إن تصويت اليونان بلا على سياسات الدائنين الأروبيين له انعكاسات خطيرة على الاتحاد الأروبي، كما أنها تقوض مبدأ التكامل التي قام عليها منذ ستين سنة، حيث صار الاتحاد على شفا حفير الهاوية، إذ بات يعاني أخطارا تهدد مستقبله ككيان سياسي واقتصادي فاعل في الساحة الدولية، ذلك أنه من النتائج الأولية للاستفتاء، صعود اليسار الراديكالي في أروبا، وتوجه بعض الدول التي تئن تحت وطأة الديون كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، إلى نحو منحى اليونان، وهو ما سيضع الاتحاد الأروبي وعملته وسياسات ديونه مخط تساؤل عن جدواها ومدى فاعليتها داخل المنتظم الدولي، فالخبراء يرون أن الاستفتاء سيقصم ظهر الاتحاد، كما سيقسم سياسات البلدان المنضوية تحت لوائه. تحدى اليونانيون الاتحاد الأوروبي وقوانينه وخطط إنقاذه، وصوتوا بلا بنسبة فاقت 61 بالمائة من أصوات الناخبين، رغم تحذيرات الاتحاد بأن التصويت بلا يعني خروج اليونان من منطقة اليورو وعودة البلاد إلى عملتها القديمة الدراخما. لكن الناخبين اليونانيين خيبوا الاتحاد الأوروبي وآماله التي كان يعقدها على الاستفتاء بعدما أجبرهم تسيبراس على إجراءه لاستخدامه كورقة ضغط على الاتحاد. وقد رد الزعماء الأوروبيون بمزيج من الحذر وخيبة الأمل بعد أن تحدى الناخبون اليونانيون التحذيرات التي سبق لهم أن أطلقوها من احتمال خروج اليونان من منظومة اليورو، وذلك بتصويتهم «بلا» للشروط القاسية التي وضعها الدائنون لقاء مساعدة البلاد على الخروج من أزمتها. تضارب المصالح الأروبية فقد وصف جيروين ديسلبلويم وزير المالية الهولندي الذي يرأس مجموعة وزراء مالية دول اليورو نتيجة الاستفتاء بأنها «مؤسفة جدا.» وكان ديسلبلويم قد حذر قبل إجراء الاستفتاء بأن التصويت «بلا» سيؤدي إلى خروج اليونان من منظومة اليورو.وقال في تصريح أدلى به عقب الاعلان عن نتيجة الاستفتاء «أحطت علما بنتيجة استفتاء اليونان. هذه نتيجة مؤسفة لمستقبل اليونان.» أما نائب المستشارة الألمانية سيغمارغبرئيل فوجهة نظره أكثر تشاؤما من تلك التي عبر عنها الوزير الهولندي ازاء استجابة الناخبين اليونانيين لدعوة رئيس حكومتهم أليكسيستسيبراس بمنحه تفويضا قويا يسمح له بالسعي نحو اتفاق أقل تشددا مع الدائنين يتضمن إعفاء من بعض الديون. واتهم غبرئيل، الذي يتزعم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، المؤتلف مع الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه المستشارة انجيلا ميركل، تسيبراس بأنه «هدم آخر الجسور التي كان يمكن لأوروبا واليونان أن تتوصلا من خلاله الى حل وسط.» ولكن الأحزاب والقوى المعادية لسياسات التقشف والمتشككة من الاتحاد الاوروبي عبرت عن ارتياحها لنتيجة استفتاء اليونان، إذ قال نايجلفاراج زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة إن «مشروع الاتحاد الأوروبي يحتظر، وإنه لمن الرائع رؤية الشجاعة التي يتميز بها الشعب اليوناني امام غطرسة بروكسل السياسية والاقتصادية.»