يلجأ البعض منا إلى التداوي بالأعشاب لقلة ذات يده، بينما يلجأ إليه البعض الآخر بحثا عن علاج معجزة أو عن «طب بديل»، لعلاج مرض انهزم أمامه الطب العصري. والأساس في ذلك كله أن أغلب الأعشاب الطبية أكدت فعاليتها العلاجية منذ قرون، لكن عندما يتضافر ازدحام الساحة بمن لا معرفة له بهذا الفن العلاجي القائم الذات مع الظروف المزرية التي يتم فيها جني وحفظ الأعشاب، تصبح رحلة البحث عن علاج رخيص أو «بديل» محفوفة بمخاطر كبرى. روبورتاج. تجدونها في كل مكان: في الأسواق الأسبوعية القروية، كما في دكاكين العطارة بالمدن، أو على قارعة الطريق، أو بجوار المساجد.. إنها الأعشاب الطبية الخام أو شبه «المصنعة». أكثرها محلي وقليل منها مستورد، وإذا ما صدقنا بائعيها فإنها تعالج كل علل الجسم البشري من الإسهال وحتى أكثر أنواع السرطان فتكا ! سوق شعبية بالدار البيضاء، بعيد العصر بقليل. تقف سيدة في منتصف عقدها الخامس بباب دكان عطارة صغير، وبكلمات مقتضبة وسريعة شرحت للعطار أن ابنها الشاب أصيب بمغض مصاحب بقيء وإسهال حاد إثر تناوله سندويتشا خارج البيت، في اليوم السابق. لم تكد تنهي السيدة تشخيصها لحالة ابنها بعد، حتى شرعت يد العطار تجمع في أكياس صغيرة من الورق الخشن حفنات من معروضات الأعشاب المجففة التي امتلأت بها جنبات الدكان الضيق. وبعدما جمع عناصر الدواء شرع»الحكيم» في توضيح طريقة إعداد الوصفة وعدد الجرعات ومدة العلاج.. هكذا، في أقل من عشر دقائق قام العطار بتشخيص مرض الشاب الذي كان غائبا ووصف له علاجا بالوكالة ! همهمت السيدة بعبارات امتنان غامضة، ثم سلمت العطار عشرين درهما وهو سعر لم يتم الاتفاق حوله قبلا، ثم انسحبت مطمئنة إلى حيث ينتظر ابنها بالأعشاب الطبية. لا تبدو من مظهرها أنها فقيرة إلى الحد الذي يعجزها حالها عن حمل ابنها إلى عيادة طبيب، لكن وصفة الأعشاب فضلا عن كون فعاليتها»مجربة» –كما قالت تلك السيدة- تسمح بحمل الدواء إلى المريض إلى سريره في البيت بأقل تعب وأرخص التكاليف، وبدون أعراض جانبية سلبية على صحته فوق ذلك كله. أو هذا ما يبدو عليه الوضع! «صيدليات الشوارع» القارة والمتنقلة يسمى العطار في المغرب أيضا «عشابا»، لكون أغلب العطارين يشتغلون كذلك في حقل التداوي بالأعشاب. إذ تجدهم في كل القرى والمدن، داخل دكاكين منتظمة بالأسواق أو خارجها، أو في خيام متنقلة في المواسم الاحتفالية أو في الأسواق الأسبوعية. بعضهم يكتفي بإعطاء زبائنهم وصفات للعلاج بالأعشاب، بينما يستعمل آخرون أيضا الفصد والكي وغيرها من أساليب العلاج التقليدي. والعطارون مستويات، فيهم العالمون بمجالات استعمال الأعشاب الطبية ومحاذيرها، وفيهم كذلك المدعون المجتهدون من دون علم. وبين هؤلاء وأولئك كثيرون ممن يحق فيهم القول إن «عطارة الأعشاب أضحت حرفة من لا حرفة له ! « «إذا كان الطبيب الذي درس طويلا تشريح الجسم البشري، وكذا الأمراض التي تصيبه وسبل القضاء عليها يقع في أخطاء، حين تشخيص حالات مرض من دون