بين المحلات التقليدية و«فرّاشات» العشابة والمعشبات العصرية، يجد ما أصبح يُعرف ب«الطب البديل» رواجا، خصوصا بين الفقراء الهاربين من غلاء الصيدليات والباحثين عن الحد من آلامهم أو تحسين «أدائهم» الجنسي. لا يبالون إن كانت تلك «الأدوية» الرخيصة ستزيد من أعطابهم أكثر من أن تداوي أمراضهم، خصوصا أن أرقام التسمم بالأعشاب «الطبية» مهولة. «آزيد آ اللي ماحّْناتو المعدة.. آزيد آ اللي هلكو المصران.. آزيد آ مول حريق البول والروماتيز والبرد وبوزلوم.. ها الدوا ديالكم عندي.. جرّبوه وردّو عليا لخبار..»، هكذا كان يصيح عشاب أمام عتبة أحد مساجد مقاطعة البرنوصي بالدار البيضاء، وهو يلوح ببضائعه، رافعا صوته متعمدا إثارة انتباه صاحب كل سقم لكي يلبي نداءه.
هذا «البراح»، بالرغم من أنه لم تطأ قدماه كلية الطب والصيدلة، إلا أن تجارته رائجة بتقمصه دور الطبيب والصيدلي في الآن نفسه، وكل زاده فقط بعض مستحضرات الأعشاب يعرضها فوق «فرّاشته» في الهواء الطلق، والعبارات التي يرددها فتجعل الناس يتسابقون لاقتنائها منه، قبل أن تنفذ.
بلا أعراض جانبية حسن، شاب من بين الناس الذين جذبهم صياح العشاب «البراح» وأقنعهم بتجريب وصفاته. أبدى الشاب اهتماما بكلام البائع وعينه مرصودة على البضاعة التي تصلح لعلاج كل داء، حسب ما يردد صاحبها.
بدا حسن منشرحا وعلامات النصر تعلو محياه، وكأنه ظفر أخيرا بوصفة سحرية ستخلصه من الداء الذي نغص عليه حياته. «آخويا قتلاتني المعدة، وعييت مانجرب فالدوايات حتى جبدت علي المصران.. هاد الشي علاش بديت كنستعمل العشوب حيت ماعندهاش تأثيرات جانبية»، هكذا برر الشاب لجوءه إلى التداوي بالأعشاب، بعدما لم تنفعه الأدوية الصناعية التي داوم على أخذها، بل تسببت له في مرض آخر ب«القولون». حسن بدا واثقا وهو يعقد الآمال على الأعشاب لتشفيه من آلامه، خاصة وأن استهلاكها لا يعرض الجسم لتأثيرات جانبية غير مرغوب فيها، وفق كلامه.
الشيء نفسه بالنسبة إلى مصطفى، وهو مستخدم في العقد الخامس من عمره، إذ يقول إنه استنجد ب«الطب البديل» بعدما لم تسعفه الأدوية في العلاج من داء «الروماتيزم». كان يحرك كلتا رجليه بخفة وهو يردد أن حالتهما تحسنت كثيرا بعدما واظب مؤخرا على استخدام بعض وصفات الأعشاب.
أسعار مناسبة الأمر مختلف بالنسبة لعمر، موظف متقاعد، إذ يعزي السبب الذي دفعه إلى الاستنجاد ب«الطب البديل» إلى رخص أثمنته، مقارنة مع تكلفة اقتناء الأدوية من الصيدليات. الرجل الستيني أثنى على هذه الأعشاب التي وصفها بكونها ذات فعالية سريعة في الاستطباب وبأثمنة في متناول الجميع، قبل أن يستطرد معتبرا الطب البديل «رحمة من الله» للفقراء الذين لا طاقة لهم بأسعار الأدوية الصناعية.
وصفات شفوية أمام دكان أحد العطارين بحي الصفاء (التشارك) بالعاصمة الاقتصادية، وقفت الحاجة فاطمة وطلبت من العطار أن يمدها بقائمة من الأعشاب. المرأة الخمسينية، التي عادت للتو من السوق محملة بقفة الخضر والمشتريات، تقول إنها اعتادت المرور على العشاب من أجل اقتناء مختلف الأعشاب الطبيعية التي تستعملها لمقاومة بعض الأمراض.
بالنسبة إلى هذه المرأة فإن استخدام الأعشاب في التطبيب أفضل للصحة وحتى للجيب، ذلك أن الوصفات التقليدية رخيصة الثمن ومضمونة الفعالية، حسب الحاجة فاطمة، التي تضيف جازمة بأنها لم تزر في حياتها قط طبيبا ولا صيدليا، مشيرة إلى أنها تقتصر فقط على استخدام الوصفات الطبيعية التي يتناقلها المغاربة فيما بينهم شفويا.