وقال زعيم حزب بوديموس الاسباني اليساري بابلو اغليسياس إن «الديمقراطية انتصرت اليوم في اليونان.» وصرح مصدر أوروبي في بروكسل لوكالة «تاس» الروسية تعليقا على نتائج الاستفتاء، بأن تصويت اليونانيين ب «لا» لشروط المقرضين الدوليين لا يعني الخروج التلقائي لليونان من منطقة اليورو، وإنما مواصلة المفاوضات معها. كما اعتبرت جهات أخرى، أنه بتصويت اليونانيين بلا، حصلت أثينا على تفويض واضح من الشعب يعزز موقفها في المفاوضات مع الدائنين والتي من المرجح أن تبدأ رحلتها من الصفر. تداعيات «لا» على الاتحاد الاروبي ويصف بعض المحللين السياسيين أزمة اليونان المالية مع دائنيها الأروبيين بالحرب السياسية لكن بأدوات مالية، ذلك أنه بعدما وصلت مفاوضات أثينا مع المقرضين الأوروبيين لتسوية ديونها إلى طريق مسدود، دعت الحكومة اليونانية إلى إجراء استفتاء شعبي على مقترحات المقرضين، التي تتضمن خطة إنقاذ جديدة وتقديم مساعدات طارئة، على أن تتبنى أثينا في المقابل إجراءات تقشفية صارمة منها؛تخفيض مستوى المعاشات، وزيادة ضريبة القيمة المضافة على المواد الغذائية. ورغم ما تضمنه الاستفتاء من تقشف مالي واقتصادي، إلا أن اليونانيين اختاروا قول لا لخطة إنقاذ المقرضين الأوروبيين، وبات بالتالي، الباب مفتوحا على مصراعيه لتكهنات سيناريو ما بعد الاستفتاء. أما تحليلات ما قبل إجراء الاستفتاء توقفت عند نقطتين أساسيتين، تمثلت أولاهما في اختيار اليونانيين التصويت بلا، فإن ذلك سيؤدي إلى دعم موقف الحكومة بشكل أفضل في أي مفاوضات مقبلة، ويشكل وسيلة ضغط جديدة على الدائنين الدوليين لمنحها اتفاقا قابلا للتطبيق لا يتسبب في عبء أكبر على الاقتصاد اليوناني. ومادام اليونانيون قد صوتوا بلا، فإنه صار بإمكانهم التفاوض بشأن خطط الدائنين. في غضون ذلك، يرى المحللون الاقتصاديون، أن التصويت بلا يمثل ضربة موجعة وهزة كبيرة للاتحاد وعملته الموحدة، ما قد يمهد الطريق لاحتمال خروج اليونان من منطقة اليورو، وهو أمر إن حصل سيشكل سابقة تثير قلق حكومات أوروبية أخرى تئن تحت وطأة الديون، كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال. وبعد أن كانت أروبا تنتظر خطوة الاستفتاء ونتيجته باضطراب وقلق، لما لها نت تأثير مباشر على مستقبل القارة العجوز، حيث، يعتبر جوليان رابولد، الباحث في المعهد الألماني للسياسة الخارجيةأنه «يحدد مسار الاندماج الأوروبي» خصوصا في حالة ما إذا أسفر هذا الاستفتاء إلى خروج اليونان من منطقة اليورو. أزمة التصويت بلا لا تقف عند هذا الحد، إذ بالموازاة مع قلق الحكومات التي تئن تحت وطأة الديون كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، فإن دولا أخرى قلقة من مصير سياستها الذي بات مجهولا، خصوصا بالنسبة للدول التي تتصدر المفاوضات مع أثينا، وعلى رأسها ألمانيا، ذلك أن الخبراء يعتبرون أن أنجيلا ميركل تواجه ما وصفوه بالمعضلة. ذلك أن خروج اليونان من الاتحاد النقدي سيعني فشل سياسة إدارة الأزمة التي أوحتها المستشارة الألمانية منذ سنوات. «فهي لا تريد أن يقال أنها دفعت باليونان إلى خارج منطقة اليورو».