عاشت تونس أخيرا على وقع عملية إرهابية جديدة استهدفت سياحا من جنسيات أوربية مختلفة، في ذروة الموسم السياحي. وكان نزل «أمبريال مرحبا» بمدينة سوسة الساحلية مسرحا لمجزرة بشعة راح ضحيتها 39 من النزلاء، إضافة إلى عدد مماثل من الجرحى. ولئن تعددت العمليات الإرهابية وتسارع نسقها في تونس الثورة، فإن عملية سوسة تُمثل -إلى جانب عملية باردو في 18 مارس/آذار الماضي التي ذهب ضحيتها حوالي 27 سائحا من زوار المتحف- انتقالا في جغرافية الإجرام الإرهابي من الأطراف إلى المركز، كما تسجل ارتفاعا كبيرا في عدد الضحايا. ومع هذه العمليات الإرهابية المتواترة ظهرت أسئلة عديدة حول مستقبل التجربة في تونس. فهل تؤكد هذه التجربة أنها الاستثناء في مجال عربي تعرف دول ربيعه انحدارا إلى الاحتراب الأهلي، أم أن مآلاتها لن تشذ عن المشهد العام المسكون بحس الافتراس وحرب الكل ضد الكل. عودة القديم والإرهاب السؤال عن مستقبل التجربة الديمقراطية في تونس يتردد مع كل منعطف تعيشه البلاد، ومن أهم هذه المنعطفات عودة المنظومة القديمة إلى الحكم عن طريق الانتخابات. ويطرح هذا السؤال في علاقة بالإرهاب الذي عرف مع عملية باردو تحولا خطيرا تأكد مع مجزرة سوسة. قبل عملية باردو، وبعد خمسة أشهر من الانتخابات، بدأت الشكوك تحوم حول قدرة الحكومة على إحداث تقدم في الملف الاجتماعي. ولم يلمس الناس رؤية واضحة ولا خطة عمل منهجية ولا حضورا مقنعا. ولم تكن هذه الخيبة بمعزل عن الوعود الانتخابية السخية من قبل الحزب الفائز. وتزامنت حالة الارتياب هذه مع تصاعد المطالب الاجتماعية واندلاع موجات من الإضرابات القطاعية، سيما في بعض القطاعات الاستراتيجية كالفوسفاط. وغلب على أداء الفريق الحكومي التفكك وغياب الانسجام والعمل الجماعي وافتقاد رئيس الحكومة لدعم فعلي من الحزب الغالب. ومثّل تخبط وزارة الخارجية الصورة الأنصع عن هذا الأداء الهزيل والتضارب في المواقف. وقد كان نداء تونس يباهي زمن «الترويكا» بكفاءاته، وينعى عليها ضعف ثقافة الدولة عند فريقها الوزاري وكوادرها المسيرة. وكان لا يفتأ يذكر أن له من الكوادر النوعية والكفاءات العالية ما يغطي حاجة أربع حكومات. ولم يكن شيء من هذا في تجربة الرباعي منذ تشكيل الحكومة. ويرى المحللون أن لاندلاع أزمة الحزب الغالب مؤشرا قويا على أن من استأمن على قيادة المرحلة الجديدة لم يكن في مستوى التفويض. وخرجت الخلافات من داخل الحزب إلى العلن. وكانت «بلاتوهات» القنوات المحلية مجالا لمشادات تجاوزت الخلافات السياسية والتنظيمية الداخلية إلى صراع بالوكالة بين مصالح لوبيات نافذة في مجال المال والأعمال والأمن، ومراكز قوى قديمة كان لها تأثير كبير على تجربة الانتقال الديمقراطي. والنتيجة الأولى المستخلصة من هذه الأزمة أن من عجز عن حل خلافاته الداخلية لن يقدر على الخروج بالبلاد من أزمتها الهيكلية. وأما ثاني هذه النتائج فهو أن جل الطيف السياسي جرب -في هذه السنوات الخمس من الثورة- الحكم كما جرب المعارضة، بنسب متفاوتة. فصار الجميع مُطالِبا بالمحاسبة ومُطالَبا بها. فالترويكا التي كانت تشترط المحاسبة على ضوء قانون العدالة الانتقالية صارت بدورها موضوعا للمحاسبة على سنوات حكمها الثلاث. ومعلوم عند أهل الاختصاص أن تهديد الاقتصاد للدولة الوطنية لا يقل