الاستعانة بفحوصات مخبرية وأشعة، يقول صيدلي، فكيف ننتظر من عطار لم يدرس الطب أصلا، ولا خبرة حقيقية له في النباتات أن يشخص أمراضا ويصف لها العلاجات المناسبة؟!» ثم بنبرة جدية ينهي الموضوع قائلا: «صحة الناس ليست لعبا !» وعندما تواجه بعض العطارين بسؤال الحقيقة يكون الرد واحدا، وإن بصيغ مختلفة: «هل سبق أن اشتكى منا مريض بكوننا تلاعبنا بآلامه، كما يقول الأطباء؟» والحقيقة أنه باستثناء بعض شهادات لزبائن سوق العشابين المسمى «سوق الجميعة» بالدار البيضاء، و التي أفاد أصحابها كونهم لم يجدوا في الأعشاب التي نصحهم بها العطارون ما كانوا يأملون من علاج سريع، فإن أغلب من تسألهم يكادون يجمعون على الرضا على النتائج التي وصلوا إليها. هل تراه الرضى الفعلي أم مجرد نفاق عابر في الكلام؟ للحقيقة ألف وجه، لذلك لنكتف بالاستماع إلى بعض شهادات الرضى تلك.. شابة مقبلة على الزواج تحكي أنها عانت طويلا ومريرا مع شعرها وهو عنوان أنوثتها، فعرضت نفسها على طبيب اختصاصي أول، ثم ثان، ثم ثالث.. وفي كل مرة كان أمد العلاج يطول بلا نتيجة وبتكاليف فوق التحمل .. «حقن هرمونات، أدوية كثيرة وأنا أخفي رأسي في باروكة، حتى ذهبت عند عشاب كان من الممكن أن يختصر علي الوقت والمال الضائع لو اتصلت به منذ البداية. والحمد لله لم تتأخر النتيجة في الظهور وعاود الشعر نموه شبه الطبيعي». رجل يقسم بأن ابنه البالغ عشر سنين شفي تماما من داء الربو المزمن الذي كاد يقضي عليه. ويقول: «لم يفلح أطباء الأمراض التنفسية على مدى سنين في الإتيان بالنتيجة التي حققتها بعض الأعشاب والبذور والعسل، بعد إرادة الله، خلال أسابيع معدودة». «الفياغرا الشعبية» سبقت الحبة الزرقاء ! إذا نحن صدقنا كل ما يرد على ألسنة العشابين وبعض مرضاهم، فإن الحاجة لم تعد قائمة إلى مستشفيات ولا مختبرات للتحاليل في البلد. «لكل داء دواء إلا الموت»، ردد أحدهم العبارة أكثر من مرة في مكروفون مشغل على بطارية سيارته، كانت بشرة الرجل تميل إلى سمرة خفيفة وسحنة تشي بانتماء الرجل إلى الجنوب المغربي، حيث القبائل الصحراوية الشهيرة باصطياد الأفاعي المخيفة والحيتان الضخمة الأسطورية. وذلك ما يجعل كثيرين من مرتادي السوق الأسبوعية يعرجون على «صيدليته» الكبيرة للاستفادة من حكمته، أو بدافع الفضول ليس إلا. على قارعة الطريق المترب نشر العشاب الأسمر المتجول «صيدليته» المكونة من عدد لا يحصي من القارورات الزجاجية المختلفة الأحجام، ملأ بعضها بثعابين تسبح في الكحول وفي أخرى ديدان تسبح حية في سوائل، يقول عنها إن بعض المرضى طرحها من أمعائه، بعد تناول محلول يبيعه صاحب «الصيدلية» المفتوحة في الهواء الطلق.. وإلى جانب ذلك بسط على الأرض جلود أفاع وزاحف محنطة، وغيرها من عجائب المخلوقات التي تشد انتباه العادي والبادي، وتقدم إشهارا عن قدراته الخارقة.. بكلام مكرور ردده آلاف المرات، راح الرجل يشرح ذلك بحكمة من خبر أسرار الطب وكلامه المحمول عبر الأثير يصل أطراف السوق. ظل