حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – بالإضافة إلى علال الفاسي، هل كانت تتردد على منزله شخصيات سياسية أخرى؟ لا أتذكر بالتحديد، لكن الذي أعرفه أن «موسيو لومور» كان يحظى باحترام كبير جدا من طرف الوطنيين المغاربة، وكانوا يستشيرونه في الكثير من الأمور. علاقة لومور والوطنيين المغاربة اتسمت بالكثير من الثقة، ولا غرابة أن يتولى ثاني أهم منصب حساس داخل وزارة التعليم بالمغرب بعد حصول المغرب على الاستقلال، والكل يعرف أهمية هذا القطاع، حيث كان يراهن عليه كل من القصر وأحزاب الحركة الوطنية. – من تدخل كي يتولى لومور هذا المنصب الحساس؟ عتقد أن تولي المناصب السياسية في مغرب بعد الاستقلال كان بيد القصر من جهة، والأحزاب السياسية من جهة أخرى. لذا من المرجح أن تكون جهة ما هي التي دافعت عنه، وأنا شخصيا أرجح أن تكون أحزاب الحركة الوطنية دفعت به لتولي هذا المنصب بالنظر إلى العلاقات القوية التي كانت تربط بينهما. – في هذه المرحلة تخلصت تماما من خالك باحماد؟ ( يبتسم) باحماد كان مزهوا جدا بوقوع الاختيار علي كي أرافق ابن «موسيو لومور» داخل منزل فاخر، وقد وجد فرصة أخرى كي يقول للناس إن ابنه يعيش مع عائلة محترمة وفي حي فاخر بالرباط. الأهم أني أفلتت من قبضته القاسية، وأفلتت من المواضعات التي كان يفرضها علي دون وجه حق. – ألاحظ أنك لا تتحدث عن رأي عائلتك في الكثير من الأحداث التي عايشتها أثناء هذه المرحلة؟ باحماد كان مستعدا لفعل أي شيء كي لا ألتقي بوالدتي أو أي فرد من عائلتي للحديث معه وبالأحرى استشارته: كان يأخذ القرارات المتعلقة بي بشكل انفرادي دون أن يستشير أحدا، وإذا فعل ذلك يفعله من باب تحصيل الحاصل، وهذا بالذات ما حدث عندما اقترح عليه «موسيو لومور» أمر انتقالي إلى منزله. بالنسبة إلي لم يكن يهمني أن يستشير أحدا إذا كان الأمر يتعلق بالرحيل عنه، لاسيما أني كنت مستعدا أن أرجع للعيش ب«براكتنا» البسيطة عوض تحمل كل ذلك الألم الذي كان يسببه لي. لا يمكن أن يتخيل أي أحد حجم القسوة التي تلحق بالإنسان وهو يعيش بهوية مزيفة لا علاقة لها بهويته الحقيقية. – أنت بصدد كتابة مذكرات شخصية تستعيد فيها الكثير من أحداث حياتيك، ورغم أن باحماد سبب لك الكثير من الألم، فهو حاضر بقوة في ثنايا العنوان، هل تريد تصفية الحساب معه أم التصالح مع هويتك المزيفة؟ عشت لمدة طويلة بهويات مزيفة، وتسبب لي هذا الموضوع في الكثير من الاضطراب ومن التوتر أيضا، ربما هذا هو السبب الرئيس الذي جعلني أكرس اسم خالي باحماد في عنوان مذكراتي. رغم كل ما جرى، فإن خالي ساهم بشكل أو بآخر في صنع شخصيتي، خاصة أنني عندما التحقت به كان عمري ست سنوات، وهو العمر الذي يبدأ فيه المرء بتكوين شخصيته، وأنا أدين له بشيء واحد ووحيد، هو أنه صنع مني شخصية قوية جدا، إذ استطعت أن أواجه حزمة من المشاكل الشخصية والسياسية بحكمة كبيرة. – قبل أن أثير معك هذا الموضوع بتفصيل دقيق، أنت الوحيد الذي أفلت من قبضة المخزن، فيما واجه أصدقاؤك المقربون مصائر مأساوية. هل أفهم أنك كنت حقا مؤرخا للسلطة أم كنت تقترب وتبتعد وتعمل بنصيحة الحسن الثاني: السياسة كقطب الرحى إذا اقتربت منها صقلتك وإذا ارتميت في حضنها عجنتك؟ (يضحك) فيما بعد سأتحدث عن هذا الموضوع، ولاشك أنك ستعرف حقائق جديدة حول أصدقائي. لم أعمل بنصيحة الحسن الثاني، وكل ما كنت أفعله نابع من قناعات شخصية لا أقل ولا أكثر. بيد أن المخزن كان عنيفا في تلك الفترة، وبالنسبة إلى رجل مثلي كان يواجهه بالوثائق والمقالات، فقد كان الأمر أشبه ما يكون برجل واحد يواجه جيشا بأكمله في ساحة الحرب. لقد كنت مضطرا أن أكون متوازنا في الكثير من المواقف، ولو لم أفعل ذلك للاقيت نفس مصير أصدقائي.