صدرت مؤخرا عن منشورات «كازا إكسبريس» طبعة جديدة لمؤلَّف «مغامراتي المغربية» لكريستيان هويل٬ المنشور في طبعة أولى سنة 1954 بعد أن نفدت من السوق. هذا الكتاب إلى جانب كونه يعد مرجعا هاما حول الولادة الأولى لمدينة الدارالبيضاء الحديثة فهو يلقي الضوء عن مرحلة هامة من تاريخ المغرب، إنها تلك المرحلة التي سبقت دخول الاستعمار للمغرب. تحكي مذكرات كريستيان هويل «تجارب» أول صحافي دخل إلى المغرب سنة 1904، وهي تعد مرجعا بالغ الأهمية بالنسبة للمهتمين بتاريخ المغرب والمغامرة الاستعمارية للحماية. ويوضح هذا الكتاب، الذي جرت العادة أن يعتمد مرجعا في المؤلفات حول الدارالبيضاء، كيف وضع الفرنسيون يدهم على المغرب ما بين 1907 و1912، وميلاد الدارالبيضاء. وجاء في المقدمة التي كتبها إيريك لوبراز، مدير تحرير نشرة «أكتوييل»، أن مؤلف «مغامراتي المغربية» يعتبر «شهادة لمغامر اختار مهنة مثالية ليعيش مخاطر :مراسل. وقد جال عبر المغرب في فترة مفصلية من تاريخه، وكان دائما يحضر في الوقت والمكان المناسبين». ويشير كاتب المقدمة إلى أن الجزأين الأولين من المغامرات يعتبران مغريين، فهويل، المراسل الصحفي منذ أكثر من قرن، «يدعونا إلى ملحمة حقيقية. إنه كتاب حقيقي لصحافي، حيث التاريخ هو الغاية الأساسية»، مشيرا إلى أنه بعد 30 صفحة، يتحول إلى رجل آخر يكتب «أشعر أنني تحولت إلى عربي، الذي كنت أحلم به». وأضاف أنه خلال الفصول اللاحقة، يغير الكاتب قلمه ليتحول إلى مدافع عن المعمرين، ليخلص إلى أن «كريستيان هويل يرسم للمغرب لوحة تتحرك، ويكتب بتنوع كبير، بالكاد مشوب بالمرارة. وتعتبر «مغامراتي المغربية» بمثابة ربورطاج طويل يقرأ كأنه رواية». كما تتضمن مقدمة هذا الكتاب شهادة أخرى لغيوم جوبان، رئيس المدرسة العليا للصحافة بباريس، يؤكد فيها أن المؤلف «يصف بأسلوب واضح جدا، بسيط وشاعري، الأحداث التي ستؤدي إلى اغتراب المغرب لفائدة القوى الأوروبية في بداية القرن العشرين». يذكر أن كريستيان هوي، كان أول صحافي دخل المغرب سنة 1904، حيث تنكر في ثياب عربي، وكان يتحدث ب»الدارجة» المغربية، الشيء الذي مكنه من أن يجوب المغرب. وقد أسس المؤلف «مشاهد مغربية» سنة 1909 و»العمل المغربي» سنة 1910 وكذا الأسبوعية البيضاوية الأولى «لي زانال». يحكي هويل بأسلوب روائي دقيق عن الأشخاص الذين ساهموا في خلق الأحداث والتغيرات، وبالخصوص في مدينة الدارالبيضاء، كما يصف الأمكنة التي كانت نافذة لدخول المستعمرين، ويتعلق الأمر بالمرسى الذي توقفت به بواخر كانت تحمل قادمين جددا سيقتحمون الأراضي المغربية، التي كانت هدفا لكثير من القوى الاستعمارية باعتباره الجنة الموعودة. كما أنه يحكي عن البنية السكانية لمدينة الدارالبيضاء وما عرفته من تغير، فقد ازداد عدد سكان الدارالبيضاء من 20000 مغربي مسلم إلى 45000 نسمة نهاية 1912، شكل فيها المغاربة 25000 و9000 من المغاربة اليهود، إلى جانب 7000 فرنسي و2500 إسباني و2200 إيطالي. لكن في سنة 1913 سيرتفع عدد المغاربة إلى 40000 مغربي و12000 فرنسي. ويشير المؤلف إلى أن هذا التمركز المهول أدى إلى نقصان في الوقاية والبنيات التحتية الأساسية ، ونتج عن ذلك انتشار