في الأيام الماضية، عاشت إسبانيا على وقع حدثين يهمان المغاربة: الحدث الأول طرد قاض لمحامية مغربية من قاعة المحكمة لأنها ترتدي الحجاب، والحدث الثاني مظاهرة في مدينة إشبيلية تعارض بقوة بناء مسجد في المدينة. في الحدث الأول، بدا جليا أن كثيرا من الإسبان يريدون أن يروا المغاربة يشتغلون أي شيء في إسبانيا إلا أن يكونوا محامين أو أطباء أو مقاولين ناجحين. وعندما دخلت محامية مغربية محجبة إلى قاعة المحكمة، فإن القاضي الإسباني أمرها بالخروج، رغم أنه لا يوجد أي نص قانوني ينص على ذلك، وكل ما في الأمر أن القاضي انزعج لأن امرأة مغربية، كان يريد أن يراها تجني التوت والطماطم في حقول ألمرية أو ويلبا، تقف أمامه لكي ترافع كغيرها من محامي ومحاميات إسبانيا. القضية الثانية هي قضية مسجد إشبيلية، وهي قضية يختلط فيه التاريخ بالخوف والعنصرية، وببهارات أخرى. المغاربة الذين يعيشون في إسبانيا أنهكتهم الأزمة وصاروا يحتاجون إلى ملاذات روحية يتبادلون فيها شكاواهم ولواعجهم، ومن بين هذه الملاذات مساجد يؤدون فيها الصلوات ويرتاحون بين جنباتها من تعب الحياة وضنك الأزمات. لكن إسبانا كثيرين خرجوا إلى شوارع إشبيلية وقالوا إنهم لا يريدون رؤية مسجد في مدينتهم مهما كان الثمن. في الاحتجاجات، كان هناك إسبان في الثمانين من العمر وأطفال في الثامنة، كلهم كانوا يصرخون «لا للمسجد». ومن رأى المظاهرة ذلك اليوم، بدا له كما لو أن إشبيلية سيغرقها الطوفان بمجرد أن تظهر في سمائها صومعة. أحد الإسبان قال بصوت تغلب عليه حشرجة البكاء: لا نريدهم أن يبنوا مساجدهم عندنا لأنهم يمنعوننا من بناء كنائس في بلدانهم ويحرموننا من حمل الصلبان. لو زار هذا الإسباني أقرب مدينة مغربية إلى إسبانيا، وهي طنجة، لرأى أن عدد الكنائس الكبيرة فيها أكبر من عدد المساجد، وأن أعلى رمز ديني في طنجة هو الصليب الذي يوجد فوق «صومعة» الكنيسة المجاورة لمسجد محمد الخامس. المشكلة أن الإسبان لا يفرقون بين المغرب والسعودية. وحين يقول لهم مغربي إن الجالية المغربية في حاجة إلى مساجد، يجيبه الإسبان بأن المسيحيين لا يمكنهم بدورهم بناء كنائس في السعودية. حكاية الإسبان في إشبيلية مع المسجد غريبة ومثيرة. وقبل أشهر، قام إسبان برمي رأس خنزير على أرض كان من المرتقب أن يُبنى فيها مسجد. الإسبان يعتقدون أن كل أرض مدنسة بخنزير لا يمكن أن يبنى فيها مسجد. وعموما، فإن حكاية الإسبان مع الخنازير غارقة في بطن التاريخ. وقبل خمسة قرون، كان الرهبان وقادة محاكم التفتيش يستخدمون الخنازير للكشف عن الأندلسيين المسلمين الذين كانوا يغيرون أسماءهم لتصبح نصرانية، لكنهم حافظوا على معتقداتهم. يومها، كان الرهبان يقدمون لحم الخنزير إلى المشتبه في كونهم مسلمين، وفي كثير من الأحيان يعاف المسلمون غريزيا أكل الخنزير حتى لو حاولوا تناوله رغما عنهم، فيقادون مباشرة نحو زنازين التعذيب أو الحرق أحياء. هناك مشكلة أخرى وهي أن ذاكرة الإسبان قصيرة جدا. إنهم ينسون أنه خلال الحماية الإسبانية على شمال المغرب، جاء إسبان كثيرون إلى المغرب من دون جواز سفر. كانوا يهربون من الجوع والقمع والبطالة، وبنوا في المغرب ما يريدونه من كنائس وحانات. وهناك إسبان كثيرون جاؤوا على ظهر باطيرات ونزلوا على الشواطئ المغربية كما ينزل اليوم الحرّاكة المغاربة في الشواطئ الإسبانية. وأغلب أولئك الحرّاكة الإسبان كانوا من المعارضين السياسيين لنظام الجنرال فرانكو الذين لا يستطيعون المرور عبر الحواجز الحدودية بشكل طبيعي، مثل الموانئ والمطارات، وهكذا سجل الإسبان أولى حالات «الحْريك» في التاريخ عبر مضيق جبل طارق. الإسبان استعمروا شمال المغرب 50 عاما ونهبوا ثرواته وأمطروا سكانه بالأسلحة الكيماوية التي لا تزال إلى اليوم تتسبب في إصابة الكثير من الناس بالسرطان. وعندما خرجوا سنة 1956، فإنهم لم يتركوا فيه أي شيء يستحق التنويه.. لا طرقات ولا بنيات تحتية ولا مصانع ولا مدارس ولا جامعات. المغرب سيىء الحظ حتى في البلدان التي استعمرته.. فرنسا تركت لنا جيشا من الفرنكفونيين، وإسبانيا تركت لنا الحفر والخراب وأمراض السرطان.