(و.م.ع) على بعد بضعة أمتار من بحيرة مارشيكا التي تقصدها العائلات الناظورية خاصة في الفترة المسائية للترويح عن النفس والاستمتاع بجمالية المكان وتبادل أطراف الحديث في جو عائلي مميز، تقع دار التكافل التي تحضن رجالا ونساء مسنين يعانون في صمت بعد أن لفظهم ذوو القربى، وحكموا عليهم بالعيش بعيدا عن دفء العائلة التي عملوا من أجلها وهم في عنفوان الشباب، لتتنكر لهم وهم عجزة عاجزون. ولئن اختلفت قصص «ضحايا الطرد التعسفي» من بيت العائلة، في الزمان والمكان، في الحيثيات والسياقات، إلا أن عنوانها واحد : المعاناة والمأساة وحرقة البعد عن الأهل والأحبة خاصة خلال رمضان الأبرك، شهر التراحم وصلة الأرحام وتبادل الزيارات بين الأصدقاء والأحباب والتئام العائلة حول مائدة واحدة يتوسطها الأب أو الأم أو كلاهما إن كانا على قيد الحياة. «كل شيء متوفر هنا .. المأكل والمشرب والملبس والاستحمام ...» تقول (ف.ق)، التي فتحت قلبها لوكالة المغرب العربي للأنباء، مضيفة أن «القائمين على هذه الدار والعاملين والعاملات بها لا يدخرون جهدا لتلبية طلباتنا ومواساتنا، ونشكرهم على ذلك»، غير أن «الذي ينقصنا ولا يمكن لأحد أن يعوضه مهما حاول هو دفء العائلة وحضنها». وتابعت هذه المرأة، التي تجاوزت الثمانين عاما، بنبرة حزينة وهي تحرك رأسها يمينا وشمالا، : «إلى حد الآن، ورغم مرور حوالي ثلاث سنوات على الزج بي هنا، لم أستسغ كون عائلتي تخلت عني بهذه الطريقة، ورمت بي خارج البيت العائلي. وإذا كان قدري أن أمضي ما تبقى من عمري في هذا المكان، فأنا أريد فقط أن أسمع من أقاربي جوابا لسؤال واحد ووحيد : لماذا أنا هنا ?». وقالت السيدة المكلومة، التي فقدت بصرها منذ سنوات عديدة، «فقدان البصر أهون علي من فقدان حضن العائلة. وما أقدم عليه أقاربي أحدث جرحا غائرا في قلبي لن يندمل إلا باستعادتي الدفء العائلي»، مضيفة متوسلة إلى أقاربها : «إذا تعذر عليكم التكفل بي، فلتمكنوني على الأقل مرة في الأسبوع أو حتى في الشهر من زيارة العائلة، والعودة بعدها إلى هذه الدار ... قدري». وفي ظل هذه الظروف النفسية الصعبة ل(ف.ق) وغيرها من النزيلات ترفع العاملات بدار التكافل التحدي، فيعملن ليس فقط على توفير الأكل والشراب، فهذا من المسلمات، ولكن أيضا على التخفيف من إحساس المسنات بظلم ذوي القربى وتعويضهن شيئا مما افتقدنه من دفء العائلة، وقد ينجحن أحيانا ويفشلن في أخرى. وتقول (حليمة.ب) العاملة بدار التكافل : «إنني أبذل كل ما في وسعي للتكفل بالنزيلات. وأعمل على خدمتهن ساعات طوال في اليوم بل حتى في الأعياد والمناسبات، وأنا سعيدة بذلك»، مضيفة أن هؤلاء المسنات «أضحين جزء من حياتي، فلا أستطيع مفارقتهن، إنني أقضي معهن أكثر مما أقضيه مع أبنائي». غير أن ما عايشته حليمة من حالات وما روت لها النزيلات من قصص منذ التحاقها بدار التكافل كأول عاملة بها قبل حوالي 23 سنة جعلها تتحسر على ما آلت إليه أوضاع الأسر : «بين ما عشناه في الماضي وما نعايشه اليوم .. فرق كبير. لقد قست القلوب وخلت من الرأفة والرحمة إلا من رحم ربك .. أضحينا في زمن قد يحسن إليك البعيد ولا يحسن إليك القريب وفي الطابق السفلي حيث جناح الرجال، ينتابك إحساس غريب وأنت تستطلع المكان وتلقي النظرة على وجوه فعل بها الزمان فعلته، فلست في حاجة إلى الاستفسار .. الظاهر يكشف عن الباطن، والصورة تعبر عن نفسها .. معاناة وحسرة على ماض جميل كانت فيه الكلمة الأولى والأخيرة في البيت للأب، واليوم انقلبت الآية، أضحى الأب يستعطف أñقاربه لعل قلب أحدهم يرق ليتفضل عليه بتمضية ما تبقى من عمره في دفء العائلة وبين ظهرانيها. ويعد (ه.