خطرا عن تهديد الإرهاب المعولم. ومثلما تشترك الجهتان في استهداف الدولة الوطنية يتقاطع خطابُهما المعبر عن نتيجة هذا الاستهداف السياسية، فتكون «إدارة التوحش» هي الترجمة العربية ل»الفوضى الخلاقة». يخلص الباحثون إلى أن الدولة في تونس مستهدفة بالخطرين المذكورين. ويجد الخطران مُرتكزَهما في المسألة الاجتماعية التي كانت سببا في الانتفاض الجذري الوطني الاجتماعي. فالقديم العائد يُمعن من خلال ما يعقد من اتفاقيات مع الجهات المالية الدولية، في رهن البلاد بشهادة شركائه في الرباعي الحاكم وتحت أنظار الطبقة السياسية. ورغم تصدر تونس دول المنطقة في نسبة من يلتحق من الشباب بتنظيم الدولة، ورغم استفادة الإرهاب من الفوضى الإقليمية وتهاون الفريق الحاكم عن بلورة استراتيجية وطنية لمكافحته، وعجزه عن التقدم في التحدي التنموي، وزهده في موضوع السيادة الوطنية؛ فإن نقاطا من الضوء ترتسم في الأفق يجلوها فشل الإرهاب في أن تكون له حاضنة شعبية رغم حدة الأزمة الاجتماعية واستمرار عزلته نتيجة هزيمته في المعركة الأخلاقية المدوية. ويرى المراقبون أن التونسيين لا يخفون عودة الاستبداد، رغم عودة القديم المعمد بثقافة الاستبداد، وسيعملون على تحقيق انتصار تاريخي على الإرهاب والفساد، قائدهم في ذلك ما قطعوه من أشواط في تأسيس حياتهم السياسية الجديدة وإصرارهم على استكمال مشروعهم الوطني في الحرية والكرامة. إعلان حالة الطوارئ بين مؤيد ومعارض تشهد تونس جدلاً واسعاً حول إعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد الأحداث الإرهابية التي عرفتها مدينة سوسة، واختلف التونسيون بين مؤيد للقرار الرئاسي ورافض له وبين مشكك في دوافعه ونتائجه، وأجمعت الأحزاب المشتركة في الائتلاف الحاكم (تونس وحركة النهضة والاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس) على مساندتها لإعلان الطوارئ. إذ أكدت حركة النهضة أنها تتفهم قرار الرئيس الباجي قائد السبسي نظراً للتهديدات والعمليات الإرهابية التي ألحقت أضراراً بالغة بأمن البلاد واستقرارها واقتصادها، والتي تحتاج إلى مواجهة شاملة وطويلة، حسب تعبيرها، ودعت الحركة التونسيين إلى الالتفاف حول مؤسسات الدولة والخيارات الديمقراطية وتقوية الوحدة الوطنية واليقظة الدائمة ودعم الوحدات العسكرية والأمنية في هذه الحرب الاستثنائية، معتبرة أن الإرهاب مرفوض فكراً وممارسة من الشعب التونسي، وأنه لا مستقبل له في تونس، وأن هزيمته آتية. وقالت الحركة في بيان لها «واصلنا الحرب ضدّه وطورنا الخطط والوسائل وقطعنا الطريق أمامه بالكف عن بث الخوف والفزع في المجتمع». كما رأى رئيس كتلة حزب الاتحاد الوطني الحر بمجلس نواب الشعب محسن حسن، أن قرار إعلان حالة الطوارئ قرار في محله، مؤكداً أنه تم بالتشاور بشأنه مع حزبه. وشدّد على أن وحدة البلاد باتت مهدّدة في ظل التوتر على الأراضي الليبية وكذلك الوضع الداخلي ووجود تهديدات إرهابية حقيقية، مؤكدا أن تواصل الأمر على ما هو عليه غير ممكن، داعيا التونسيين والأحزاب وكل مكونات الشعب التونسي إلى تفهم هذا الإجراء الهادف إلى وحدة البلاد. بالمقابل أعلنت الجبهة الشعبية أن رئيس الحكومة الحبيب الصيد أعلم الناطق الرسمي حمة الهمامي بإمكانية تطبيق حالة الطوارئ قبل إعلانها رسمياً بثلاثة