بعضهم يفترش أرضية الحديقة التي تعلوها بعض الحشائش التي يميل لونها إلى الاصفرار والشحوب، والبعض الآخر، فضل الجلوس تحت ظلال بعض الأشجار التي غطت بعض جنبات حديقة الدار. الوجوه هنا شاحبة وأكثر صفرة من حشائش الحديقة، والعيون حزينة، والملامح تبوح لك بواقع حال هؤلاء، دون أن تحتاج عناء طرح سؤال «كيف الحال». وشمس يوم عيد الفطر بتازة كانت جد حارة، فاقت سقف الأربعين بدرجات، وقلوب هؤلاء تقول لك خلسة وخفية منهم، إن حرارة قلوبهم تفوق بكثير حرارة شمس تازة اللافحة. تضم هذه الدار أصناف فئات المجتمع المهمشة والهشة اقتصاديا واجتماعيا، فمجموعة منها وجدت نفسها بدون عائلة أو معيل، وبذلك صاروا نزلاء بهذه الدار، يقضون فيها ما تبقى من عمرهم إلى أن يحين موعد يرحلون فيه إلى عالم أفضل. «المساء» زارت مؤسسة الرعاية الاجتماعية لدار المسنين بتازة وقضت معهم صبيحة عيد الفطر داخل قاعة فسيحة مخصصة للأكل، اجتمع العشرات من المسنين الذين يقطنون بهذه الدار منذ مدة طويلة، ترتدي الأغلبية الساحقة منهم ألبسة تقليدية، موزعة بين الجلباب والقفطان رغم بساطتها، في إيحاء منهم أن نزلاء الدار يحتفلون بمقدم عيد الفطر، كغيرهم من باقي أفراد المجتمع. ضمت مائدة فطور العيد الكثير من أصناف حلوى العيد التقليدية والحليب والعصائر. كان الجو هادئا، ساد صمت رهيب، لا صوت يصدر سوى صوت الأواني داخل المطبخ الذي يؤدي مباشرة إلى قاعة الأكل، الكل احترم لحظة فطور العيد، والكل في خاطره ذكرى جميلة وغصة مرة، سرح فيها، يستعيد القليل من ماض كان فيه ملتحفا أفراد عائلته. يتبادلون النظرات، ويتفحصون وجوه بعضهم البعض، في جو مهيب، يوحي لك أن هؤلاء انتقلوا روحيا، لحيث تشتهي النفس، وتجد أنه ما بقي في قاعة الأكل وعلى مائدة فطور العيد، سوى جثث لأناس شرب الدهر على أجسادهم وأكل. في زاوية من زوايا قاعة الأكل، توارت إحداهن عن الأنظار، كأنها من خلال صمتها وانعزالها، ترفض قلبا وجسدا، واقع كونها نزيلة دار للمسنين، يعتني بها غرباء وتتقاسم العيش رفقة أناس غرباء،لا رابط بينها وبنيهم سوى الحزن والتعاسة. بعض الوجوه تبدو مبتسمة، وبعضها الآخر يجبر قسرا على التبسم لكن دون جدوى. «الي دوزو عليا خويا مدوزوش تا القذافي على العسكر ديالو»، بهذه العبارة وصفت السيدة مريم علاقتها بأفراد أسرتها، في إشارة منها إلى الأسباب التي جعلت منها نزيلة دار للمسنين. تزوجت لكن الله لم يرزقها بالذرية، فطلقها زوجها، وعادت إلى بيت أخيها مقتنعة بفكرة واحدة مفادها، أنها إما «ستدفنه أو سيدفنها»، لكن الوضع كان على غير ما توقعت هذه السيدة، فالذي كان كل شيء بالنسبة لها، وكان كل حياتها، هو من جعل حياتها حبلى بكل أنواع العذابات، وسامها أقسى أنواع العذاب، بدءا بالضرب والتهديد والترهيب، وانتهاء بالطرد من البيت. تصف السيدة بعينين دامعتين، وهي تضع يدها على قلبها، علاقتها الحالية بأخيها قائلة: «خويا دفنتووخا باقي بالحياة»، تنهدت من أعماقها، واستجمعت قواها وتابعت، «خويا