حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – من هم الذين اقترحوا خيار المقاومة المسلحة؟ المنتفضون كانوا مع أمزيان بل دافعوا عن المقترح. – لكن تبني خيار المقاومة المسلحة يطرح الحاجة إلى الحصول على أسلحة.. من أين كانوا سيتزودون بها؟ كانت هناك الكثير من الخيارات أمامهم، في مقدمتها طلب العون من محمد بن عبد الكريم في القاهرة؛ ولا تنس أنهم كانوا يتوفرون على بعض الأسلحة الخفيفة، وبالتالي فإنه لم يكن صعبا الانخراط في مقاومة مسلحة كانت ستصير الانتفاضة معها أكثر دموية… – لماذا رفض أمزيان العودة إلى المغرب؟ بكل صراحة، أمزيان كان خائفا جدا من أن يغتاله الاستقلاليون بعد كل الذي كتبه عنهم، بل إن هذا التخوف كان يساوره حتى وهو في العراق، وقد قالها لي بصراحة متناهية: الاستقلاليون لديهم يد طولى في كل مكان وميليشياتهم تمتد إلى أي مكان. – ما مبعث كل هذا الحقد لحزب الاستقلال رغم أن ولي العهد اعترف حينما صار ملكا بأنه هو من ربى الريفيين؟ أمزيان كان متيقنا من شيء واحد ولم يكن أحد يستطيع أن يقنعه بعكس ذلك: ما جرى بالريف كان نتيجة إصرار حزب الاستقلال على إقصاء المنطقة من معادلة التنمية، لأن هذه المنطقة كانت منشأ ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي ومقر جمهوريته.. كانوا، حسب أمزيان دائما، خائفين من الريفيين ومن قدرتهم على الثورة في أي لحظة، وما فعلوه في الريف كان انتقاما مكشوفا من الأمير الذي هاجم قادة الحركة الوطنية واحدا واحدا، وقد وصفوه بالعاجز والشيخ المخرف. في 58 – 59 دفع الريفيون ثمن انتمائهم إلى أرض الخطابي؛ وسواء كانت هناك مطالب أو لم تكن، فإن هذا السيناريو كان سيحدث إن عاجلا أم آجلا. بطبيعة الحال، وجد عبد الله إبراهيم نفسه في موقف لا يحسد عليه عندما وصلته أصداء ما حدث. وللإشارة، فقد كان الخطابي يصف إبراهيم بالرجل الوحيد الموجود بالمغرب. كان يحبه الخطابي كثيرا إلى درجة كان يمتدحه يوما بعد يوم ويشيد بخصاله. تقصد أن سيناريو مهاجمة الريف كان جاهزا؟ استنادا إلى ما قاله أمزيان، فقد كان جاهزا، بل إن حزب الاستقلال كان يتحين أول فرصة تتاح له لفعل ذلك، وقد وجدها مواتية فقال للملك ولولي عهده إن الريفيين يريدون تأسيس جمهورية من جديد بمساعدة الخطابي. كان أمزيان متأكدا من أن الاستقلاليين قالوا للملك إن الخطابي يؤلب أنصاره لإحياء الجمهورية الريفية. – يبدو من كلام أمزيان، وكأنه يبرئ الحسن الثاني مما جرى؟ لا أبدا، هو فقط كان يقول إنه لولا الاستقلاليون لما هاجم الجيش الريف، أما أن يبرئه فهذا أمر صعب جدا، فقد قلت لك سابقا إن أمزيان لن يغفر للحسن الثاني ما فعله مهما كانت الظروف، والحق أنه لم يَكُنْ يُكِنُّ أي حقد للملكية بالمغرب حتى حدث ما حدث، حيث قال لي إن القصر أذعن لحزب الاستقلال في 58 – 59.. كان هو الحزب الوحيد المسيطر على دواليب السياسة بالمغرب، وكان يريد الهيمنة بأي طريقة كانت، ولذلك أوحى للحسن الثاني بأن يقود الجيش بنفسه لدك الريفيين. الكثيرون لا يعرفون أن الهجوم كان انتقاما بالدرجة الأولى من محمد بن عبد الكريم الخطابي ومن المنتفضين بالدرجة الثانية، وقد كان انتقاما قاسيا جدا جعل الخطابي يعبر في مراسلاته عن ألم عميق لم يكن يخفيه وهو الذي دافع بشراسة عن البلاد في العشرينيات من القرن الماضي. ما أود إضافته أن أمزيان لم يكن يريد العودة حتى تعتذر الدولة بشكل رسمي معنويا وماديا.