في أحد أضواء الإشارة الحمراء، يقف طابور من السيارات في انتظار اشتعال الضوء الأخضر. فجأة، يشتعل الضوء وينتظر الجميع أن تتحرك السيارة الأولى. يطول الانتظار قليلا دون أن تتحرك السيارة. يفقد السائقون الآخرون أعصابهم فيطلقون العنان لأبواق سياراتهم، لكن سيارة المقدمة لا تتحرك. يطول الانتظار، فيشتعل الضوء الأحمر من جديد. فجأة، يفتح باب السيارة الموجودة في المقدمة ويخرج سائقها مترنحا وهو يفرك عينيه غير مصدق ما جرى له. يقترب منه مارة وسائقون آخرون ليعرفوا ما حل به، فيكتشفون أن السائق أعمى، وأنه أصيب بالعمى لتوه. أحد المارة يتطوع ويسوق السيارة ويحمل الرجل الأعمى إلى بيته بعد أن يطمئنه بأنها حالة عابرة وينصحه بزيارة الطبيب في أقرب وقت. لكن في اليوم الموالي، يصاب ذلك الرجل الذي رافق الأعمى بدوره بالعمى، لأن العدوى انتقلت إليه. تثير هذه الحادثة اهتمام وسائل الإعلام التي تساءلت في البداية كيف يمكن للعمى أن يكون معديا. وقبل العثور على إجابة، تأتي الأخبار من كل مناطق البلاد متحدثة عن إصابة الكثير من المواطنين بالعمى، فتحدث جلبة كبيرة وتنتشر المخاوف من انتشار فيروس العمى، أو بعبارة أكثر تناسبا «أنفلونزا العمى». مع مرور الأيام، تتحول عشرات الإصابات بالعمى إلى مئات الإصابات، ثم يتحول آلاف المواطنين إلى عميان، وتضطر السلطات إلى وضعهم في محاجر صحية مخافة إصابة المزيد من الناس بالعدوى، غير أن هذه المحاجر تحولت إلى مراكز للتقاتل بين العميان من أجل قطعة خبز أو للحصول على مكان جيد للنوم، لأن المشرفين على هذه المراكز إما أنهم يصابون بالعمى ويتحولون بدورهم إلى نزلاء، أو أنهم يهربون مخافة انتقال العدوى إليهم. بعد حوالي شهر من الإصابة الأولى ب«أنفلونزا العمى»، ستتحول البلاد إلى مركز كبير للعميان، وستصبح هناك مشاهد رهيبة للفوضى العارمة في كل شيء. الجيش يقتل من فوق، أي من طائرات الهليوكبتر، كل العيمان الذين يحاولون الوصول إلى مناطق الأصحاء، ومناطق واسعة من البلاد تحولت إلى مراحيض مفتوحة حيث يقضي العميان حاجتهم في أي مكان، والأموات يملؤون الشوارع ورائحة الجثث تزكم الأنوف لأنه لا يمكن دفن الموتى العميان من طرف العميان الأحياء. الشعب الذي كان مبصرا تحول أكثر من 99 في المائة من سكانه إلى عميان، وأصبح الناس ينتظمون في مجموعات بدائية بحثا عن الماء والكلأ، وصار من المألوف أن تسير مجموعات كبيرة من الناس في خطوط طويلة وهم يمسكون بحبال حتى يبقوا متجمعين. ومع مرور الوقت، دخلت البلاد في ما يشبه حربا أهلية بين العميان، وصار الناس يتقاتلون من أجل قطعة خبز أو جرعة ماء، وعوض أن يبحثوا عن الأمكنة ومصادر الطعام بعيونهم، فإنهم صاروا يعتمدون على حاسة الشم القوية، ثم يتقاتلون من أجل الوصول إلى الأسواق الممتازة والمراكز التجارية المهجورة ومصادر المياه. لم تعد هناك لا حكومة ولا جيش لأنه لا يمكن لحكومة عمياء أن تحكم شعبا أعمى، ولا يمكن لجيش أعمى أن يحمي شعبا بلا عيون. هذا ملخص سريع لرواية «العمى»، التي ألفها الكاتب البرتغالي الفذ خوسي ساراماغو، وهي رواية مرعبة وغارقة في خيال جامح، لكنه خيال يمكن أن يتحول إلى واقع في أي وقت. وفي كل صفحة من صفحاتها، يمكن للقارئ أن يكتشف أن ما يقرؤه ليس مجرد خيال، بل هو تكهن بمستقبل قريب. ألّف ساراماغو تلك الرواية العجيبة منذ أزيد من 10 سنوات، أي قبل أن تظهر أمراض مثل «أنفلونزا الدجاج» أو «أنفلونزا الخنازير»، والذين قرؤوها وقتها كانوا يعتقدون أن الكاتب يتخيل عدوى غريبة لن تحدث يوما، لكن اليوم، ومع موضة ظهور الأنفلونزات الغريبة، لا أحد يمكنه أن يستبعد أن تأتي الأخبار يوما بحادث سائق سيارة يصاب بالعمى فجأة أمام أضواء إشارة، وبعدها يصاب الرجل الذي رافقه بالعدوى، وبعد ذلك يصاب الناس كلهم بالعمى... ثم تنطلق الفوضى العارمة في كل شيء. في كل الأحوال، فإن الشعوب المتخلفة والصامتة لا يجب أن تقلق كثيرا من هذه العدوى المخيفة، لأنها أصيبت بالعمى من زمان وهي ترى حكامها ومسؤوليها ينهبونها من دون أن تحرك ساكنا، ولا تتحرك رغم الفوضى العارمة التي تجري أمام عيونها المفتوحة عن آخرها.. لأنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.