شبعني ضرب، ولازالت الكدمات في جسدي شاهدة على ما سامني أخي من عذاب»، وكشفت عن ساقها، التي تحمل بصمة ما يفترض أنه «أخوة وحب»، وانهد الجدار الذي ظنت أنه سيحميها من برد الأيام على رأسها مخلفا جروحا لن تندمل. بعدما أذاقها أخوها وزوجته من كل أصناف العذاب، قررت مريم الانتحار، لفت وشاح رأسها حول عنقها، وهمت لتنفيذ مخطط اعتبرته خلاصها «لففت الوشاح حول عنقي وهممت أربطه لأشنق نفسي، وفي تلك اللحظة أحسست كأن هناك يدين أمسكتا بيدي ونزعتهما من حول عنقي، ووقتها عدلت عن فكرة الانتحار، لكني لو عدت اليوم إلى بيت أخي، فإني حتما وقطعا سأنتحر، تلافيا لمزيد من الألم والعذاب». تحاول مريم جاهدة كفكفة دموعها، والاسترسال في سرد معاناتها مع أسرتها، «الحمد لله اللهم الخيرية ولا نعيش مع خويا الحمد لله». وفي قاعة النوم المحاذية لحيث جلست مريم تحكي معاناتها، كان يتناهى إلى سمعنا صوت دندنة سيدة عجوز، تغني أغنية للمديح النبوي، بصوت خافت، صوت لف الحزن معظم جوانبه، وصار سمفونية يعزفها كل النزلاء هنا وبانتظام. رفض ونكران أما السيد حدو الذي جلس إلى جانب صديقه في المحنة والقدر يشاهد التلفاز، بدا هو الآخر حزينا، بعدما ارتشف رحيق آخر سيجارة، نفث دخانها بعيدا، في محاولة منه إبعاد ريح الألم الذي يعصر قلبه لتواجده بهذا المكان، «التدخين يجعلنا ننسى بعضا من مآسينا النفسية، لكنه يعمق مشاكلنا الصحية». كان حدو طالبا جامعيا بكلية فاس، درس الأدب، لكن ظروفه المادية لم تسعفه في إتمام مساره الدراسي، فغادر رحاب الجامعة صوب العمل اليدوي، واشتغل «صباغا»، لمدة من الزمن، حاول جاهدا بناء عائلة، إلا أن ظروفه المادية حالت مرة أخرى دون تحقيقه لأمنية يعتبرها المجتمع نصف الدين، فمدخوله الشهري من العمل في مجال الصباغة لم يضمن له فتح بيت يقيه شر ما وصل إليه الآن في الهزيع الأخير من العمر، يبدو كهلا، نحيف الجسد غزا الشيب رأسه، فيما خط الزمن على محياه لوحات في فن التجاعيد، تجعل المستطلع في وجهه، يعي كم من البؤس والشقاء عانى هذا الرجل، الذي رغم أنه لازال في عمر 64، إلا أنه يبدو وكأن الموت يقايضه لإفلات آخر خيط يربطه بالحياة، «لو كان عندي الفلوس كون تزوجت، على الأقل لكنت الآن أقضي العيد بين أسرتي، رفقة زوجتي وأولادي الذين لم يكتب لي الله أن أبني لهم بيتا يرون فيه نور الحياة، حالت ظروفي المادية دون إتمام دراستي الجامعية، وحالت دون زواجي، والآن، بعدما بت في آخر العمر، وجدتني من بين نزلاء دار المسنين، بدون معيل أو حتى من يتكبد عناء السؤال عني». حدو، حين ما عاد قادرا على العمل، وجد نفسه بدون معيل أو أسرة، وباقي أفراد أسرته تخلوا عنه، وصار وحيدا تائها، بعدما فقد صحته، فقد إخوته وكافة أسرته، توالت عليه مصائب الدهر تباعا، دون أن تترك له مجالا يتنفس فيه بعض نسائم الأمل «وخا حتى كون شدني خويا، لأقضي معه بعضا من الوقت، فإن زوجته لن تقبل، ستطردني من البيت، كما أني حين توقفت عن العمل بفعل وضعي الصحي، وجدتني