حين تنتقل أسرة ما إلى حي جديد، فإن من بين ما تطلبه وتتمناه جيرانا طيبين. وبمجرد استقرارها، تثير الأسرة المنتقلة حديثا فضول السكان، منهم من يمر مرور الكرام على التحاق جار جديد بالركب الجيراني، ومنهم من يأسره فضوله، إلى حين كشف خيوط عملية الالتحاق، إذ تبدأ التحقيقات من الأطفال الصغار في حالة وجودهم، لسؤالهم عن دواعي الانتقال، ومن أي جهة أو مدينة أتوا، والكثير الكثير من الأسئلة إلى حين تبين خيوط قصة الانتقال. حياة الجيران لا تخلو من محاولات كشف تفاصيل حياة كل جار على حدة، وفي كثير من الأحيان تصبح هذه النقطة الشغل الشاغل لمجموعة من الأسر، خصوصا نون نسوتها، حيث غالبا ما يجتمعن حول مائدة تعد خصيصا للنميمة، لتحكي كل منهن تفاصيل قصة جارة نجحت في معرفة تفاصيلها وفك شفراتها، لتبدأ عملية السرد في جو يثير فضول الأخريات، ويشد انتباههن. لكن علاقات الجيران بعضهم ببعض، لا تسبغها النميمة فقط، بل تتعداها إلى طرائف وغرائب ومشاكل ومشادات عضلية وكلامية، وقعت بين جار وجاره، بوصفها «نكت» تظل الأجيال تتناقلها لكونها تثير الطرافة والغرابة، مثل علاقات حب تنسج خيوطها داخل المجمعات السكنية أو اقتحام زوج لمطبخ جارة، أو ضبط خيانة زوجية، أو لكم جارة لجارتها. حين سؤالها عن طرائف وغرائب عايشتها رفقة جيرانها، تذكرت أسماء سيدة قطنت وإياها بنفس الحي، كانت تثير استياءها وامتعاضها لكثرة تدخلها في شؤون سكان الحي من الجيران. حتى أنه ذات مرة تدخل أحد الأزواج محذرا إياها من التدخل في شؤونه وزوجته. «كانت ملقبة في الحي بالخبر العاجل، لكونها على علم بكل الأخبار والأحداث التي تقع خلف جدران البيوت، مع تغطية شاملة ونشرة مفصلة عما حدث ويحدث، والغريب أن كل أخبارها كانت صحيحة وموثوقة، لذلك سماها أهل الحي «بقناة الخبر العاجل». أما حليمة فتحكي عن علاقتها بجارة قديمة، كانت تقطن في الدور العلوي، كان حمامها يسرب المياه إلى حمامها، وبعد عدة محاولات منها لجعل الجارة تصلح العطب، قوبلت بالرفض، ومع إحساس حليمة بالضيق من جراء تحول حمام الجيران إلى شلال يسرب مياه الصرف الصحي لها، قررت أن تتخذ إجراءات زجرية وبمفردها، صعدت إلى شقة جارتها رفقة رصاص، طرقت الباب، وبمجرد ما فتحته جارتها، لكمتها على وجهها بقوة شديدة، حتى سقطت صريعة لا تعرف ما حل بها «بمجرد فتحها للباب، ضربتها للفم ببونية، واقتحمت بيتها، رغما عنها، وطلبت من السمكري إصلاح الضرر، ظلت هي جالسة في زاوية من بيتها، تستجمع أنفاسها وترمقني بنظرات الخائفة المرتعبة، أنهى «المعلم» عمله، دفعت أجره، وصرخت في وجهها، المرة القادمة إذا حصل تسرب ولم تقومي بإصلاحه على نفقتك الشخصية، غنفرج فيك الجيران مزيان، غادرت وأقفلت باب بيتها ورائي، مسكينة مفهمت والو». «تبان سينيي» قصة ضربها لجارتها لازالت تثير فضول العديد من الجيران، وكلما تذكرتها حليمة وأسرتها إلا وانفجروا ضحكا، لكن الأكثر غرابة موقف عايشته حليمة، حدث لها مع جارة أخرى، رغم أنها أحست بحرج شديد لتحكيه، إلا أنها حكته بالتقسيط، إذ كانت تنفجر ضحكا كلما وصلت إلى لب الواقعة. فالمشكلة تتعلق بسرقة تبان «من ماركة عالمية شهيرة»، تقول حليمة بهذا الشأن «سألت الجيران جميعهم إن كانوا حملوه مع ملابسهم، إلا أنهم جميعا أجابوا بالنفي، وبعد مضي حوالي أسبوعين على اختفائه، صعدت إلى سطح العمارة من أجل نشر غسيلي، لأفاجأ بالتبان وهو بالسطح»، تفسر حليمة سبب انفعالها الشديد بكونها معروفة لدى الجميع بأن لديها «عصاب» لا تنفع معه أي سبل لتهدئة الوضع. تتذكر حليمة أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها من أجل التبان غالي الثمن، صرخت بأعلى صوتها فتجمهرت حولها نساء العمارة، ووقتها سألتهن لمن يعود الغسيل، أجابت إحداهن بأنه