وتتخوف المستشارة الألمانية أيضا من العواقب الاقتصادية غير المتوقعة، ومن تنامي الحركات الرافضة لأوروبا في عدد كبير من البلدان، وإرسال إشارة ضعف إلى بلدان مثل روسيا والصين. وفي ظل ذلك، أجمع العديد من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين على أن نتيجة الاستفتاء لا تقسم اليونانيين فقط، بلتقسم كامل الاتحاد الأوروبي أيضا. صعود اليسار الراديكالي في مقابل خوف الحكومات التي توجد على رأس المفاوضات مع أثينا من تداعيات التصويت بلا، فإن حكومات دول أخرى، خائفة من صعود اليسار الراديكالي، الذي يعتبره المحللون تحصيل حاصل، مع فوز لا بفارق كبير في نتائج التصويت، والذي سيؤدي لا محالة إلى تغيير أروبا، فدولة إسبانيا مثلا، والتي بالكاد اجتازت أزمة اقتصادية حادة، فإنه بات يرجح بقوة صعود اليسار الراديكالي فيها بقوة، وبات اليمين المتطرف خائفا من انتقال عدوى سياسة حزب اليسار الراديكالي للحزب اليوناني. من جانبها دولة إيطاليا، التي تئن هي الأخرى تحت وطأة الديون، يرى الخبراء أنه لو دعيت هي الأخرى للتصويت على استفتاء بخصوص التصويت على مستقبلها داخل الاتحاد الأروبي ومنطقة اليورو على غرار اليونان، فإن ما يفوق النصف منهم سيؤيدون التدابير المتشددة التي تفرضها أوروبا، للحؤول دون الخروج من اليورو ووقوع البلاد في الإفلاس، ولكان 30% سيعارضونها، كما أفادت نتائج استطلاع أخير للرأي أجرته مؤسسة إيبسوس. وفي بريطانيا أيضا حيث سيدعى الناخبون إلى الإدلاء بأصواتهم حول مستقبلهم في أوروبا، يجد الاستفتاء في اليونان أصداء خاصة. كما أنها عبرت على لسان مسؤوليها، أنها ستفعل كل ما يلزم لحماية اقتصادها. تفكك أروبي تدريجي أما في حالة اتجاه أروبا للضغط على زر خروج اليونان من منطقة اليورو، رغم تأكيد هذه الأخيرة على أنها ليست ضيفا في الاتحاد لتغادره، فإن المحللين يعتبرون في حالة ما اتخذ قادة الاتحاد هذا القرار، فإنه ستكون له تداعيات جمة ووخيمة على مصير الاتحاد ومستقبله، إذ من شأن هذا الخروج أن يؤثر على البناء الأروبي برمته، خصوصا مع الميزة التاريخية والإستراتيجية لليونان كواجهة جنوبية متوسطية للاتحاد الأوروبي. ويشير الخبراء أيضا إلى أن هذا القرار، سيتسبب في زعزعة الثقة بالاتحاد الأوروبي وبجدوى الالتحاق به، وكذا سيشكك في القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها للمنضمين إليه، خصوصا تلك الدول التي توصف بالحلقة الأضعف في هذا البناء العملاق والمتمثلة في الدول ذات الاقتصادات غير القوية مثل دول شرق أوروبا. ويصف المحللون أن ما تقوم به الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي يشير إلى وجود عملية ابتزاز وضغوطات كبيرة تتم ممارستها على الدول الأضعف بدلًا من أن تطبق مبادئ التضامن بين مختلف الأعضاء. هذا الأمر قد يكون سببا رئيسيا وراء بداية تفكك الاتحاد الأوروبي تدريجيا على المدى المتوسط والبعيد. هذا الأمر سيكون