منبوذا بين أفراد عائلتي، ولولا هذه الدار لوجدتني في الشارع أبيت في العراء، وأفترش الأرض، على الأقل ها أنا ذا هنا وجدت سريرا أنام فيه، وأكلا يقيني الجوع، فقد ولى الزمان الذي كانت فيه العائلة تعتني بضعاف أفرادها، حتى يحين وقت يودعون فيه الحياة، هاد الزمان ولى كلشي دايها فراسو، ولا يتكبد حتى عناء السؤال عن الآخر». صمت حدو برهة، وأشاح بنظره، محاولا كتم دموعه وكبح جماح مشاعر الحزن التي تعتصر قلبه، ثم أدار وجهه صوب شاشة التلفاز، وأداره تارة أخرى صوب النافذة التي تطل على حديقة، تبدو حشائشها تتقاسم جزءا كبيرا من حزن قاطنيها، الذين كثيرا ما ارتوت بدمعهم، واحترقت بنار وجعهم، ألفت بكاءهم ونواحهم، وتعرف الكثير من تفاصيل معاناتهم، جراء بوحهم لها بمشاعرهم وبالمآسي التي تكالبت عليهم حتى وصلوا إلى دار المسنين. «كبرنا ومشات الصحة ولفلوس، ومعاها مشات العائلة ولحباب ولقينا راسنا بوحدنا فهاد الدنيا». اختنق صوته من شدة البكاء وتهدج، وغالبته دموعه، حاول جاهدا أن يبدو في مظهر الرجل القوي الذي، رغم محن الدهر، لم يقهر، ولم يستسلم، إلا أن عينينه كانتا تقولان كل شيء، أكثر مما قاله لسانه. إلا أن العين تظل كما العادة، كاشفة الأسرار الدفينة الأكثر إيلاما. حزن دفين غادرت «المساء» قاعة مشاهدة التلفاز، وتوجهت إلى قاعة الأكل مجددا، كان يتناهى إلى السمع قرع دفوف، وأصوات نساء تشدو أناشيد دينية، كان بها حوالي عشر نساء، تمسك اثنتين منهن بدف تقرعه، فيما تشدو إحداهن ببعض الأناشيد ذات الطابع الديني، فيما تصفق الأخريات، كان الجو يبعث على الفرح في النفوس، لكن لغة العيون وتقاسيم الوجه تفضح كل شيء، فلا أحد هنا اكتملت سعادته وفرحته، إذ كل واحدة منهن، رغم اختلاف قصصهن والظروف التي أدت بهن إلى قضاء آخر العمر هنا، تشتاق ابنا، أو حفيدا أو أخا أو أختا، أو تشتاق وقتا كانت فيه رفقة أسرتها تحظى بزيارة أقاربها وأحفادها. كل منهن تطوي بين الضلوع قصة وحكاية. أكثر ما يشد الانتباه، السيدة الطاعنة في السن، التي كانت تضع نظارات طبية، وترتدي قفطانا أبيض اللون بطرز بني، جلست حزينة في ركن المائدة التي تجمهرت النساء حولها يشدون بعذب ألحان فرحة العيد، في غياب تام لحضور الفرحة، كانت تصفق بيديها، لكنها كانت شاردة الذهن، حزينة الفؤاد، كانت أقرب إلى سيدة ثكلى تنتحب فقد وليدها، ألفت الحزن والحزن ما عاد هو الآخر قادرا على فراقها، سألت المساعدة الاجتماعية عن وضعها، ولماذا تبدو أكثرهن حزنا، فأخبرتني أن أولادها قد تخلوا عنها، وهو ما آلم قلبها إلى درجة استحال معها وصف ما تحس به. كانت صرخة الحزن التي أطلقتها تقطع القلوب، تأوهت بحرقة وبمجرد السؤال عن أولادها، انهمرت دموعها «عمري 100 سنة، وأنا هنا منذ حوالي السنتين، بعدما تخلى عني أبنائي الذين قضيت عمري وأفنيت شبابي في تربيتهم، وبعدما قدمت الغالي والنفيس من أجل أن يصل كل منهم إلى حيث كان يصبو». حين توفي الأب، ووصل الأبناء إلى حيث شاء القدر، أخذ أحد الأولاد