غسيلها، ووقتها بدأت المشادات الكلامية والاتهام بالسرقة، والجارة تنفي، «وبعدما رأت أني وصلت لمرحلة لا ينفع معها نكرانها، بدأت تتحجج بأنها لم تنتبه للأمر، بعدها مزقته، وبهدلتها مزيان». حب الجيران: أعين تراقب وأفواه تشي طرائف الجيران وغرائبهم مع بعضهم البعض لا تقف عند هذا الحد، إذ تحكي فاطمة قصة ابن جارتها الشاب الذي كلما غادرت أمه الشقة، كان يغادر بعدها مباشرة، ليعود برفقة فتاة، فتيات من كل الأشكال والألوان «ها الزعرة ها السمرة»، بعد تكرر الأمر، خشيت فاطمة على سمعة العمارة، وعلى المشكل الذي قد يلحق بهم جراء طيش ابن الجيران، فقررت إبلاغ أمه، وبعدها اتفقتا سويا على نصب كمين له لثنيه عن اقتراف الخطوة مرة أخرى. أوهمته أمه بأنها ستسافر إلى عملها كما اعتادت دوما، وظلت الجارة تراقب من نافذة شقتها لمحته قادما برفقة فتاة، وبمجرد ما استشعرت وقع خطواتهما على الدرج، أبلغت الأم بأن المصيدة قد نصبت، والعصفورين قد دلفا إلى داخل الشقة، وحين أحست بانغماسهما في أداء ما جاءا لأجله، وأنهما قطعا نصف الطريق، اتصلت بوالدته لتخبرها بأن تتدخل وتنشر غسيل ابنها أمام الجيران. حضرت الأم، صرخت وسبت وشتمت كليهما. الغريب في الأمر، أن الشاب صدم أمام علم أمه بالأمر، حتى اختلقت أمر سفرها لتضبطه «حيا يرزق». شكا ما حصل لجارته فاطمة التي جايلته حتى اشتد عوده، فأخبرته بأن الجيران في العمارة المقابلة هم من وشى به، ولايزال إلى حد الآن بعد مرور سنوات على فضيحته «بجلايل» لا يعرف أن جارته التي كان يأتمنها على أسرار خرجاته ودخلاته إلى الشقة، كانت سببا في إنهائها، وأنها هي من غدر به وأبلغ والدته بالأمر لتنتهي بذلك مغامراته و«فتوحاته» الرجالية. «مسكين معرف الدقة منين جاتو»، رددت جارته هذه العبارة وهي تقهقه بأعلى صوتها. طرافة وغرابة إلى جانبها، تحكي سيدة أخرى، أنها حين كانت تقيم بإحدى المدن المغربية، لم تكن تتوفر على سكن خاص بها، وكانت تكتري برفقة زوجها الجندي شقة تقاسمتها رفقة إحدى السيدات وزوجها. عاد الزوج من ممارسة مهامه الرسمية، طالبا اللجوء إلى حضن زوجته، وبمجرد ولوجه الشقة توجه إلى باب الغرفة، جر وراءه زوجته إلى غرفتهما، بعد برهة دخلت جارتهما الغرفة، دون أن تدري أن الزوج مع زوجته. خرجت الجارة «مكسوفة» ومصدومة، ولم تستطع في القادم من الأيام أن «تجي عينها فعينو». ومنذ تلك الواقعة، تعلمت السيدة طرق الباب، وتعلم الزوج ضبط نفسه إلى حين إقفال باب الغرفة. اقتحام غرف النوم، يرافقها أيضا اقتحام مطبخ الجارات، حيث تتذكر إحداهن، حين انتقالها إلى شقة جديدة، كانت في المطبخ تعد الفطور، خرجت ابنتها لتحضر «البارزيان»، وفجأة وجدت زوج جارتها في مطبخها، وقد أحضر بدوره البارزيان، وهو يسألها إن كانت قد جهزت الفطور، نظرت إليه باستغراب شديد ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة، وحين أدرك الجار أنه قد أخطأ المطبخ والزوجة والشقة، أطلق ساقيه للريح، وبعد مضي بضع ساعات، نزلت زوجته تعتذر من جارتها، لأن الزوج أخطأ باب الشقة. مرت الحادثة بسلام، وصارت الأم تغلق بابها كلما غادره فرد من أفراد أسرتها كي لا تجد نفسها في المأزق ذاته مع جار آخر. غزل وتحرش وخيانة زوجية حكايات «الجورة» وصلت تفاصيلها إلى حد الضرب والجرح، أو التهديد به، فالصراعات والشجارات تنشب نتيجة خلافات تكون أحيانا بسيطة، لكن مواقف الجيران تعدت النميمة والمشادات الكلامية بأشواط حتى وصلت إلى الغزل والتحرش والحب من خلف الأبواب الموصدة، والنوافذ المشرعة. حيث حدثنا رجل عايش موقفا غريبا حين كان في ضيافة أخته، وحين فتح نافذة الغرفة التي قضى الليلة بها، من أجل شم هواء النسيم، تراءى له نور يظهر ويخفت في جدار الغرفة، تكرر الأمر مرات كثيرة، وبعدها