حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – قلت إن باحماد فرض عليك أن تناديه ب«أبي» عوض خالي، هل رضخت لطلبه؟ لم يكتف بذلك، بل فرض علي أن أنادي زوجته ب«أمي رقية». لم أرضخ في البداية لضغوطه ووجدت صعوبة بالغة في التأقلم مع الوضع الجديد. كنت طفلا صغيرا جدا، ولم أستوعب قط ما يحدث لي. خالي لم يكن يهمه في تلك المرحلة سوى أن يظهر للعالم أن لديه ابنا، خاصة أنه أخبر مدير «ليسي غورو» أن زوجته الأولى ولدت له طفلا. ولم يجد باحماد من وسيلة لتطويعي سوى استخدام العصا، حيث كان يضربني بقسوة بالغة، والأنكى من ذلك أنه كان يستعمل السوط، وقد رأيت مرات عديدة أثر الضرب على ظهري الصغير. لهذا السبب، قلت لك إن باحماد لم يحترم أيا من العهود التي قدمها للوالد حينما جاء لأخذي معه إلى الرباط. على العموم، تأقلمت مع الوضع، وكلما أوصل أحد خبرا إليه بأني لا أناديه بأبي، يلجأ إلى ضربي بقسوة. – كم كان عمرك حينما التحقت بالمدرسة؟ بحكم العلاقة التي كانت تربط خالي باحماد بمسؤولي ثانوية مولاي يوسف، فقد التحقت بمقاعد الدراسة قبل بلوغي السن القانونية، حيث بدأت أحضر الحصص الدراسية وأنا في سن السادسة. – هل درست معك أسماء صارت شخصيات سياسية فيما بعد؟ كانت هناك أشخاص اشتغل بعضهم في الجيش وفي الإدارة، وقد كان معي في نفس القسم عبد اللطيف جبرو. كل العائلات التي كانت تدرس أبناءها في ثانوية مولاي يوسف كانت عائلات برجوازية معروفة، وكنت الوحيد تقريبا الذي ينتمي إلى الطبقة الفقيرة، وربما هذا الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشفع لباحماد. في هذه المرحلة عشت مراحل قاسية بعد فترة الهدنة مع خالي باحماد، إذ بدأت زوجته رقية تتعامل معي بقسوة ولا تأبه بي، وتتضايق من تصرفاتي، وقد حدث مرات عديدة أن قامت بأشياء كانت تضر بي، منها أني كنت أقوم بأعمال منزلية مختلفة. وإذا أردت الحقيقة، فقد كنت أحس بأنها تكرهني كرها شديدا، إلى درجة أنها شرعت في إخبار خالي بأشياء غير حقيقية كي ينزعج مني. – أحس كأنك تصفي دينا تاريخيا مع خالك باحماد. كان اتفاقنا قبل أن نبدأ تسجيل هذه الحلقات أن أخبرك بالحقيقة كلها، وأنا الآن أحكي لك ما جرى دون رتوشات أو تزييف للحقائق. على كل حال، خالي كان قاسيا جدا، ويمكن بعد أن مضت سنوات كثيرة أن تقدر ظروفه وظروف زوجته. لحسن الحظ، شاءت الأقدار أن أنتقل للعيش مع عائلة فرنسية. – وما قصة هذا التحول؟ كل ما في القصة أن رب هذه العائلة «موسيو لومور» كان مديرا للتعليم بالمغرب، وكان يعرف خالي باحماد، فطلب منه أن أنتقل للعيش معه لأنه كان يبحث عن رفيق لابنه بعدما ماتت ابنته نيكون إثر عملية جراحية. لم يتردد خالي في الموافقة على طلب مدير التعليم بالمغرب، فبدأ مسار غير حياتي بكاملها، ف«موسيو لومور» كان متخصصا في التاريخ، وكان له الفضل في تشجيعي على دراسة التاريخ. قضيت سنتين في منزل فاخر بالحي الإداري المحاذي لمقر وزارة الخارجية الآن. (يبتسم) كنت أظهر كأني ابن عائلة برجوازية لأنني كنت ألبس ثياب ابن «موسيو لومور». – لماذا تم اختيارك بالذات كي ترافق ابن مدير التعليم بالمغرب؟ «موسيو لومور» سبق له أن رآني مع خالي باحماد حين كان يصلح بعض الأشياء في منزله، فاقترح عليه أن أعيش معه في منزله رفقة ابنه كي لا يحس بالوحدة بعد موت أخته نيكون بفرنسا. صرت أشعر بالراحة وتخصلت من الضغط الرهيب الذي كنت أعانيه يوم كنت أعيش بمنزل خالي باحماد، إذ لم أنس إلى حدود اليوم كيف كان يريد أن يحرمني من رؤية والدتي حتى لا أخبرها بالتعامل السيء والقاسي الذي كنت ألاقيه منه ومن زوجته. كان يخشى أن أخبرها بأنه يقول لكل أصدقائه إني ابنه من زوجته الأولى، ورغم ذلك استطعت أن أخبرها، وقد ذرفت يومها الكثير من الدموع.