ق) واحدا ممن أصدرت عليهم العائلة الحكم بالإفراغ ومغادرة البيت العائلي دون سابق إنذار، ودون أن تعطى له الفرصة للدفاع عن نفسه .. «لقد طردت من البيت بطريقة قاسية جدا. وتخلت عني زوجتي وأبنائي. لدي ثلاثة أبناء أحدهم في الخارج، لكن لا أحد يسأل عني. كنت أعمل من أجل إكسائهم وإطعامهم، ولما ضعف بصري وتوقفت عن العمل، تم التخلص مني، المهمة انتهت ...». وأضاف الرجل (58 عاما)، وعيناه تدمعان : «عندما كنت معافى في بدني، متمتعا بكامل قوتي، موفرا لما تيسر من المال من عرق جبيني، كنت الزوج والأب. ولما ابتليت بضعف البصر لم أعد كذلك. لقد تغير كل شيء، ولا مكان لي في البيت». وقال «منذ أن التحقت بدار التكافل قبل حوالي 12 سنة وحرقة فراق العائلة لا تفارقني، غير أنها في رمضان وفي الأعياد والمناسبات تزداد حدة. فأنا أريد أن أجلس إلى مائدة واحدة مع أقاربي، وأستمتع بالجو العائلي كما الناس جميعا». قصة (ه.ق) مؤثرة فعلا إلا أنها ليست إلا غيضا من فيض وقليلا من كثير، يقول سعيد السوسي مدير دار التكافل، مضيفا أنه «في كل مرة تصادفك حالة تنسيك في أخرى .. والأغرب من كل هذا أن يتجرأ الابن أو الأخ أو غيرهما على رمي أبيه أو أمه أو أخته بباب هذه الدار ويغادر المكان بسرعة تاركا إياه للمجهول .. وحتى إذا يبقى إلى جانبه فإنه يقدم نفسه على أنه فاعل خير ليس إلا، لنكتشف فيما بعد أنه قريب». وقال السوسي، الذي يداعب في كل مرة هذا المسن ويلاطف ذاك ويحاول إضفاء نوع من الحيوية والمرح على المكان الصامت والحزين، متحسرا : «بالأمس القريب كانت العائلات تتكفل ليس فقط بالأقارب بل حتى بأبناء الحي والدوار ممن لا يجدون من يتكفل بهم .. أما اليوم فقد وصل الأمر ببعض العائلات إلى حد التضحية بأحد أعمدتها وركائزها (الأب أو الأم) والزج به بكل قسوة في دار المسنين». وسجل أنه بفضل جهود المحسنين والعاملين والعاملات «لا يعاني النزلاء من أي خصاص سواء في الأكل أو الشراب أو الملبس .. غير أن هذا ليس هو الأهم في نظرهم، فهم لا يرضون عن حضن العائلة بديلا، وقلوبهم معلقة بذويهم، بل إنهم يأملون أن يستيقظوا يوما ما ويفتحوا عيونهم على واقع جديد يحسون فيه بدفء العائلة .. وعلى هذا الأمل يعيشون إلى ما شاء الله». مأساة فعلا يعيشها رجال ونساء، وهنت عظامهم واشتعلت رؤوسهم شيبا، مما يستدعي التوقف، والبحث في أسباب هذه الشروخ والثقوب التي بدأت تظهر في البنيان المتماسك للمجتمع. فما كان في الماضي من المحرمات أضحى اليوم جائزا لدى بعض العائلات، التي تبيح لنفسها التخلص من أحد أفرادها لهذا السبب أو ذاك وحرمانه من استنشاق أوكسجين الدفء العائلي، وبالتالي الحكم عليه بالموت «اختناقا». وتأوي دار التكافل بالناظور، التي فتحت أبوابها عام 1991، حاليا 68 نزيلا (42 امرأة و26 رجلا)، ويتم تمويلها أساسا من إعانات المحسنين