حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – أغلب الذين يعرفونك، يربطون دائما بينك وبين منطقة الشمال، رغم أن أصلك سوسي، ما مصدر هذا الغموض؟ أولا، من الصدف الجميلة أنني سأبدأ بالاعتراف لك في فترة كنت قد بدأت فعلا أحرر فيها مذكراتي، التي عنونتها بمذكرات «ولد باحماد..الرجل الذي اختار اسمه وتاريخ ومكان ميلاده». أما مصدر هذا الخلط الحاصل عند الناس حول انتمائي الجغرافي، فمصدره أني كتبت كثيرا عن المنطقة الشمالية، وكتبت خاصة في موضوع جيش التحرير، الذي كنت أول من بدأ بالكتابة حول تاريخه الحقيقي لا المزيف، وسأعود في الحلقات المقبلة للحديث عن الموضوع بشكل مفصل. – وماذا عن نشأتك؟ قصة حياتي غريبة إلى حد ما، إذ أن اسمي الحقيقي ليس هو زكي مبارك، وخلال فترة طفولتي كنت معروفا باسم «ولد باحماد»، وباحماد ليس إلا خالي الذي أطلق علي هذا الاسم عنوة بعدما احتضنني في سن مبكرة. والدي يدعى إبراهيم بوهوش ووالدتي هي عائشة السملالية، ولدت بقرية إيدا أوسملال ضواحي تيزنيت، بينما لا أعرف تاريخ ميلادي بدقة، فقد اعتمدت على ما قالته الوالدة بأنني ولدت يوم دخل الأمريكيون إلى مدينة الدارالبيضاء أي في نونبر سنة 1942. بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية اضطر والدي إلى أن يستقر بمدينة الدارالبيضاء، وبالتحديد بكاريان ابن مسيك الصفيحي، حيث نزح العشرات من سكان بلدتي إلى المدينة بحثا عن تحسين ظروفهم المعيشية وتوفير أبسط مقومات العيش الكريم. في تلك الفترة اشتغل والدي بميناء الدارالبيضاء بعد تدخل أحد أفراد عائلته. – قبل أن أعود إلى قصة اسمك، ماذا تقصد باحتضان باحماد لك؟ باحماد كان عاملا بثانوية مولاي يوسف بالرباط، وقد كان متزوجا من سيدة اسمها رقية، لكنه لم يكن لديه أبناء، وقد فكر ساعتئذ أن يفاتح والدتي في أمر تربيتي وتدريسي بالرباط، وكذلك كان، حيث توجهت إلي والدتي بكلمات أمازيغية مليئة بالحزن: قبّل يد خالك. والدتي رغم ذلك أخبرت باحماد بأنه لا يمكن أن يأخذ قرارا بهذا الحجم إلا بعد الرجوع إلى والدي. عاد باحماد إلى الرباط، وكان من الصعب جدا أن تتخذ عائلتي هذا القرار. للحقيقة، لم يتحمس والدي كثيرا للفكرة، لاسيما أنه كان يحبني كثيرا، وقد سمعته مرات كثيرة يطلب من والدتي ومن أختي أن لا يقلقاني، كما رفض التحاقي ب»المسيد» لأنه رأى كيف كان يتعامل الفقيه مع التلاميذ، وكيف كان يضربهم بقسوة. هذه بالنقطة بالذات تسببت في حدوث خلاف كبير بين والدي ووالدتي، وجاءت فكرة خالي بتربيتي لتعمق هذا الخلاف أكثر. بعد حوالي شهر، زار خالي عمر، الذي كانت تعزه والدتي كثيرا، وقد فهمت من الزيارة أنه جاء كي يقنعها بفوائد انتقالي إلى الرباط للسكن مع باحماد. إذا لم تخني الذاكرة، فقد قال لوالدتي إن الحي الذي يسكن فيه باحماد هو حي راق بالرباط. – بالنسبة لوالدتك، هل كانت موافقة منذ البداية على انتقالك للعيش مع خالك بالرباط؟ هي أيضا كانت مترددة جدا في اتخاذ القرار، لكن والدي كان رافضا منذ البداية قبل أن يقتنع في آخر لحظة، مشترطا أن أقضي عطلتي الصيفية معهم في الدارالبيضاء، بالإضافة إلى الاعتناء بي. وافق باحماد على الشروط التي اقترحها والدي، رغم أنه فعل عكس ذلك تماما، وهذا موضوع سأعود إليه فيما بعد. انتقلت بعد ذلك إلى حي حسان بالرباط، وأقنع باحماد مدير «ليسي غورو» بأن أسجل فيها بعدما أوهم الجميع بأني ابنه ولست ابن أخته. عرفت بعد مدة أن خالي كذب على الجميع حينما قال لهم إني ابنه من زوجته الأولى التي طلقها، وقد قال للمدير إني ابنه. خشي خالي أن يعرف الناس ومن حوله أنه يعاني من مشكل جنسي، فاختلق هذه الكذبة الغريبة، وهي كذبة تحملت بسببها الكثير من الظلم والكثير من الألم، سأحكيه لك بتفصيل دقيق جدا، لأنه ساهم بشكل كبير في نحت شخصيتي. ما تحملته كان قاسيا جدا، ولا يمكن أن تتصوره مهما سردت بعض تفاصيله: طفل صغير يوظف في حسابات الكبار بطريقة سيئة للغاية.