تقدم لنا هذه الحملة الانتخابية التي نعيشها في أفق استحقاقات الرابع من شتنبر، الوجه الحقيقي لزعمائنا السياسيين. إنهم يخطبون في الجماهير، ويقدمون الوعود. ويتوعدون خصومهم. ولا ينسون في عز هذه الحملة أن يقدموا بعض فقرات الفرجة السياسية. ويشكل كل من رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، وإدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال، وإلياس العماري، نائب الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، الرباعي الأكثر إثارة للجدل. فيما يحتل بقية الزعماء من أمثال امحند العنصر وصلاح الدين مزوار، ومحمد ساجد ونبيل بن عبد الله، الصف الثاني على مستوى تحقيق هذه الفرجة السياسية التي زادت حدتها اليوم، وقد ترتفع حرارتها مع اقتراب موعد الرابع من شتنبر. هذه بروفايلات عن رموز الفرجة السياسية. بنكيران يبكي ويرقص ثم يغني يحسب لعبد الإله بنكيران أنه أول رئيس حكومة يستطيع أن يصنع الفرجة وهو في التلفزيون. أو من على منصات الخطابة. لقد ظل يحقق نسبة مشاهدة عالية إذا ما قورن بالوزراء الأولين الذين تعاقبوا على تدبير الشأن العام. فبالقدر الذي عرف عن سلفه عباس الفاسي الاختفاء عن كاميرات التلفزيون، أضحى بنكيران وجها مألوفا لدى جمهور الشاشة لدرجة لا يتردد الكثيرون في وصف اللحظات التي كان يحضر فيها إلى التلفزيون بأنها لحظة فرجة يمكن أن نسميها «بنكيران شو». في أول ظهور له في التلفزيون، وهو يحمل صفة رئيس الحكومة، عرف عبد الإله بنكيران، كيف يستميل عطف المشاهدين الذين رأوا في حماسة الرجل واندفاعه وصراخه أحيانا مؤشرت على أن القادم أفضل. تحدث بنكيران وقتها عن المقهورين والمظلومين، وتحدث عن ربطة العنق التي لا يحسن تثبيتها، وعن علاقته بالملك محمد السادس، الذي تمنى أن يحكي له نكتة وهو يستضيفه أول مرة ويعينه رئيسا للحكومة. وبدا أننا امام شخصية استثنائية يكتشفها المغاربة أول مرة. كادت الكثير من التفاصيل التي حكاها بنكيران في أول ظهور تلفزيوني له أن تغطي على الأهم، الذي يعني ما الذي جاء به حزب العدالة والتنمية لإنقاذ البلاد بعد أن منحته صناديق الاقترع المرتبة الأولى. تحدث بنكيران عن التحالفات الممكنة لتشكيل حكومته، وتمنى لو أن الاتحاد الاشتراكي قبل دعوته، لدرجة أنه سيعتبر ذلك «تسخينا لكتفه»، قبل أن يغازل بقية الأحزاب، مع وضع خط أحمر أمام حزب الأصالة والمعاصرة. ولعل هذا الخط الأحمر هو الذي لا يزال يؤجج الصراع بين البام والبيجيدي. ولأن الدستور الجديد فرض على رئيس الحكومة الحضور للرد على أسئلة نواب الأمة فيما يشبه التقرير الشهري، فقد كان أول حضور لبنكيران فرجة حقيقية ستحقق نسبة مشاهدة عالية، ليس لأن بنكيران حمل معه مشاريع حقيقية كانت تبشر بغد أفضل، ولكن لأن الرجل تحدث عن العفاريت والتماسيح التي تقف أمام حكومته. وبحركات «المان وان شو»، ظل بنكيران يصرخ أحيانا، ويخفت صوته أحيانا أخرى. بل ويسمي بعض النواب بأسمائهم ويهدد البعض الآخر من على منبر