كانت أحياء المدينة والملاح والتناكر متفرعة إلى دروب وأزقة. لم تكن مهيكلة كما في المدن العتيقة مثل الرباط ومراكش. لكنها كانت، على الأقل، تشكل وحدة صغرى كافية لتأمين متطلبات الحياة المادية والروحية للسكان. إذ كانت، في الغالب، تضم مسجدا أو مكانا للعبادة، وكتّابا قرآنيا أو مدرسة أولية، وحماما، وفرنا، وبعض الدكاكين الصغيرة لممارسة التجارة. غير أنها لم تكن موصولة بشبكة للماء أو الكهرباء، وكانت تفتقر إلى قنوات الصرف الصحي، ولم تكن مبلطة، إذ كانت مجرد أزقة طينية، في الصيف تكون مغبرة، وفي فصل الشتاء موحلة. كما لم تكن تحمل أي اسم أو رقم. الأزقة الوحيدة التي كانت معمدة بأسماء هي: زنقة كوماندان بروفو: وهو اسم ضابط فرنسي قتل في معركة بين القوات الفرنسية وقبائل الشاوية في غشت 1907. ولا تزال هاته الزنقة تحمل اسمه حتى الآن. زنقة كابتن إلر: سميت بهذا الاسم تخليدا لذكرى النقيب الفرنسي شارل إلر، الذي قتل في 19 أكتوبر 1907 في معركة عند مدخل الدارالبيضاء. هاته الزنقة تحمل الآن اسم شكيب أرسلان. زنقة الصليب الأحمر: لا تزال تعرف لدى سكان المدينة القديمة إلى حد اليوم باسم «كروا روج». وقد سميت بهذا الاسم لوجود مقر الصليب الأحمر بها. باستثناء هاته الثلاث، كانت بقية الأزقة الأخرى مهملة وبدون أي عنوان. فكان السكان كلما أرادوا الإشارة إلى درب أو زقاق أو تحديد مكانه كانوا يقولون: «الزنقة التي يسكن بها فلان»، كما يروي ذلك كريستيان هويل. نظام تسمية الأزقة وترقيم المنازل سيبدأ العمل به في الدارالبيضاء سنة 1909 بالتحديد، بعد الإنزال العسكري الفرنسي بعامين تقريبا. في هاته السنة سيكلف الجنرال الفرنسي ألبير داماد الضابط دوسينيي، الذي عيّن عمدة للمدينة، بفتح مصلحة للنظافة والطرق. وللقيام بهاته المهمة سيستعين العمدة الجديد بضابط الصف بريث، الذي كان قد كلف من قبل بجمع جثث ضحايا الدارالبيضاء بعد قصفها في غشت 1907. أنجزت العملية على مرحلتين: في المرحلة الأولى قام بريث بتسمية الأزقة، وفي الثانية عمل على ترقيم المنازل. كانت العملية بسيطة، لم تكلف ضابط الصف الفرنسي سوى دلو للصباغة وفرشاة. يحكي هويل في كتابه «mes aventures marocaines» أنه «في صباح يوم جميل حمل بريث دلو الصباغة وفرشاة وباشر عملية تسمية الأزقة». لم يحتج بريث إلى جهد كبير في تسمية الأزقة. إذ كان يكفيه أن يلاحظ علامة فارقة تميز ذاك الزقاق حتى يسميه باسمه. وهكذا «صارت لدينا، يحكي هويل، زنقة الاتحاد لأنها كانت مقر أول نقابة عمالية أسست من قبل لوندرا (مستخدم فرنسي كان يشتغل بمحل للبقالة قبل أن يشرع في المتاجرة في الأراضي. كانت له ميولات اشتراكية): الاتحاد العمالي.. وزنقة الفرن بسبب وجود فرن للخبز بها.. وزنقة الجمل.. وزنقة النخلة..وزنقة الحصان الأخضر.. بسبب وجود جمل ونخلة وحصان مسرج بسرج أخضر». نفس المنطق التبسيطي سيطبق على أزقة أخرى: درب القنصلية الإنجليزية، درب القنصلية الإسبانية، درب الديوانة، درب البحرية، درب بوسكورة… بعض هاته الأزقة ما زالت تحتفظ حد الآن بنفس أسمائها العتيقة. في 22 شتنبر 1909 ستصير للدار البيضاء، لأول مرة في تاريخها، منازل مرقمة، وأزقة تحمل أسماء، وإن كانت هاته الأسماء بسيطة حد السذاجة أحيانا، لكنها على الأقل بدأت تساعد في التحديد المكاني. كما أخذت تساهم في تيسير مهمة سعاة البريد، كما يروي هويل. إذ أصبحوا يوزعون الرسائل بشكل صائب، وبدون ارتباك أو أي مشاكل. غير أن هذا النظام لن يدوم طويلا. إذ ستقوم المجالس البلدية المتعاقبة بتغيير كل الأسماء التبسيطية التي وضعها ضابط الصف بريث، وتعويضها بأسماء أخرى.