طيلة مقامه بالسوق ينادي كل من به سقم أو شك في مرض خامد أن يقصده، وراح يبشر كل الناس بأن العلاج في المتناول.. «الذي يشكي من الغازات في البطن، يقول، سببها ديدان مثل فراخ الأفاعي تعشش في أمعائه، والذي «نفسه باردة «(عبارة تعني لدى المغاربة من وهنت قدرته الجنسية) لدينا علاجه أيضا بحول الله، واسألوا المجربين». يعلن واثقا من نفسه. يلمحني متابعا باهتمام كلامه فيتقدم نحوي، وينجر معي إلى حديث هامس وقد اقتنع بأنني صيد سهل، «هناك في الصحراء (يقصد المنطقة التي يتحدر منها جنوب المغرب)، توجد نبتة عجيبة لها خصائص طبية باهرة، المشكلة أنه لا يمكن تمييزها نهارا بين الأعشاب البرية الأخرى، ولذلك يسهر الراغبون في الحصول عليها حتى مشارف الفجر حين تضيء زهراتها فيرشونها بالرماد، وعندما يطلع الصباح يذهبون لقطفها بعد أن تدلهم عليها آثار الرماد». قال ذلك وهو يريني في راحة يده مسحوقا عشبيا يزعم بأنه يشعل فحولة الرجل البارد الهمة. أين تبتدئ الحقيقة وأين تنتهي الأسطورة؟ إن ما يتضح من كلام العشاب الصحراوي أنه ميال إلى تغليف كلامه بمسحة من الغموض حتى يوقع هوى في نفوس مستمعيه. أحاول استدراجه للاستفاضة في الحديث عن الفياغرا الشعبية التي يمكن أن ننافس بها الحبة الزرقاء الشهيرة في أسواق العالم. لكنه يفطن للعبة، فيستغرق في ضحك طويل صامت وأنا أسايره منتظرا رده، ثم يتركني ليمضي إلى زبون أتاه شاكيا عطبا لا يجرؤ الرجال في الإفصاح عنه عادة. يجمعهما حديث هامس ينتهي بأن يناول العشاب المطلوب لزبونه ويتناول مقابله. يكمل نصائح الاستعمال ثم يعود اتجاهي وأنا على أطراف صيدليته المفتوحة منتظرا، وما إن يتذكر موضوعنا حتى يستجمع بقايا الحزم لديه ويحسم الموقف قائلا: «يا أخي الناس يعرفون (دواء برودة النفس) هذا قبل ظهور الفياغرا وأنت ما زلت تسأل. لماذا لا تأخذ منها وتجرب بنفسك المفعول الذي ينتج عنها؟» التداوي بالأعشاب أصل الصيدلة العصرية إن الاستخدام التقليدي للأدوية العشبية لم يبدأ من سوق جميعة ولا مع العشاب الصحراوي، بل تعود جذوره البعيدة إلى الأزمنة الأولى لظهور البشر على الأرض. واتسعت معرفة الشعوب بالخصائص العلاجية للأعشاب شيئا فشيئا عبر الأجيال والقرون حتى أضحت ملكا معرفيا مشتركا للبشرية، يحظى الآن باعتراف واسع من المراجع العلمية في العالم، متى احترمت شروط إنتاج الأعشاب واستعمالاتها. وبحسب تعريف منظمة الصحة العالمية، فإن مصطلح «الأدوية العشبية» يشمل الأعشاب، والمواد العشبية، والمستحضرات العشبية، والمنتجات العشبية الجاهزة التي تحتوي على عناصر نباتية فاعلة أو على مواد أو تركيبات نباتية أخرى. وتعرف أدبيات المنظمة الأعشاب بكونها المواد النباتية الخام مثل الأوراق، أو الزهور، أو الفواكه، أو البذور، أو الجذوع، أو الخشب، أو اللحاء، أو الجذور، أو الأجزاء النباتية الأخرى، التي قد تكون في شكل مكتمل أو مجزّأ أو مسحوق. أما المواد العشبية فتشمل إضافة إلى الأعشاب، العصائر الطازجة