الخطابة. بل إن الجلسة ظلت تعرف لحظات مد وجزر لم تنته إلا برفعها. لم تكن أول جلسة يخسر فيها بنكيران رهان الإقناع هي الأخيرة. فقد ظل كلما حضر إلى البرلمان بغرفتيه إلا وصنع الفرجة، وأخرج من جيب سترته صيغة جديدة للرد أو لتبرير عجز حكومته عن تدبير الملفات الحساسة التي تباشرها. اليوم يبدو أن حدة المعارك التي فتحها بنكيران، خصوصا في مواجهة حزب الأصالة والمعاصرة، متواصلة مع أول استحقاقات تجرى على عهد حكومته. لذلك تابعنا كيف تحولت تجمعات بنكيران الخطابية إلى محطة لضرب الخصوم أكثر منها فرصة للتواصل مع المواطنين لعرض ما حققته هذه الحكومة، وما تنوي تحقيقه مستقبلا. لشكر في مواجهة مصير حزب القوات الشعبية ظل ادريس لشكر من أقرب المقربين لمحمد اليازغ، بل إنه ظل يحمل صفة التلميذ النجيب لليازغي في معاركه، سواء في مواجهة عبد الرحمان اليوسفي، أو محمد نوبير الأموي في عز قوة الاتحاد الاشتراكي. لا أحد كان يعتقد أن هذا المحامي الصغير سيتحول في ظرف زمني قصير إلى واحد من صقور الحزب. فحينما كان اليازغي يزبد ويرغي في وجه اليوسفي، وهو وقتها الكاتب الأول بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد في 1992، ظل ادريس لشكر يصر على أن رفيقه اليازغي هو الكاتب الأول بالنيابة وليس نائبا للكاتب الأول. وفي هذه الصيغة ما يكفي من الدلالات التي ستظر ملامحها حينما كان الحسن الثاني يرتب للتناوب الأول الذي كان سيقوده محمد بوستة باسم حزب الاستقلال. كان لشكر من أشد المتحمسين لهذه التجربة. وظل يدفع باليازغي لقبول الصفقة، خصوصا وأن اليوسفي كان وقتها غاضبا في منفاه الاختياري. فشل تناوب بوستة واليازغي، وعاد اليوسفي لقيادة التناوب التوافقي. لكن لشكر ظل يترقب متى يصل موعده. انتهت حكومة التناوب وما بعدها مع ادريس جطو حينما لم يحترم الملك المنهجية الديمقراطية في 2002. لكن حينما صعد سهم حزب الاستقلال في 2007 واختير عباس الفاسي وزيرا أول، عاد لشكر للواجهة. وكان أول خصومه هو صديق الأمس اليازغي، الكاتب الأول للاتحاد. وبمعرفته بسبل المناورة هنا وهناك، فتح ادريس لشكر النار على كاتبه الأول، وانتقد الطريقة التي دبر بها ملف الاستوزار، ونجح في تهييج أعضاء المكتب السياسي للدفع باليازغي إلى الاستقالة من منصبه بدلا من إقالته. كانت المفاجأة صادمة، كيف يقود صديق الأمس هذه الحرب التي حمل لشكر شعارا لها أن الكاتب الأول قبل بمجرد «صاكادو» في حكومة عباس الفاسي، في الوقت الذي كانت الخلفية أشياء أخرى. كيف يسقط اسم لشكر من الاستوزار وتصعد أسماء أخرى كجمال اغماني أو الشامي، وقبلهما الكحص مثلا. سقط اليازغي ووجه لشكر نباله في اتجاه حكومة عباس الفاسي الذي دعا الاتحاد إلى مغادرتها. وهدد بوضع اليد في يد العدالة والتنمية الذي كان وقتها يقود معارضة شرسة ضد حكومة عباس الفاسي. بل إنه وصف حزب الأصالة والمعاصرة بالوافد الجديد الذي تجب مواجهته. وصلت الرسالة لكبار حزب التراكتور، الذين كانوا يرسمون خيوط اللعبة من