كانت الحاجة تتوقف عن الحديث أحيانا لتسعل أو تعطس، وأشارت إلى أنها تعاني من نزلة برد. وأوضحت أنها قصدت العطار لاقتناء عشبة «التيزانة» وبعض أوراق «الأوكاليبتوس»، إضافة إلى كمية من مسحوق الزنجبيل. وجوابا على سؤال ل«أخبار اليوم» عن هدفها من هذه المواد، أجابت المرأة بلا تردد: «عشبة التيزانة تفيد في مقاومة الزكام، والتبخر بأوراق الكاليبتوس ينفع في الوقاية من نزلات البرد، أما شرب مسحوق الزنجبيل مع حليب ساخن فإنه يعالج الزكام والسعال».
عيادات متنقلة أضحت المتاجرة في وصفات شحذ الفحولة أو علاج الأعطاب الجنسية تشكل فرص عمل للعديد من الشباب، خاصة أنها لا تحتاج إلى شهادة علمية أو محل قار بل تعرض فقط في الشوارع والأزقة وأمام المساجد على متن عربات مجرورة.
من بين الوصفات الأكثر رواجا بين شريحة واسعة من الناس، مشروب الزنجبيل أو «الخودنجال»، الذي أصبح يزاحم الشاي والقهوة في قائمة المشروبات الأكثر استهلاكا والأرخص ثمنا، خاصة في الأوساط الشعبية، حيث يكفي مبلغ درهمين أو ثلاثة فقط لشراء كأس حار من ذلك المشروب. ويعزو الكثير سبب ذلك إلى القدرة الجنسية الكبيرة التي يمنحها لهم الزنجبيل، بحسب اعتقادهم.
بمناطق مختلفة من العاصمة الاقتصادية، ينتشر عدد كبير من باعة هذه «المقويات الجنسية»، ويلاحظ أن جميع هؤلاء الباعة يتوفرون على هندام موحد هو لحية بارزة وطاقية وجلباب أو «فوقية».. يعرضون فوق «عياداتهم المتنقلة» وصفات مستحضرة يدويا وأخرى مستوردة من الشرق، وكلها، حسبهم، تصلح لعلاج قائمة طويلة من المشاكل الصحية، خاصة تلك المتعلقة بالاضطرابات الجنسية كقلة الرغبة وضعف الانتصاب وسرعة القذف وحتى العقم.. وتجد هاته الوصفات إقبالا في أوساط الناس رجالا ونساء من الذين يبحثون عن أسهل الحلول وأرخصها، نظرا لما يحيط بموضوع الجنس من جدار سميك في مجتمع لا يقبل فيه الرجل أن يُمس في «رجولته».
تعلق الأخصائية في الأمراض الجنسية والمشاكل النفسية أمال شباش، فتقول إن المغاربة «لا يطرقون أبواب الأخصائيين في المشاكل الجنسية حتى تتدهور حالتهم وتشتد آلامهم»، مضيفة أن هؤلاء «كانوا سيعالجون بسهولة لو أنهم عرضوا أنفسهم على الأخصائيين في الوقت المناسب». وتفسر الأخصائية شباش إقبال المغاربة على التداوي بالأعشاب والوصفات الشعبية أكثر من الطب الحديث، بكونهم يبحثون عن أقرب وسيلة للعلاج وأرخصها، بغض النظر عن عواقب ذلك، مشيرة إلى أن بعض الأعشاب «مسمومة» وتشكل خطرا على صحة مستهلكيها.
وبينما يحذر الأطباء والمختصون من الإدمان على شرب هذا النوع من المواد، نفى أحد باعة هذه الوصفات أن يكون هناك أي ضرر وراء ما يبيعه، خاصة الزنجبيل الذي تحدث عن فوائده، عدد من العلماء الكبار، يقول المصدر نفسه.
وقال مبتسما: عندما سألناه عن فوائد هذا المشروب الذي يتاجر فيه: «أنا تاجر ولست طبيبا، ولكن في حدود علمي ف«الخدودنجال» يزيد الشهوة الجنسية، ويعالج كثيرا من الأمراض، والناس الذين يقبلون على مشروب الزنجبيل هم من كل الفئات».