وأشكال الصمغ والزيوت الثابتة والمساحيق العشبية الجافة. ويمكن إعداد هذه المواد في بعض البلدان، باتباع إجراءات محلية مختلفة مثل التبخير، أو التحميص، أو الطهي في الفرن بالعسل أو بالمشروبات الكحولية أو بمواد أخرى. وبحسب المصدر نفسه، فإن الأعشاب تؤثر على صحة الإنسان من خلال المكوّن الفاعل أو العنصر الفعال، يشير مصطلح «المكوّنات الفاعلة» إلى مكوّنات الأدوية العشبية ذات التأثير العلاجي. وفي الغالب تتوارث المعارف والخبرات حول الأعشاب على مدى أجيال بين أفراد العائلة الواحدة. لكن ذلك لا يمنع من تهافت كثير من المشعوذين الجاهلين بخصائص الأعشاب على الميدان. في انتظار القانون.. رسميا، يتوفر المغرب على بعض القوانين التي تقنن عمل العشابين ومنها ظهير 19 فبراير 1960، الذي « تنتظم بمقتضاه مزاولة مهن الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان والعقاقريين والقوابل»، وكذلك ظهيرا 27 فبراير 1923 و20 غشت 1926. لكنها قوانين قديمة لا تملك الوضوح الكافي وينبغي تحيينها، بما يسمح لها بتنظيم قطاع أصبح يشمل فضلا عن العشابين التقليديين، الإذاعات الخاصة والصحف والقنوات الفضائية وغيرها. ومن أجل سد تلك الثغرات القانونية، كان وزير الصحة الحسين الوردي صرح أمام البرلمان قبل عام، بأن وزارته تعد قانونا لمحاربة التداوي العشوائي بالأعشاب. لكن في انتظار القانون تفعل الفوضى فعلها دون رقيب. سألت «المساء» الدكتور موريس بيرجورون، وهو خبير كندي مُكَوِّن في مجال العلاج بالأعشاب الطبية عن رأيه في «الحالة المغربية»، فكانت ملاحظته الأبرز أنه تكفي ملاحظة طريقة عرض تلك الأعشاب بشكل عشوائي، لتظهر عدم احترافية من يدعون بأنهم معالجون بالأعشاب! «عندما نقول بأن على من يعالج بالأعشاب الطبية أن يكون خبيرا حقيقيا بالأعشاب، يقول د. بيرجورون، فلأن لكل نبات ولكل جزء من النبات المعالج فصل للقطف، بل وحتى يوم في السنة للجني «. ويوضح كلامه بالقول إننا نجد مثلا جذور نبات يتركز فيها العنصر الفعال فتنظف مثلا الكبد، بينما يقل تركيزه في أجزائها الأخرى التي تعالج أمراضا أخرى. أما بخصوص الأعشاب التي تعرض للبيع في المغرب دون حمايتها من التلوث بالغبار والحشرات، وتقع عليها أشعة الشمس مباشرة، فيرى الخبير الكندي بأسى بأنها «تمثل خطرا على صحة من يعالج نفسه بها، نظرا لكونها تفقد عناصرها الفعالة التي هي أساس العلاج. فضبط درجة الحرارة والرطوبة وحفظ الأعشاب من التلوث هي شروط أساسية لكي تحافظ الأعشاب الطبية على فعاليتها العلاجية». ويختم د، موريس بيرجورون تصريحه ل»المساء» قائلا: «إن العشاب المتطفل على الميدان يمثل دائما خطرا على الناس الذين يثقون فيه. ومن مخاطر التطفل أن يشخص العلاج نفسه لجميع المرضى، فقط لأن أعراضهم تتشابه. بينما المعروف طبيا أنه لكل حالة مرَضية تشخيصها الخاص، وما يصلح لهذه الحالة لا يصلح بالضرورة لحالة أخرى، بل قد يكون مضرا بها». في انتظار القانون إذن، تضرب الفوضى أطنابها.