الخلف، وتلقى لشكر هديته حينما اختير بعد تعديل حكومي وزيرا مكلفا بالعلاقة مع البرلمان، أو «الصاكادو» الثاني لحزب المهدي وعمر، كما سماه الغاضبون. وتحول لشكر مائة وثمانين درجة نضالية، حيث أصبح من أشد المدافعين عن حكومة عباس الفاسي بعد أن كان يدعو إلى مغادرتها وإسقاطها. كان لا بد أن تفتح أمامه الكثير من الأبواب، ليس فقط بين دواليب الدولة، ولكن وسط الاتحاد الاشتراكي الذي جرب فيه كيف يمكن إسقاط كاتبه الأول، وكيف يمكن تغيير بوصلته من حزب يدعو إلى الخروج من الحكومة إلى ضرورة البقاء فيها وحماية تجربتها. لذلك فهم أن الطريق نحو الكتابة الأولى للحزب لن تكون أصعب من معارك الحكومات والتحالفات. اليوم لا يملك ادريس لشكر غير خطبه ومناوراته وقدرته على الصراخ في عز الحملة الانتخابية. لذلك فهو واحد ممن سيصنعون الفرجة السياسية في مشهدنا الحزبي، أكثر مما سيصنع مستقبل حزب القوات الشعبية. حميد شباط والأيادي الربانية لا أحد صدق وقتها أن حميد شباط، عمدة فاس، والرجل الأول في الاتحاد العام للشغالين، وضع ترشيحه لمنصب الأمين العام لحزب الاستقلال، أو أب الأحزاب المغربية. فحزب علال الفاسي ظل يزخر بالكثير من الوجوه السياسية التي تملك كاريزما منصب ومهام الأمانة العامة، بالإضافة إلى مثقفي الحزب واقتصادييه. لكن المفاجأة أضحت واقعا. فحميد شباط، ذلك العامل البسيط، سيصبح غدا أمينا عاما لحزب الميزان. انسحب الكثيرون من السباق نحو هذا المنصب احتجاجا على قبول ترشيح شباط. ولم يجد الغاضبون أمام هذا الوضع الجديد غير الدفع بنجل علال الفاسي عبد الواحد الفاسي ليواجه هذا المستجد. اعتقد الكثيرون أن ذلك سيوقف شباط عند حده. وراهن الكثيرون على اسم عبد الواحد الفاسي، باعتباره نجل أحد رموز الحزب، لتنطلق الحملات الانتخابية بين هذا الجناح وذاك. ففي الوقت الذي ظل عبد الواحد الفاسي يتحدث عن ضرورة إنقاذ الحزب وحماية رأسماله الرمزي، انبرى شباط ليتحدث عن محاربته لتوريث الحزب، ومواجهة العائلات الفاسية التي هيمنت منذ تأسس حزب الإستقلال. وبدا أننا أمام حرب غير متكافئة هي بين الفكر والشعبوية. والحصيلة هي أن شباط عرف في نهاية اللعبة كيف يقنع «مناضلي» المجلس الوطني وينتخب أمينا عاما. لم يخف عبد الواحد الفاسي غضبه مما حدث. وقال في أكثر من تصريح صحافي إن شباط اشترى بعض أعضاء المجلس الوطني. فيما رد شباط بأسلوبه الساخر والفرجوي أن أيادي ربانية هي التي حملته لقيادة أقدم الأحزاب المغربية. ولا غرابة أن يحتمي شباط بهذه الصيغة اللاهوتية، وقد سبق أن جرب ذلك في معاركه من أجل عمادة فاس حينما قال مرة إن فاس ذكرت في القرآن، ورسم لنفسه صورة وهو نازل على براق فوق سماء فاس. إنها اللعبة التي يحسنها شباط. ففي الوقت الذي يستحضر الآخرون تاريخهم السياسي ونضالاتهم، يستل الأمين العام لحزب الاستقلال من تحته صيغ الدين والأيادي الخفية التي ترسم مستقبله. غير أن هذه الخيوط الربانية، ستتغير اليوم وهو يهدد بنكيران في كل مناسبة، خصوصا في