وهبوا حياتهم لرعاية الأبناء والأحبة، كانوا يظنون أنهم في أرذل العمر سيجدون من يعترف بتضحياتهم، لكنهم صدموا بالجحود. في دار العجزة وجدوا المأوى الذي يحتضنهم، بعد أن أغلق أفراد عائلاتهم أبواب منازلهم في وجوههم، ليصبحوا في حاجة ماسة إلى الرعاية والاهتمام. وجوه شاحبة، ذكريات أليمة، ابتسامات خجولة، وآمال مؤجلة، لم تستطع الرعاية والاهتمام وعجلة الأيام الدائرة محو إحساس الإهمال الجحود. إيواؤهم في دار العجزة بعين الشق لم يجردهم من الإحساس بالظلم بعد أن تخلى عنهم الأبناء والعائلة. الجحود جلست زهرة ذات السادسة والستين فوق السرير بعدما أسندت ظهرها على الجدار، تروي رحلة حياة حافلة. في أعوامها الأخيرة غدرت بها الأيام، ووجدت نفسها نزيلة دار المسنين بعين الشق. تحكي عن أيام مرة وأخرى حلوة عكر صفوها الابن الوحيد الذي تركها فريسة المرض والوحدة، لم يرأف لحالها، لتجد في دار المسنين الحضن الدافئ، بعد أن لفظها صاحب الغرفة التي كانت تكتريها بدرب السلطان إلى الشارع، حين عجزت عن دفع ثمن الكراء الذي كان لا يتجاوز 150 درهما. عاشت «مي زهرة» سنوات من الكد والعمل، بعد أن تركها زوجها حاملا بابنها في شهرها السادس، عاملة بالبيوت بأجر محدود، لم تدخر جهدا أو مالا في سبيل إسعاد وحيدها، فحرصت على تعليمه حتى يتبوأ أفضل المناصب، لكن رغبتها لم تتحقق حيث رفض ابنها متابعة الدراسة، لتنضاف إلى المعاناة، استمتاع وحيدها بالعطالة مؤجلا الأحلام والرغبات إلى أن يعبر الحدود إلى الضفة الأخرى . كانت حياة «مي زهرة» بسيطة وعادية، لا يعكر صفوها سوى رغبة ابنها في الهجرة، لم تتمكن رغم إلحاحها المستمر من انتزاع الفكرة التي استحوذت عليه، لتفاجأ به يوما يدخل عليها وهو يمسك بجواز السفر، كي يخبرها أن موعد الرحلة إلى فرنسا قريب علت ملامحها الدهشة الممزوجة بالخوف، لم تتبدد إلا بصدور تطمينات من طرف ابنها برعايتها والاهتمام بها. سافر الابن، وظلت الأم تنتظر بلهفة اتصالا أو رسالة، تطفئ نار الشوق، لكن الترقب طال ليتحول إلى واقع، تعايشت معه رغم قساوته، استمرت في حياتها البسيطة بمسكنها البسيط بدرب السلطان، ليشاء القدر أن تصاب ب«المرارة» وترقد بالمستشفى لعدة أيام. بعد مغادرتها المستشفى وجدت أمتعتها عند الجيران، فدون سابق إشعار، قام صاحب البيت بطردها إلى الشارع. لم تجد من ملاذ سوى بيت أخيها بحي السالمية. كانت تعتقد أنها بداية حياة جديدة كما أسرت لنا بقولها «ملي خرجت من السبيطار ومشيت عند خويا كلت راه غادي يحنو عليها بعد حياة طويلة من التمرميد في البيوت». بيت الأخ كان يسوده جو من التفكك والنزاع المستمر بين الأبناء، حيث كانت تعيش القلق والخوف الدائمين كلما حلت ابنتا أخيها ليلا ورائحة الخمر تفوح منهما، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى المعاملة القاسية لأبناء أخيها، الذين لا يتورعون في مضايقتها وإذاقتها كل أشكال العنف اللفظي والجسدي. مرت