حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – رغم كل ما كتب عن انتفاضة 1958 – 1959، فإنه مايزال هناك الكثير من الغموض الذي يلف بالتحديد الطريقة التي اندلعت بها الثورة. ما الذي قاله لك أمزيان عن ظروف ا لثورة؟ هناك فعلا الكثير من الغموض حول الموضوع، وهو غموض أراده البعض أن يبقى قائما على الدوام لأنه يخدم مصالحهم، كأن يقال -مثلا- إن الثورة ساندها الإسبان. قد يكون صحيحا أن أحرضان والخطيب وأبرقاش ساهموا في إشعال شرارتها، لكن لا يمكن أن نصدق أن الرجال الذين كانوا مرابطين في الجبال كانوا يتفرجون فقط على ما يجري. لقد وجدت عند أمزيان خريطة بأسماء الثوار ومداشرهم والمهام التي كانوا ينهضون بها أثناء الانتفاضة، ووجدت لدى أمزيان حزمة من البلاغات والبيانات التي كانت تصدرها قيادة الثورة. وقد حكى لي أن الاتفاق الأول كان مضمونه أن يكون الاحتجاج سلميا وأن ترفع المطالب التي دبجها المنتفضون قبل بدايته، وألا ترفع أي شعارات ضد الملك. بطبيعة الحال، كان هناك من يريد أن تكون الانتفاضة عنيفة، لكن الرأي استقر في الأخير على أن تكون سلمية. – بعد هجوم الجيش على الريف، لمَ لمْ ينزع أمزيان نحو خيار المواجهة المسلحة؟ أمزيان كان حاد الذكاء ولم يكن ليسقط في مثل هذا الفخ، فأن توثر خيار المواجهة يعني أنك تقول للطرف الآخر، وأقصد هنا الجيش، افعل ما شئت واقتل من شئت. لقد تفهمته حينما قال لي: زكي، هل تقدر على تحمل آثار القتل القاسي ضد الريفيين؟ لقد أُعطيتِ الأوامرُ بدكِّ كل شيء دون استثناء. بطبيعة الحال، وكما قلت لك سابقا، فإن خلافا حادا استعر بين قيادة الثورة حول استعمال السلاح من عدمه ضد الجيش، لكن أمزيان كان حاسما جدا في الأمر واختار حقن الدماء بدل سفكها. – تذهب بعض الروايات إلى أن إسبانيا كانت مستعدة لمد الثوار بالسلاح، هل هذا صحيح؟ تلك روايات ضعيفة، ولا أتذكر أن أمزيان قال لي إن إسبانيا تدخلت لديه أو عرضت عليه أية مساعدة؛ لكن الذي أخمنه أنه في تلك المرحلة الملتبسة كان كل شيئا ممكنا، وأنا لا أستبعد التدخل الإسباني من أجل خلط الأوراق بالريف.. ربما اقترح الإسبان على أمزيان مده بالسلاح، ولاسيما أن بعض الكتابات تقول إن علاقته بهم كانت قوية، بيد أنه حتى ولو عرضت عليه فإنه كان سيرفضها لسبب بسيط وهو أنه كان مؤمنا بالعقيدة الخطابية القائمة على مناهضة فكرة الاستعمار. أعود بك إلى مسألة التنسيق بين الخطابي ومحمد سلام أمزيان، فقد أخبرني الأخير بأن الخطابي كان غاضبا جدا بسبب ما كان يجري في الريف، وهناك بالتحديد تكوَّن لديه موقف سيئ من الملك الراحل الحسن الثاني، وظل هذا الموقف ثابتا لديه حتى موته.. وقد كان الخطابي مستعدا لأنْ يجلس مع أي أحد سوى الحسن الثاني لأن ما كان يحكيه له أمزيان في رسائله آلمه كثيرا. – ما الذي كان يحكيه له في كتاباته تحديدا؟ كان يصف له الأجواء في الميدان وسير الثورة وتدخل الجيش ومناورات حزب الاستقلال في الريف؛ وكان الخطابي يجيبه إما عن طريق رسائل مكتوبة أيضا وإما عبر مرسول. – تقصد رشيد الخطابي؟ لا أعرف حقا، لكن التواصل كان قائما بينهما إلى درجة لا يمكن تصورها؛ وقد أكد لي أمزيان أنه تشاور مع الخطابي قبل بدء الانتفاضة. – بيد أن المطالب التي تضمنها بيان الانتفاضة لا تحمل شيئا من نفس العقيدة الخطابية، أقصد أن المطالب كانت عادية جدا بالمقارنة مع ما كان ينادي به الخطابي؟ أنا لست هنا بصدد تحليل المطالب، بل أتحدث عن طبيعة التنسيق بين الرجلين… أنا مؤرخ ويهمني جدا أن أطلع على هذه العلاقة وأعرف طبيعتها، لأن هناك من يريد أن ينفيها، بل حررت عشرات الكتابات حول هذا الموضوع، وهناك من ذهب أبعد في تحليله حينما قال إن العلاقة بين أمزيان والخطابي كانت سيئة جدا.