حاول تبين مصدر الضوء، وحين أطل من النافذة، لمحت عيناه فتاة بملابس أظهرت بعضا من مفاتنها. بدأت تشاكسه وتعاكسه، بحركات جريئة ارتعدت لها فرائص الرجل المسكين، فقام مباشرة وأغلق النافذة، مغلقا معها باب كل الاحتمالات، ومن وقتها قرر عدم النوم ببيت أخته، وإن اضطر إلى ذلك ففي غرفة لا تطل على الجيران، تلافيا لأي مشكل مشابه قد يعترض مسار نومه. أما سميرة الطالبة الجامعية، فلازالت تتذكر مراقبة الجار الذي يسكن في الطابق المقابل للشقة التي تكتري بها غرفة، حيث كانت تفتح نافذة غرفتها ليتجدد الهواء، ولترى نور الشمس يتسرب إليها ماسحا بعضا من غربة الدار عنها. ذات يوم جلست في غرفتها تقوم بواجباتها الجامعية، وبعدما استدارت فجأة بحثا عن كتاب كان موضوعا وراءها، لمحت جارها يراقبها من نافذة شقته، «أحسست بخوف شديد، لم أتوقع أني مراقبة من قبل جاري الخمسيني، الذي صار يتلصص علي كلما حل بشقته، لذلك صرت أوثر إغلاق نافذة الغرفة، حين أكون بالبيت، خصوصا وأن تصرفات زوجته حين نتصادف بالدرج، كانت تنم عن غضب وعلم بأمر تجسس زوجها، فضلا عن أن الزوج حين كنت التقيه بالدرج، كان يصدر أصواتا غريبة كان يدب الرعب في جسدي على إثرها، بعدها غادرت الشقة إلى مكان آخر، تفاديا لأي صراع محتمل». حكاية محمد، تختلف كثيرا عن حكاية سميرة، إذ بعد انتقال زوجين أربعينيين إلى عمارته، وقع في غرام الزوجة، التي لم تجد حرجا في قبول عرضه، وبعدها تحولت العلاقة من اللقاءات خارج العمارة، إلى اللقاءات داخلها. تحكي نادية للمساء، تفاصيل حكاية جاريها التي تداولها الجيران فيما بينهم لمدة طويلة، «مضت على حالهما مدة طويلة، إلى أن قرر أحد الجيران إبلاغ الزوج المخدوع بما يجري في غرفة نومه من وراء ظهره. أعلمه الواشي بتوقيت دخوله إلى شقة زوجته، ليفاجئهما معا في الغرفة، قامت الدنيا والتأم الجيران، والزوج يحاول قتل جاره الخائن الذي تطاول على ممتلكاته وكرامته وشرفه، تدخل بعض الجيران، وفر الخائن، دون أي رجعة، طلق الزوج زوجته، وقرر ترصد جاره الذي ضبطه رفقتها، هذا الأخير غادر المدينة دون رجعة». أما كريمة، فلم تنس لحد الآن ما حصل لها حين انتقالها لشقة جديدة بأحد أحياء الدارالبيضاء، حيث كان زوجها يأتي كل نهاية أسبوع، كونه كان يشتغل بعيدا عن المدينة. غياب الزوج وحضوره كل نهاية أسبوع جعل الجيران يرتابون في أمر جارتهم الجديدة، حيث قامت إحداهن وأسرتها بتوجيه اتهام مباشر لها أمام بقية الجيران. لم تستسغ السيدة الاتهام الباطل، وردت بقوة، ودخلت في عراك بالأيدي مع المتهمين، حتى وصل الأمر إلى عراك تفرج فيه الكثيرون من الجيران وجيرانهم. «وفي الأخير حضر زوجي ووضح الأمر للجيران، رغم أني لازلت لحد الآن أحس بغصة في القلب كلما تذكرت الموقف المحرج الذي وجدت نفسي فيه دون سابق إنذار». لوبي الجيران الحكايات كثيرة ومتنوعة، ولا تتوقف عند هذا الحد، لكن علاقات الجيران لا تتوقف عند الجانب السلبي منها، بل يتخللها الكثير من التكافل والتضامن والمساندة المادية والمعنوية، سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، فحين يمرض فرد من الجيران، يجتمع البقية ليعودوه ويتمنوا له الشفاء العاجل، وحين يحضر الموت ويجثم على صدر أسرة منهم، يتكتل بقيتهم ليؤازروهم ويشدو عضدهم. وحين الفرح كحفلات الأعراس والعقيقة…، تجدهم يجتمعون جميعهم، ليقوم كل بدور، سواء منح الجار الشقة أو أغراضها، أو المشاركة في الفرح والانغماس فيه بكل روح التآخي والتآزر. هي وقائع تسم علاقة الجار بأخيه، وتؤثث فضاء مهما من حياة كل منهما، يتقاسمون الأفراح والمسرات، كما يتقاسمون أخبار بعضهم البعض، ويغتابون بعضهم البعض، فتلك مظاهر من مظاهرة علاقة «الجورة» التي تسبغ علاقات هؤلاء بأولئك لا أقل ولا أكثر.