خمس سنوات حفرت في ذاكرة مي زهرة ذكريات مريرة. بوفاة أخيها، وجدت نفسها مضطرة للرحيل ، وتبيت في العراء، فرقت لحالها صاحبة عمارة سكنية بدرب السلطان، ومنحتها غرفة صغيرة لاتتعدى المترين ، مقابل مساعدتها في الأشغال المنزلية وبالمجان، فتضاعفت متاعبها الصحية، خاصة وأنها كانت تعاني من مرض القلب والضغظ المرتفع وباقي أمراض الشيخوخة. ذات صباح نصحتها جارتها بالتقدم بطلب إلى العمالة قصد الحصول على سرير بدار المسنين عين الشق، كانت كلمات جارتها الجارحة «واش انت بهيمة تخدمي فابور بلا فلوس وانت مرا كبيرة ، سيري دفعي طلب باش تعيشي في الخيرية». استفاقت «مي زهرة» من غفلتها حسب تعبيرها، فهرعت نحو العامل طلبا للمساعدة، عبأت طلبا وانتظرت لأكثر من شهرين، تأكدت خلاله الباحثة الاجتماعية أن مي زهرة ، تعيش دون معيل أو سند بعد سفر ابنها إلى الخارج. كانت دار المسنين بعين الشق محطة تقول عنها بابتسامة لم تفارق محياها «هنا لقيت هذاك الشي اللي مالقيتوش برا» وجدت في الدار الرعاية والاهتمام ، سواء من حيث الأكل، المبيت، الاستحمام والتطبيب، فالترفيه، ما أضاءتحياتها، رغبة وحيدة مازالت تسيطر عليها، وهي رؤية ابنها، قبل أن يفرق الموت بينهما. غدر الزمن في جناح النزيلات بدار المسنين عين الشق استلقت أمينة على السرير، تمسك برواية من الأدب الفرنسي، تلتهم صفحاتها بنهم. قالت بعفوية: «أنا حائزة على الباكالوريا من ليسي ليوطي». أمينة كانت تعيش رفقة والديها جوا من الترابط والمحبة، حبهما كان يملأ وحدتها، لكن سرعان ماسوف يتغير الوضع بمجرد زواجها، بمحاسب بإحدى الوكالات البنكية، في حين هي كانت تعمل كاتبة بشركة خاصة للنقل. سبع سنوات من الزواج، عانت فيها من غيرة زوجها القاتلة، التي دفعتها إلى ترك عملها، لتتفرغ لطلباته الكثيرة، لم ترزق خلال هذه الفترة بأبناء، فكان مصير زواجهما أبغض الحلال عند الله. بعد تجربة الزواج عاشت مع والدتها في شقتها بالبيضاء تملأ وحدتها خاصة بعد وفاة والدها، فانضاف إلى معاناة أمينة رحيل والدتها من دار الفناء إلى دار البقاء، معاناة كانت أشد قسوة بعدما عجزت عن تسديد مصاريف الكراء. توقفت عن الحكي لحظات، لتنغمس في القراءة، هوايتها المفضلة التي تجعلها يوميا تلتهم الصفحات دون تعب، وضعت كتبها بعناية على الجدار الذي يفصل سريرها عن مي خديجة. لتواصل الحديث عن المجيء، بعدما ضاقت بها السبل، لم تجد من خيار غير تقديم طلب لتصبح من نزيلات الدار، فاستحوذ عليها القلق والتوجس، الذي سرعان ما تبدد وهي تلاقي المعاملة الطيبة، التي ساعدتها على نسيان الماضي، وتضميد جراح مازالت لم تندمل بعد، القراءة والانخراط المكثف في الأنشطة التي تقوم بها الدار، من خرجات ورحلات استكشافية وزيارات متواصلة للمحسنين وأطفال المدارس، التي تحمل بعضا من الدفئ والحنان، مكنتها وغيرها من النزيلات من محو قسوة زوجها والظروف. أمينة رغم قساوة الحياة لم تفقد الابتسامة، تعتز