح الاضطراب النفسي ويقصد به وجود «جملة من الأعراض أو السلوكات القابلة للتمييز كلينيكيا، وتكون مصحوبة في أغلب الحالات بضيق نفسي واضطراب في أداء الوظائف الشخصية، ولا ينبغي إدراج أي سلوك اجتماعي منحرف أو مثير للنزاع ضمن الاضطرابات النفسية، إذا لم يصحبه خلل أدائي في الشخصية». أما السواء الاجتماعي فهو شيء مختلف، وإن كان بينه وبين السواء النفسي العديد من نقاط التداخل. إن المجتمع يضع المعايير المقبولة لديه في الفكر والعاطفة والسلوك، ويعتبر الفرد المتحقق بها هو الطبيعي أو المقبول اجتماعيا. ويستنكر المخالف لها. ومعروف أن تلك المعايير تختلف من مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى، وفي المجتمع الواحد من زمن لآخر. فهذه المعايير تحكمها أكثر قيم أو عادات اجتماعية قابلة للتطور. فتعدد الزوجات مثلا قد يكون قيمة إيجابية في مجتمع أو في زمن، وسلبية في مجتمع أو زمن غيرهما. ومن هنا فقد يتمتع الفرد بالسواء النفسي، لكنه متمرد على أعراف المجتمع، وبالتالي لا يعتبر سويا من الناحية الاجتماعية. وإن اعتبار السواء النفسي مطابقا للسواء الاجتماعي، يعني اعتبار كل ما ليس موافقا للمعايير الاجتماعية حالة مرضية أو سلوكا مرضيا. وسيكون تعريف الحالة المرضية بالتالي متقلبا ومختلفا حسب القيم والمعايير الاجتماعية. وهنا يكون من المفيد توضيح النقط المحددة التالية: إن الدراسات النفسية تنص على أن سلوكا غير متوافق اجتماعيا أو مثيرا للنزاع داخل المجتمع لا يعتبر اضطرابا نفسيا إلا إذا كان مصحوبا باضطراب في الأداء الشخصي، على المستويات العلائقية والأسرية والمهنية. إن أيا من الأعراض أو الاضطرابات لا تعتبر مرضية، وبالتالي غير سوية، إلا إذا كانت كذلك مهما اختلفت الثقافات والمجتمعات والعادات، وإلا لم تكن مرتبطة بقانون ثابت يمكن من التوفر على تشخيص موحد ووصف علاجات موحدة مهما اختلفت تلك الأبعاد. إن هذا التمييز بين السواء النفسي والسواء الاجتماعي لا ينفي أهمية التوافق الاجتماعي بوصفه معيارا عاما من معايير الصحة النفسية، وبالتالي فإن المشكل هنا هو عدم القدرة على التوافق وليس الخروج عن المعايير الاجتماعية لأسباب فكرية أو سياسية أو غيرها. وهكذا يتبين بأن المريض أو غير السوي في مفهوم علم النفس ليس مرادفا للمنحرف أو غير السوي اجتماعيا أو عرفا. وبينهما فروق منها: أن الحالة النفسية المرضية تكون فوق طاقة الفرد، وتصيبه دون إرادته، بينما السلوك المنحرف اجتماعيا يتم بوعي واختيار كامل أو نسبي ، وأحيانا بإصرار من الفرد. أن علاج الحالة النفسية المرضية يكون في الطب النفسي، وبوسائل العلاج النفسي، بينما علاج الانحراف الاجتماعي وسائله اجتماعية واقتصادية وقانونية، يضعها المجتمع، وتختلف حسب الثقافات والسياقات. قد تكون هناك أسباب نفسية وراء الانحراف الاجتماعي، لكن ذلك لا يخرج هذا الأخير من صبغته الاجتماعية، ولا يحوله بنفسه إلى اضطراب نفسي. قد يكون هناك تشابه بين الاضطراب النفسي والانحراف الاجتماعي، لكن لكل واحد منهما سماته وصفاته. فالسرقة انحراف اجتماعي، لكنها ليست اضطرابا نفسيا إلا في حالات محددة. ومن تلك الحالات مثلا ما يسمى «هوس السرقة»، وهو رغبة جامحة للسرقة من أجل السرقة، من شخص لأشياء لا يحتاجها لاستخدامه الخاص أو لكسب مالي، بل هي أشياء قد يتم التخلص منها بعد ذلك، مع فشل الشخص المتكرر في مقاومة ذلك الاندفاع نحو السرقة. والمتخصص هو وحده الذي يمكنه التمييز هنا بين الانحراف الاجتماعي الذي يعاقب عليه القانون، والاضطراب أو المرض النفسي الذي يجب أن يلجأ معه إلى العلاج. مع الإشارة إلى أنه لا يجب أن يستغل هذا التمييز ويتوسع فيه دون مستند موضوعي، حتى لا يفتح الباب أمام المجرمين والجانحين للإفلات من عقاب القانون.