أيام وهو ما رفضته الجبهة التي اعتبرت الإجراء منفذاً لضرب الحريات وضرب الحق في التظاهر والاحتجاج وحرية التعبير والتنظيم من دون مبرر طالما لم تعلن السلطات الأمنية صراحة عن وجود تهديدات فائقة الخطورة للبلاد. وقال حزب المؤتمر من أجل الجمهورية إن قانون سنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ فيه مخالفة حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الإعلان. ودعا لتبني خطة طوارئ عوض «حالة طوارئ» تكون كفيلة صريحة للدستور، وضرورة الإسراع بوضع إطار قانوني جديد للطوارئ، داعيا الرئيس السبسي إلى مصارحة التونسيين بعدم إنهاك الوحدات الأمنية والعسكرية والتركيز على مجهود مكافحة الإرهاب حسب درجات الخطورة وتوفير كل الوسائل اللازمة لذلك. كما عبّر الأمين العام لحزب التيار الوطني الديمقراطي «محمد عبو» عن تخوفه من أن يؤدي إعلان حالة الطوارئ إلى ضرب الحريات في تونس، مشيرا إلى أن الإرهاب آفة سننتصر عليها في حين أنّ المشروع الديمقراطي لا ينبغي التفريط فيه. وبين الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل «سامي الطاهري»أن «الإشكال ليس في قرار الإعلان عن حالة الطوارئ إنما في خلفياته وتداعياته»، مضيفاً أن إقرار حالة الطوارئ في البلاد فيه تحويل وجهة المشكل الأساسية ألا وهي الإرهاب إلى محاولة تبرير القرار انطلاقا من الاحتجاجات الاجتماعية. وأعلن المكتب السياسي لحزب التيار الشعبي استهجانه لما سماه «الخطاب المهزوم» للرئيس السبسي باعتبار أن البلاد في حالة حرب على الإرهاب، وأن القيادات الحقيقية مدعوة إلى أن تثبت أن الدولة قوية في خطاباتها وليس عكس ذلك. هجمات سوسة تطيح بسياحة البلاد تقدر التوقعات الأولية أن تكون خسائر القطاع السياحي في تونس في حدود515 مليون دولار، أي حوالي مليار دينار تونسي، خلال الموسم السياحي الحالي وكامل سنة 2015، وفق مصادر حكومية تونسية، وذلك على خلفية الهجمات الإرهابية الأخيرة، التي استهدفت متحف باردو ومنتجع سوسة السياحي. إذ تثبت الدراسات أن القطاع السياحي التونسي دخل في حالة ركود منذ 2011، وسجل تراجعا بنحو 21% منذ بداية السنة الحالية مقارنة ب2014 وتتوقع الأوساط السياحية أن ترتفع هذه النسبة إلى حدود ال50 في المائة إثر عملية سوسة. وقد كانت تونس حققت العام الماضي إيرادات قيمتها 1.95 مليار دولار من السياحة، التي تشكل 7% من الإنتاج المحلي الخام. وبحسب خبراء اقتصاديين فإن القطاع السياحي في تونس يعيش منذ سنوات أزمة هيكلية، مشيرين إلى أنه قطاع هرم ولم يشهد إصلاحات هيكلية، لا في الإدارة والتسيير، ولا أيضا في تنويع العمليات الترويجية والتسويقية التي بقت تقليدية، ولم يتم الاستفادة من تكنولوجيات الاتصال الحديثة. ويضيف الخبراء، أن القطاع يعاني أيضا من غياب التجديد في المنتوج الذي بقى مرتكزا على السياحة الشاطئية فقط، في حين البلاد تزخر بمنتوجات أخرى هامة. باعتبار أن الاقتصاد التونسي كله في حالة ركود، والإرهاب وقرار إعلان الطوارئ، سيتضرر منها القطاع السياحي أكثر، والاقتصاد التونسي ككل، وبهذا فإن نسبة النمو لن تتجاوز 1 في المائة خلال السنة الحالية. وأكد الباحثون على أن الثقة في الاقتصاد التونسي تراجعت دوليا، باعتبار أن وكالة التصنيف «فيتش رايتينغ « بينت في تقرير