بانتمائها لدار المسنين ، حيث لاقت الاهتمام والرعاية، لم تتوقف طيلة حديثها عن التعبير عن رضاها لما تقدمه المؤسسة من رعاية اجتماعية «هنا احنا عايشين احسن ملي بديورهم ماكنشقاوش ، جالسين واكلين شاربين مرتاحين ما خاصنا حتي خير». مرتاحة، بدت أمينة وهي تشيد باهتمام المسؤولين داخل دار العجزة، عكس ما لاقته من زوج تخلى عنها لمجرد أنها لا تنجب. تركنا أمينة وهي منهمكة في القراءة واستمرت جولتنا في جناح النساء الذي يضم 26 سريرا ، لنصل إلى مي فاطمة التي وجدنا صعوبة في التواصل معها، لضعف سمعها، جلست بجوار أحد الأسرة الموجودة ، وهي تتحدث بحميمية إلى جارتها التي ، ظلت طوال الوقت شاردة ، تهز رأسها من حين لآخر في إشارة على أنها منصتة. تأسيس دار العجزة بعين الشق بالدارالبيضاء يعود إلى سنة 1974، كانت يومئذ تحتضن المتسولين، العجزة والمصابين بالأمراض الجلدية كالجذام إلى أن جاء قانون05 14 الذي نظم مؤسسات الرعاية الاجتماعية وقتها لتصبح الدار مخصصة للمسنين ،الذين يتجاوز عمرهم الستين سنة ويعيشون دون سند أو معين . نكران الجميل قصتها لا تختلف كثيرا عن حكايات الكثيرات من نزيلات الدار، تعود البدايات عندما اختار الزوج أخرى، كي تنجب له أولادا بعدما حرم القدر فاطمة من نعمة الإنجاب، تركها متل «البيت الواقف » لاهي من المتزوجات ولا هي من المطلقات، عملت أول الأمر كخادمة في البيوت لسنوات طويلة ، لتمتهن «الميناج » بالديار الفرنسية لمدة عامين متتالين، عادت بعدها إلى المغرب بعدما لم تستطع التأقلم مع حياة النصارى كما تقول. فاطمة أو «الشريفة» كما تطلق عليها النزيلات بدت هادئة ، وهي تسترجع التفاصيل الدقيقة لمسار حياتها، وجدت نفسها بعد بلوغها السادسة والستين عاجزة عن تدبر تكاليف الحياة، بعدما شل الروماتيزم حركة رجليها، فأصبحت مقعدة تنتظر التفاتة كريمة أو مساعدة من الجيران ، حاولت فاطمة التعايش مع المرض، لكنها فشلت، فكان المجيء إلى الدار حلا مرضيا، أدخل الطمأنينة والسكينة إلى قلبها العليل ، فوجدت في النزيلات والعاملين تعويضا عن دفء الأسرة الذي افتقدته برحيل الزوج. تركنا النزيلات يستعدن الذكريات الجميلة وواصلنا الرحلة نحو جناح المسنين ، وجدنا أغلبهم مشدوها للتلفاز ، يستمعو بإمعان لتدخلات الأحزاب حول الدستور الجديد أرخى محمد ذو الثامنة والسبعين جسده على السرير ومدد رجليه المريضتين ، يشاهد البرامج التلفزية التي استحوذت على اهتمامه، قطعنا عليه حبل المتابعة، لينطلق في الحكي بتأثر وحنين . أفنى محمد شبابه في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ضمن خلية محمد فخاري بحي الأحباس. بعد حصول الاستقلال، عاش رفقة والدته القادمة من أزيلال وأخته الكبرى بعد وفاة والده، الذي لم يدخر جهدا في غرس كل القيم النبيلة، اتسمت معاملته لوالدته بالبر والإحسان ، فيوم حصلت والدته على «الكريما» لم يتردد في التنازل لها عنها، سعيا وراء رضاها، فتوطدت العلاقة