التيفوس الذي تسبب في وفاة عدد كبير من السكان. ويعد هويل من بين القلائل الذين فضحوا هذه الوضعية الخطيرة في حين أن زملاءه التزموا الصمت. ولم يفت المؤلف الحديث عن الإبادة التي قام بها الفرنسيون حينما كانوا يتعمقون في الشاوية، حيث كانوا يطلقون النار على كل شيء يتحرك، إذ المواجهة لم تكن متكافئة فقد كانت الترسانة الفرنسية جد متطورة في حين أن السكان كانوا يدافعون عن أنفسهم ببنادق تقليدية. وقد بقيت هذه الذكريات بمثابة «الكابوس» عند هويل الذي لم يكن محايدا في كل الحالات ، بل كان أحيانا يدافع عن مصالح المعمرين حتى لا يتهم بالخيانة. في جانب ثان تحدث عن بعض العمليات التي وقعت في الدارالبيضاء، والتي نسبها إلى ما سماهم ب«لزانديجين»، ويذكر في هذا الإطار ما وقع للقطار البخاري. إذ يكتب: «ما تزال تتراءى لي تلك المأساة بكل تفاصيلها المهولة، كما رواها لي السيد فورني مدير الشركة المغربية. في صبيحة، جاء «ليزاندجين» أعطوا لبعض الفرنسيين إنذارات غير واضحة... القطار انطلق دون اعتبار لهذه التحذيرات. في الطريق وجد أحجارا كبيرة وسط السكة الحديدية. وقف. نزل عامل من أجل إزاحتها،ضربوه بالهراوة. الميكانيكي «غاتا» قفز وهرب نحو البحر، لكن أمسكوه وقتلوه.بعد ذلك، هرب الآخرون نحو البواخر والبحر. طاردوهم وقتلوهم...» ويضيف «لنكن عادلين بالنسبة للبيضاويين، لم يشاركوا في هذا العمل «البطولي الدموي». ويشير إلى أن هناك ثلاثة: «أعراق» في المغرب»: العرب الذين جاؤوا من الشرق الكرماء والأنيقين، والمؤدبين، و«البرابرة»، جبالة، البخلاء، وإليهما يضيف «ضراوى» الذين قال عنهم إنهم من وادي درعة من قلب موريتانيا، فهؤلاء ذو السحنة السمراء الذين يتعيشون من مهن فقيرة، والذين يحتفظون في داخلهم بالطبع الحاد «اللإنساني» للصحراء والقفار، هم من قام ب«إبادة كازابلانكا» كما يزعم هويل. وقد خصص المؤلف فصلا في مذكراته للدار البيضاء بعنوان «الأيام الأولى بكازابلانكا/من 30 يوليوز إلى 10 غشت 1907». ووصف الحياة العامة بالمدينة القديمة بالخصوص. يكتب أن «الملاح المجاور عامر، فيه الحركة الدائمة أكثر من الأيام الماضية. الهجرة الحديثة لكثير من العائلات لم تترك مكانا فارغا. وبذلك ارتفعت الحركة التجارية، وضجت الأزقة ببائعي الخضر، والجزارين في الهواء الطلق ،كل الدكاكين مفتوحة .النساء يجلسن أمام أبواب المنازل يتحدثن بطريقة فجة..» ويضيف متحدثا عن حي «تكار»، هو حي مليء بالمغاربة، والحركة، التي تفوق ما يوجد في مركز المدينة، إنها المدينة العربية بدكاكينها .. السقائون ذاهبون آيبون بأجراسهم،عند وصولنا ، اشرأبت الأعناق، والنظرات كانت سيئة..» في نفس الوقت تحدت عن الغنى الذي اقتحم أبواب البعض، خاصة بعد رسو باخرة تحمل القمح قرب سيدي عبد الرحمان. وذكر في هذا الباب مثال «دغمي» الذي اشتغل بالجمارك وغيره. إن أهمية هذه المذكرات تظهر في تأريخها للمرحلة الفارغة والمظلمة في تاريخ المغرب، وهي تلقي شيئا من الضوء على بعض معطيات دخول الاستعمار قبل عقد معاهدة الحماية، كما أنها تعد شهادة على نهوض مدينة جديدة اسمها الدارالبيضاء، لكن الصوت الواحد ليس دائما محايدا ويقول كل الحقيقة المطلقة.