لها أن النمو في تونس سيتراجع إلى 1.9 في المائة سنة 2015، وذلك إثر الاعتداء الإرهابي بسوسة (26 جوان 2015) مقابل نمو في حدود 2.3 في المائة سنة 2014 وقالت الوكالة في بيان لها، «إن الاعتداء بسوسة يكشف بوضوح المخاطر الإرهابية، على قدرات تونس واقتصادها». وبينت أن هذا الاعتداء، الثاني في ظرف ثلاثة أشهر، بعد ذلك الذي استهدف سياحا بمتحف باردو (18 مارس 2015)، سيؤثر على الاقتصاد الوطني، على المدى القصير، من خلال انعكاساته على السياحة، القطاع الذي مثل سنة 2014، حوالي 7 في المائة من الناتج الداخلي الخام و12 في المائة من اليد العاملة و9 في المائة من العائدات بالعملة الصعبة. الجدار العازل حل تونس لمنع الإرهاب لا شك أن تنقل المتطرفين بين الدول العربية بات هاجسا أمنيا ثقيلا، يملي اتخاذ إجراءات تحمي استقرارها، وهو ما فرض على تونس الإعلان عن بناء جدار عازل على طول حدودها مع ليبيا. إذ أعلن رئيس الوزراء التونسي الحبيب الصيد الثلاثاء 7 يوليو2015 أن بلاده شرعت ببناء جدار وخندق على طول الحدود مع ليبيا ضمن الخطط الرامية لمنع تسلل المتطرفين. وقال الصيد في مقابلة مع التلفزيون الرسمي: «بدأنا في بناء جدار رملي وحفر خندق على الحدود مع ليبيا. وأضاف أن الجدار سيكون على طول 168 كيلومترا وسيكون جاهزا في نهاية 2015»، معتبرا أن ليبيا أصبحت «معضلة كبرى». وأضاف أن الجدار سيقام «خاصة في المنطقة الواقعة بين راس الجدير والذهيبة» حيث يوجد معبران حدوديان مع ليبيا. وسيبلغ 186 كم في مرحلة ثانية، علما أن تونس ترتبط مع ليبيا بحدود برية مشتركة تمتد نحو 500 كم، وتشهد عدا عن تسلل المسلحين، تهريب أسلحة ومخدرات. لذلك فالقرار التونسي ليس غريبا، خصوصا بعد إعلان وزارة الداخلية أن الطالب سيف الدين الرزقي (23 عاما) الذي قتل 38 سائحا أجنبيا بينهم 30 بريطانيا في هجوم برشاش كلاشنيكوف على فندق «إمبريال مرحبا» في منتجع سوسة، تدرب على حمل السلاح في معسكر تابع لتنظيم «أنصار الشريعة» في ليبيا. كما أثبتت التحقيقات أن اثنين من المسلحين الذين هاجموا متحف باردو في تونس العاصمة خضعا لتدريبات على السلاح في ليبيا أيضا، وغيرهم الكثير، ممن يتوجهون إلى تركيا والأردن للتسلل إلى سوريا والانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإن بقي أحدهم حيا، يعود إلى بلده ليمثل تهديدا أمنيا جديا بعد حصوله على «خبرة عملية في الإرهاب»، ومن المعروف أن تونس تتصدر قائمة الدول التي خرج منها أفراد الجماعات المتطرفة التي تقاتل في سوريا بنحو 3000 مقاتل، وباتت عودتهم قنابل موقوتة تهدد أمن واستقرار تونس. وكشفت تقارير أمنية أن عدد التونسيين الذين يتلقون تدريبات عسكرية في معسكرات ليبية يتجاوز ال 500 شخص، منهم من كان يقاتل في صفوف «داعش» في سوريا والعراق، ومنهم من انضم إلى مجموعات إرهابية أخرى. من هذا المنطلق، تسعى تونس إلى رسم سياسات أمنية قد تنجح في إنقاذ ما تبقى، بعد توالي الخطابات الإرهابية التي تتوعد الحكومة والمؤسسة الأمنية والعسكرية، فضلا عن الاقتصادية متمثلة بقطاع السياحة، على حد سواء. وسيكون إنشاء جدار على الحدود التونسية – الليبية إجراء فعالا، وليس وحيدا ضمن مجموعة الإجراءات الرامية إلى ضمان أمن تونس، والتي اتخذتها السلطة التونسية وستتخذها مستقبلا.