بين الطرفين لدرجة استمر في عمله كبائع للسمك دون أن يعلم أن القدر يلعب لعبته. بمجرد أن انتقلت والدته إلى رحمة الله ، حتى انقلبت حياته رأسا على عقب، وجد أخته الكبري تستحوذ على «الكريما» بعدما أوكل لها بفض المنازعات، لم تنفع تدخلات أفراد العائلة في إقناع أخته بإرجاع «الكريما» ، ليستمر الخلاف ويصبح نزاعا وصلت تفاصيله إلى القضاء ، الذي مازال محمد ينتظر أن ينصفه قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى. عبد الله، كمحمد، وجد نفسه بعد وفاة زوجته وحيدا يصارع الحياة ، رمى به كل من لجأ إليه من الأقارب والأحباب، فكان الملاذ الأخير دار العجزة ،التي يعتبرها « الدار الكبيرة» التي تحتضن من لا مأوى له من المسنين. الترفيه لكسر الجمود تحولت قاعة الأنشطة بدار العجزة ذلك اليوم إلى عرس مغربي ،رقص المسنون وغنوا ونسوا آلامهم ساعات قبل أن يعودوا إلى حياة العزلة والوحدة ،بصيص من الأمل تسلل إلى دار العجزة لمحو الحزن ،بعدما تخلى عنهم أفراد عائلاتهم وهم في أمس الحاجة إليهم ،عانوا في تربية أبنائهم والعناية بهم ليرموا بهم بدار المسنين ،يعيشون وسط أشخاص أصبحوا بمثابة عائلتهم ،ينتظرون بشوق زيارة من لفظهم، وعدد منهم ينتظر اللحظة التي يودع فيها دار الفناء إلى دار البقاء ليستريح من حياة حرمتهم من أعز الأحباب. أنشطة ترفيهية ، تحاول المؤسسة الخيرية من خلال برمجتها إدخال البهجة إلى قلوب نزلاء دار العجزة، بتنظيم رحلات وخرجات استكشافية وحفلات فنية ،كان المسنون الأسبوع الماضي على موعد مع حفل فني حضره عدد من الوجوه الفنية وأحيته « العوينات» بطلب من المسنين، لحظات فنية أخرجت المسنين من الإحساس بالوحدة والنسيان إلى دائرة الاهتمام . ترك نزلاء دار المسنين بعين الشق غرفهم، وارتدوا أجمل ما عندهم ، ولاحقوا بنظرات الإعجاب والفخر الوجوه الفنية، التي حضرت وهي توزع عليهم الابتسامة بسخاء، كان من بينهم الممثلتان جميلة رشيق ، خاتمة العلوي، مؤدي العيطة عبد الله البيضاوي ، المغني الشعبي مصطفى المرنيسي عن الإخوان المرنيسي و الملحن عبد اللطيف السعيدي ، والمغنية عتيقة عمار التي أعادت الحضور إلى ماضي الأغاني الجميلة بأدائها لرائعتها «فرحة العمر» . تضاعفت فرحتهم بالتحاق «العونيات » فبدأت الأجساد تتراقص فرحا وتغني على إيقاعات العيطة ، جعلتهم ينسوانللحظات الأحزان، ويستعيدون الشباب وهم يتحسرون على الماضي حينما كانوا في عنفوان الشباب . كثير من هؤلاء المسنين، وجدوا أنفسهم إما عاجزين عن الاستمرار في العيش، ببيوتهم إما بسبب ظروف اقتصادية صعبة، أو أنهم أتوا إلى دار العجزة طواعية ، استسلموا للفرح وسمحوا للبهجة ، أن تتسلل إلى قلوبهم لتمحو بعضا من الحزن والوحدة ، ارتدوا الفرحة وعبد الله البيضاوي يغني على إيقاعات العيطة وعتيقة عمار تؤدي كلمات أغنيتها الشهيرة «الفرحة الكبرى»، حفل فني زرع الطمأنينة والأمان وبدد سحابة العزلة والاكتئاب. شاغل سعاد