يعتبر الشعور بالسعادة أعلى معايير الصحة النفسية، بل هي الهدف الأسمى لكل إنسان على الأرض وإن اختلفت طرق كل واحد إليها. لكن قبل السعادة هناك معايير أخرى للصحة النفسية، بعضها يسلم لبعض ويساعد على التحقق به. وانطلاقا من التعاريف التي تحدثنا عنها في حلقة سابقة يمكن تحديد أهم تلك المعايير. وهي بقدر ما تتحقق لدى الفرد، بقدر ما يمكن أن نتحدث عن توفره على صحة نفسية جيدة. ويمكن لأي شخص أن يقيس بنفسه مقدار تحققه بها. وهي تتوزع أساسا على أربعة مستويات هي: 1 -التوافق الذاتي (ويسميه البعض التكيف الشخصي): وهو أن يكون الفرد راضيا عن نفسه، قادرا على التوفيق بين دوافعه المتعارضة توفيقا يرضيها إرضاء متزنا. ويضم بالأساس المستويات الثلاثة التالية: معرفة النفس الثقة بالنفس ضبط النفس. أما معرفة النفس فهي أن يكون الفرد قادرا على معرفة قدراته، ونقاط ضعفه، وحدوده، وحاجاته، وأن يتقبل ذاته بواقعية، فلا يبالغ في إمكاناتها ولا يقلل منها. وأما الثقة بالنفس فهي إحساس الفرد بشعور إيجابي نحو الذات وتقديرها واحترامها، غير كاره لها أو نافر منها أو ساخط عليها أو شاك في قدراتها. وخلو الحياة النفسية من التوترات والصراعات النفسية التي تقترن بمشاعر الذنب والقلق والضيق والنقص والتوفر على درجة معقولة من الطموح والشجاعة، وتمتع الفرد بالتالي بالطاقة المحركة للتخطيط لحياة أفضل. وأما ضبط النفس فهو اكتساب الفرد القدرة على التحكم في التقلبات الوجدانية والمزاجية التي يتعرض لها، وقدرته على إحداث التوافق والتناغم بين قدراته وإمكاناته من جهة، وطموحاته ومُثله من أجل تلبية متطلبات الحياة المختلفة من جهة أخرى. ويتضمن ضبط النفس أيضا قدرة الفرد على عدم السماح للعواطف السارة أو غير السارة بأن تأخذ حجما مبالغا فيه في حياته اليومية وفي قراراته وتصرفاته. ويتضمن ضبط النفس أيضا قدرة الفرد على التحكم في ردود فعله وفي أدائه لما يسمح له باختيار العادات الصحية السليمة، سواء منها العضوية أو النفسية، وممارستها. 2 - التوافق الاجتماعي: وهو قدرة الفرد على عقد علاقات اجتماعية راضية مرضية، يرضى عنها الفرد بنفسه ويرضاها الناس منه. وهو ما يعبر عنه أيضا بالقدرة على التوافق مع البيئة والتكيف الناجح الإيجابي معها. وهذا التوافق الاجتماعي يعكس ما يمكن أن نسميه النضج الاجتماعي. ويضم أساسا ما يلي: احترام الآخرين والإحساس بأفراحهم وآلامهم الشعور بالراحة والاطمئنان في العلاقات معهم القدرة على إظهار مشاعر الحب والود نحو الآخرين وعدم التردد في تقديم يد المساعدة لهم تقبل نقائص الآخرين القدرة على احترام مستوى معين من المسؤولية والالتزام. 3 - القدرة على الصبر والتحمل: وهي قدرة الفرد على الصمود أمام الأزمات والشدائد وضروب الإحباط. ويضم ذلك أساسا ما يلي: القدرة على محافظة الفرد على توازنه عند التعرض لأي صدمة أو ضغط نفسي القدرة على استعادة توازنه بعد الصدمة تقبل الفشل ومشاكل الحياة بكل هدوء واتزان القدرة على متابعة حياته بشكل طبيعي بعد التعرض لأي صدمة القدرة على استثمار فرصة الصدمة لتطوير الشخصية والتعلم من نجاحه وفشله وتجنب تكرار الأخطاء القدرة على التكيف مع الواقع مهما كان مريرا إذا كانت ظروفه أقوى من طموحات وآمال الفرد في التغيير. 4 - الشعور بالرضى والسعادة: وهو أعلى معايير الصحة النفسية من حيث المرتبة، وتوفره لدى الفرد يسبغ على حياته شعورا عميقا بالبهجة والاستمتاع، والفرح حتى للأشياء والأحداث البسيطة. ومن مقتضياته التفاؤل المستمر بالمستقبل ومباشرة التخطيط من أجل مستقبل أفضل، والشعور بالمتعة الداخلية في إتمام الأعمال أو المسؤوليات التي تناط به على أكمل وجه، وبذل أقصى جهده لتحقيق هذه المهام والمسؤوليات بأفضل صورة ممكنة. والسعادة ما هي إلا نتيجة للتوفر على حد معقول من معايير الصحة النفسية الأخرى، وقدرة الفرد على الشعور بالمتعة في حياته مع إغفال عوامل التعاسة التي يتعرض لها. ومع أهمية الاستقرار المادي والغنى المالي في السعادة، إلا أنهما وحدهما لا يكفيان إذا كان معيار التكيف النفسي أو التكيف الاجتماعي منهارين أو ناقصين. لذلك تشير الدراسات إلى أن «كيمياء» السعادة تدمج صحة عضوية جيدة ودخلا ماديا كافيا وعلاقات عاطفية مستقرة ووجود أهداف في حياة الإنسان وقدرته على تحقيق قدر معقول منها. والسعادة مراتب ومستويات مختلفة يأخذ منها كل فرد بنصيب على حسب ما يسر الله له.