مطلبا روسيا بامتياز، حيث تعتبر روسيا الاتحاد الأوروبي خصما عنيدا لها خصوصا بعد فرض الاتحاد سلسلة من العقوبات الاقتصادية عليها، والتي تسببت في تكبيد الاقتصاد الروسي خسائر فادحة. وخروج اليونان من منطقة لايورو، يحيل مباشرة على إفلاسها، وسقوط الديون عن ذمتها، وفي هذه الحال، فإن كثيرا من احتياطات الدول من اليورو سيتم تسييلها وستتجه هذه الدول إلى الدولار الأمريكي والين الياباني والجنيه الإسترليني، مما سيجعل أسعار صرف هذه العملات ترتفع مقابل اليورو. من هنا فإن الدول ذات الاحتياطات الأجنبية الكبيرة بالدولار الأمريكي ستشعر بانتعاش وزيادة في القدرة الشرائية، والعكس بالنسبة للدول التي تعتمد على اليورو في احتياطاتها الأجنبية. كما أن مثل هذا السيناريو قد يتسبب للقارة العجوز بإفلاس دول أخرى، وبالتالي، سيكون الاتحاد الأروبي أمام حدوث معضلة ركود عميقة ستؤدي مباشرة إلى انخفاض سعر النفط. في المحصلة في المقابل ونتيجة لكل ما سبق ذكره، فإن رفض اليونانيين لسياسة الدائنين، أحدث ارتباكا داخل منطقة اليورو، حيث صرح وزير الاقتصاد الألماني سيغمار غابرييل أنه «يصعب تصور» إجراء مفاوضات جديدة بين الأوروبيين وأثينا بعد رفض غالبية اليونانيين خطة الدائنين. بل أن غابرييل اعتبر أن رئيس الوزراء اليوناني الكسيس تسيبراس «قطع آخر الجسور» بين بلاده وأوروبا. وفي حين اعتبرت نتيجة الاستفتاء نصرا لرئيس الوزراء اليوناني تسيبراس، الذي كان دعا للتصويت ضد مقترحات الدائنين وكذلك نصرا لليسار المناهض للتقشف والسياسات الليبرالية في أوروبا، فإن الغموض بات يلف مستقبل علاقة أثينا بمنطقة اليورو وبالدائنين كما لم يرتسم موقفا موحدا من الوضع في أثينا بين الشركاء الأوروبيين. واعتبر مراقبون أن الاتحاد الأوروبي يعيش اليوم أخطر وضع منذ تأسيسه، نتيجة ما يمكن أن يتمخض عن هذا الاستفتاء، ويمكن أن يجد نفسه أمام إشكالات داخلية تواجهه لأول مرة في تاريخه، بالنظر للوضع الاقتصادي المشابه، إلى حد ما، لوضع اليونان في كل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا. بقاء اليونان في منطقة اليورو وخلافا لكل ما سبق ذكره، وكنتيجة لما قد يؤدي إليه احتمال خروج اليونان من منطقة اليورو، فإن الاتحاد الأروبي لن يجد من حل وسط لهذه الأزمة من بد غير قبول بقاء اليونان ضمن خارطته، درءا لأي تأثير سلبي على كيانه اقتصاديا وسياسيا، فالمراقبون يؤكدون أن كل المعطيات تدعم موقف بقاء اليونان في منطقة اليورو، وتشير في هذا السياق إلى «الغموض» التام» حول العواقب الاقتصادية والجيوسياسية التي من الممكن أن تنجم عن دفع هذا البلد خارج منطقة اليورو، إضافة إلى أن واشنطن تمارس ضغطا كبيرا على الاتحاد الأوروبي لأجل بقاء أثينا ضمن أسرة اليورو خشية من الوقوع في أزمة مالية دولية جديدة. كما أن خروج اليونان سيفسر على أنه فشل سياسي لكل من ميركل وهولاند، وستحاول قوى اليسار المتطرف ومعها اليمين المتطرف من استثماره في المحطات السياسية المقبلة المحلية والأوروبية.