الأم معه إلى مكناس، وتركها تعيش مع سيدة كانت تهتم بشؤون البيت، بحكم كونه مهاجرا مغربيا يعيش خارج أرض الوطن، بعدما قضت أمه وقتا من الزمن في بيته، وبلغت من الكبر عتيا، طردها من البيت، بدون مال أو قريب، فعادت إلى بركان، مكسورة القلب والخاطر، ومصدومة في فلذة كبدها الذي أفنت عمرها في تربيته، أما طفلها الذي ذهبت للعيش معه في بركان، فقد جعلها تعيش وتنام وتأكل في الدرج أو في سطح البيت، في ظروف إنسانية يرثى لها، ليقوم بطردها على غرار ما فعل شقيقه، وحين تأكدت أنه لا خير في أولاد يحملون نفس دمها، حملها بعض المحسنين بعدما وجدت نفسها بدون معيل أو مأوى، إلى دار المسنين بتازة. «الأول جرى عليا، والثاني عيشني مرة فالسطح ومرة فالدروج، فطردني هو الآخر في نهاية المطاف من البيت، وحين عدت إلى مسقط رأسي في الجبل حيث نشأ أطفالي، لم أستطع العيش بمفردي، فقد قارب عمري من سقف المائة، فحملني المحسنون إلى دار المسنين، وها أنذا، «مقطوعة من شجرة، بدون قريب أو معيل أو حتى من يكلف نفسه عناء السؤال فقط، تمنيت لو كنت في حضن عائلتي، تمنيت لو بر بي أطفالي، وأبقوني إلى جانبهم، حتى يقبط ربي الأمانة، والو معندي والو والو…»انهمرت باكية، مفجوعة من هول مصائب الدهر، من هول «رمي» أولادها لها، الأمر الذي قسم ظهرها، وجعلها تكابد الويلات، في الهزيع الأخير من العمر. وصمة عار في الجانب الآخر، توجد سيدة بوضع مختلف جدا عن البقية، لازالت في 45 من عمرها فقط، تعيش في الدار منذ ما يقارب 15 سنة. «كانت تبدو أسعدهن، تصفق بيديها وتميل برأسها في دلال، هادئة الطباع، وبوجه أقل حزنا من البقية، فللسيدة ما ينسيها مرارة العيش هنا وقضاء العيد بهكذا مكان، بعيدا عن دفء العائلة وجوها. «قصة التحاقي بهذه الدار بدأت منذ 15 سنة، خطبني خالي لابنه، وافقت أسرتي على ذلك، وقرروا أن ألتحق ببيت خالي لأعيش برفقة خطيبي قبل عقد القران، لأني صرت زوجته، وحين انتقلت، صار يطالبني «بحقه الشرعي» كونه زوجي، وفعلا تم ذلك، وحين حملت، وبلغت مدة خمسة أشهر، أخبرته بضرورة إجراء عقد الزواج، لكنه رفض، ونفث في وجهي سما لازال يسري في عروقي إلى الآن، إذ طالبني بالعودة إلى بيت أسرتي والبحث عن الأب الحقيقي لمن في بطني، لكونه لا يد له ولا رجل في ذلك». حين طردت من بيت زوجها بالفاتحة، عادت إلى بيت أسرتها، لكن والدها وإخوتها الذكور، هددوها بالقتل إن هي وطأت بيتهم، لكونها جلبت لهم العار. آواها بعض المحسنين إلى أن وضعت حملها، وفوجئت حين وجدت أنها انجبت توأما ذكرا، وبعد وضعها، تدخل لها بعض الناس لدى والدها من أجل أن يستقبلها في بيته هي وتوأمها، لكن والدها رفض رفضا قاطعا أن يرعى رضيعين اعتبر أنهما عار وصمت به جبهته، لكن الأم، حين رفض الجد الاعتناء بحفيديه بعدما «نكرهم» والدهما، تشبثت بهما، بعد ذلك أدخلها بعض المحسنين إلى هذه الدار، وحين أرادت إثبات أبوته، هرب ابن خالها من تازة نهائيا، ولم يظهر له أثر، واليوم طفلاه في عمر 14، قضوها في غرفة