عز الحملة الانتخابية التي أشعلها شباط بتصريحات نارية ضد الحكومة التي نزلت بثقها لضربه في معقله فاس. العماري الذي لا خصم له غير البيجيدي لا يخفي إلياس العماري، هذا الريفي الذي ظل رمزا من رموز المجتمع المدني بجهة الشرق قبل أن تلتهمه يد المخزن ويصبح من أقرب المقربين لعراب الأصالة والمعاصرة، فؤاد عالي الهمة، هجومه الكاسح على حكومة بنكيران وحزب العدالة والتنمية. ففي كل مناسبة لا بد لصوت العماري أن يخرج للعلن. واليوم بعد أن اندلعت المعركة الكبرى بين البام والبيجدي، ظل نائب الأمين العام لحزب «التراكتور» يردد أن بنكيران يخلط بين صفته كرئيس حكومة، وصفته كأمين عام للحزب. بل إن هذه الجماعة التي تملك سلطات الحكومة، تراهن على امتلاك سلطات الدولة أيضا، رغم أنها تقدم نفسها في كل مناسبة ضحية أمام جلاد. إلياس هو الوجه الآخر لحزب الأصالة والمعاصرة، إلى جانب بن شماس في مجلس المستشارين. وليس صدفة أنهما ينتميان معا لجهة الشرق. هو الوجه الآخر الذي يفتح الجبهات، ويصعد اللهجة كلما كان الخصم إسلاميا. أما مكونات حكومة بنكيران، فهم في نظر الياس العماري، مجرد أجراء لا شركاء، لأن صوتهم خافت لا يسمع. لم يكن رئيس الحكومة بنكيران فقط هو المستهدف من خرجات إلياس. فقد وجه سهام نقده لوزراة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي دفعت ببعض خطبائها لمساندة مرشحي حزب المصباح من أعلى منابر المساجد. لقد حول بنكيران، حسب العماري، الحكومة إلى حكومة الحزب الوحيد. ومشروعه الآن أن يحول الدولة إلى دولة الحزب. وحينما يتحدث بنكيران عن العفاريت والتماسيح، يشرح العماري أن المعني بذلك هو المؤسسة الملكية، وهو يستحضر أن حكاية هذه التماسيح أطلقت حينما تم منع نشاط الشبيبة الإسلامية في طنجة لأنه كان يريد فتح ملف البيعة والولاء وإمارة المؤمنين. إنه الرجل الأكثر إثارة للجدل بين مناضلي الأصالة والمعاصرة. فبعد تجربة قضاها بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري «الهاكا»، حمل حقائبه ليجرب التسيير في عالم الكرة حيث ظل يرأس فريق شباب الريف الحسيمي، قبل أن يستقيل من هذا المنصب حينما وضع الفريق رجله على السكة الصحيحة. لأن مهام إلياس كانت أكبر من الكرة. إنها المواجهة الصريحة لحزب بنكيران ولهذا التوجه الجديد، الذي قال إنه يريد أن يحول الدولة إلى دولة الحزب. اتهم العماري من قبل خصومه بالفساد والاستبداد. وقالت العدالة والتنمية إنه هو من تسبب في اعتقال جامع المعتصم، أحد نقابيي البيجيدي. ولم يتردد الكثيرون من البيجيدي في وصفه ب»السلكوط». وهي الاتهامات التي لا يخفي إلياس رأسه في الرمال لكي تمر. بل إنه كثيرا ما وقف في مواجهتها بكل صلابته الريفية. تلك الصلابة التي يحولها أحيانا إلى أداة للمواجهة وإثارة الجدل. اليوم يشكل الياس العماري واحدا من الجيل الجديد الذي يملك كل مواصفات الفرجة السياسية التي قد تحقق نسبة متابعة جيدة، لكنها غير كافية في وضع طرق الإصلاح في تدبير الشأن العام.