خدمات منوعة كان الوقت ما بين المغرب والعشاء، من داخل إحدى المعشبات العصرية بحي أناسي، يصدح مكبر الصوت بقرآن مرتل يكاد يغطي على كل اللغط الصادر من الشارع. أغلب مرتادي المعشبة اقتعدوا كراسي مصطفة أمام المحل الأنيق في انتظار حلول أدوارهم. في الداخل، يستقبل العشاب، وهو شاب ذو لحية سوداء كثة يرتدي طاقية و«فوقية» بيضاوين، زبائنه في مكتب محاط بعدة كتب وشواهد تشير إلى خبرة صاحبه كعشاب.
فوق رفوف المحل، صففت قارورات وعلب مختلفة الأشكال والألوان، عبارة عن مستحضرات معدة بالأعشاب لأغراض استشفائية. المعشبة تقدم أيضا لزبائنها خدمات أخرى، مثل الحجامة التقليدية والرقية الشرعية. بباب المعشبة علقت ورقة مكتوبة بخط واضح، تنبه الزبائن إلى أن أوقات استقبال النساء يبدأ من العصر، فيما يبدأ وقت الرجال مباشرة بعد صلاة المغرب.
أول ما يقوم به العشاب، وهو يستقبل زبائنه، بعد أن يخفض من صوت القرآن، هو افتتاح اللقاء بالبسملة وطلب التوفيق والسداد من الله. إذذاك يسأل الزبون عن طلبه، فينصت إليه بإمعان. صلاح، شاب كان في المعشبة نفسها حين جاء يسأل العشاب عن علاج لآلام الظهر التي نغصت الحياة على زوجته، كما قال ل«أخبار اليوم». جواب العشاب كان سريعا. قال له إن على الزوجة أن تصلي صلاة الاستخارة وتختار بين طريقتين للعلاج: إما الحجامة أو العلاج بواسطة وصفة خاصة من الأعشاب، قال إن ثمنها حوالي 150 درهما.
أما الحسين، وهو رجل في الخميسنات من عمره، فيقول إنه مصاب بمغص في المعدة وآلام في البطن، لم يفلح الأطباء في التقليل من أوجاعها. لكنه وجد ضالته في وصفة اقتناها من لدن هذا العشاب، يضيف الرجل الذي كان مرفوقا بصديق له يعاني من المرض نفسه، جاء أيضا ليجرب حظه مع وصفات الأعشاب بعدما لم تنفعه العقاقير الطبية، حسب تعبيره. صاحب المعشبة، واسمه عبد الهادي، كشف ل«أخبار اليوم» بأن غالبية زبائنه الذين يقصدون محله للتداوي بالأعشاب الطبية يعانون من الأمراض المرتبطة بالمعدة، خاصة منها «القولون» الذي يعد الداء الأكثر انتشارا عند الشباب والكهول وحتى كبار السن.
وعن طبيعة الأعشاب التي يستعملها لتحضير وصفاته، أكد أن معظمها محلي، لكنه لم ينف استخدام بعض النباتات المستقدمة من الصين والسعودية وبعض الدول الآسيوية والأوربية. وبالرغم من أن هذا العشاب لم يتخرج من كلية الطب، إلا أنه، كما يقول، يشترط على المريض إحضار تحليلات طبية للمرض الذي يعاني منه قصد وصف العلاج المناسب، الذي يتمثل في خليط من الأعشاب الطبيعية التي تحضّر بمقادير معينة، ويتناولها المريض بكميات محدودة، وفق توقيت زمني يراعي نوعية المرض وفعالية العلاج.
إكراهات «الطب البديل» اللافت، أنه بظهور هذه المعشبات «العصرية»، بدأ التداوي بالأعشاب يسترجع أهميته ومكانته الحقيقية، بعدما كان دور العطار التقليدي مختزلا في بيع الوصفات السحرية المكونة من جلود الضباع والذئاب والثعالب والأفاعي وأسنان الحيوانات المتوحشة، وغيرها من المواد الغريبة المطلوبة في عالم الشعوذة والدجل.
في مقابل ذلك، بدأت تظهر معشبات أنيقة بدل تلك الدكاكين «السوداء»، حيث تعرض على رفوفها علبا مختلفة الأنواع والأشكال وقنينات ذات أحجام وألوان مختلفة، بعضها مصنع محليا فيما البعض الآخر مستورد من الخارج. لكن ممتهني الطب البديل يؤكدون أن مهنتهم ما تزال تعاني من عدة إكراهات، أولها «العشوائية» الناتجة عن سوء التنظيم، وغياب المراقبة الذي فتح المجال للبعض للتطاول على هاته المهنة بدون علم، مما ساهم في الكثير من الحوادث التي خلفها سوء استخدام الأعشاب الطبيعية، خاصة من بعض «العشابة» الذين يتاجرون في الوصفات على عتبات المساجد بشكل عشوائي.