من بضعة أمتار، يقتسمانها رفقة أمهما، التي رغم كل شيء قررت عدم التخلي عنهما، لكونها اعتبرتهما حلالا طيبا. «ولداي يسألان عن والدهما، أخبرتهما بالحقيقة، وبسبب عيشنا في دار مخصصة للمسنين، تقبلا الأمر، وتجاوزاه، هما الآن، يتابعان دراستهما في مدرسة خاصة، بفضل الله وبفضل المحسنين الذين يتكفلون بذلك، ورغم أنهما يزوران بعض أفراد عائلتي نادرا، إلا أنهما يعرفان في قرارة أنفسهما، أن مكانهما ليس بينهم، وإنما يحسان أكثر بالانتماء إلى الدار وأهلها، أكثر مما ينتميان إلى العالم الخارجي، فهذا قدرنا، وهكذا قدر الله لنا أن نعيش، ونعم بالله وبقدره وقضائه». رسالة إنسانية مؤسسة الرعاية الاجتماعية دار المسنين، الوحيدة من نوعها بمدينة تازة، تضمن 73 نزيلا موزعة بين النساء والرجال، وتقدم إلى جانب الإيواء، خدمات الأكل وأنشطة الترفيه والتطبيب، وتعتمد في مصادر تمويلها على هبات المحسنين بشكل كبير، وفي هذا السياق قالت مونية الدبي، مديرة مكلفة بالجانب الصحي والاجتماعي والترفيه «إن ظاهرة دار المسنين صارت تتفاقم بشكل واضح في المجتمع المغربي، وتحتاج للعمل الجماعي من أجل الحد من انتشار الظاهرة، فرغم كل الخدمات التي يمكن أن تقدمها كل هذه الدور، إلا أن حضن العائلة ودفئه لا يمكن أن يعوضه أي شخص أو مكان آخر، خصوصا وأن مجموعة من النزلاء تعاني من مرض ألزهايمروالإكتئاب،» وطالبت مونية الدبي في رسالة إنسانية إلى المجتمع المغربي لتقوية التماسك بين أفراده، سواء داخل الأسرة النووية أو الممتدة، فواقع كون هؤلاء نزلاء الدار، يجثم على صدورهم، ويحيطهم بهالة من الحزن لا يخففها أي نشاط كيفما كان، وحتى وإن فعل، فإنه فقط يخففها لبضع لحظات تمتد بنفس عمر النشاط فقط.
مرارة الوحدة تطرد فرحة العيد في الجانب الآخر، بأحد أحياء تازة، جلست السيدة فاطمة الطاعنة في السن، في صالون الضيوف، مرتدية أبهى حللها، وتنتظر قدوم أفراد عائلتها من أولاها وأحفادها لقضاء يوم العيد رفقتها، بعد اقتراب موعد الغذاء، بدأ أفراد أسرتها بالتوافد على بيتها تباعا، حتى غص البيت بهم، كما لو أنهم في حفل بهيج. لم تتعرف الحاجة فاطمة على أغلب الزوار، فالسيدة تعاني من مرض ألزهايمر في مراحله المتقدمة، لكن في قرارة نفسها كانت تحس بأن اليوم يوم عيد الفطر، تضم الجميع بالأحضان وتقبلهم بحرارة، وتبارك عيدهم، وحين يسألونها إن كانت قد تعرفت عليهم تجيب بالنفي، إلا أنه رغم أن عقلها لم يتعرف عليهم، ولم يتذكر أسماءهم أو نوع قرابتها بهم، إلا أن قلبها قد عرفهم جميعا، ولإن العناق الحار الذي كانت تمنحه لكل منهم دليل على ذلك. الحاجة فاطمة فرحة بشكل كبير، تنظر في كل جانب وتتفحص وجوه الحاضرين كأنها تتبين إن كان هناك من أحد لم يأت ليبارك عيدها، الذي تقضيه في بيت ابنتها، ويشهد حضور أبنائها وأحفادها من كل بقاع المغرب. تجلس وسطهم وهي مبتسمة، الدفء العائلي يبدو جليا على محياها البهي، فأولادها لم يتخلوا عنها، رغم أن والدهم توفي منذ كانوا أطفالا صغارا.