في الأدبيات الخاصة بالأممالمتحدة، مفهوم «تقرير المصير» لا يرتبط بحد جامع مانع هو الانفصال، كما يتوهم العدو الشرقي وعملاؤه بين ظهرانينا، بل إن الأدبيات السياسية للأمم المتحدة تتضمن حدودا لهذا المفهوم، منها تمتيع المنطقة بحكم ذاتي موسع، كما هو عليه الشأن في الجهويات الموسعة في الديمقراطيات الأوربية. غير أننا نرى ضرورة تقليب هذا المفهوم على غير ما اطمأن إليه «جنرالات الجزائر»، لتضمينه معنى لا يقل أهمية، ونقصد بذلك حق الشعوب في السيادة. وهنا، يصبح الشعب الجزائري معنيا مباشرة بمفهوم تقرير المصير، مادام مصيره مقيدا بيد أوليغارشيا عسكرية تحتكر البر والبحر، تماما كما تحتكر الذاكرة والحديث المنافق عن السير في درب شهداء الثورة، وهذا باختصار هو حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، ومن لم يقتنع بعد بأن مفهوم تقرير المصير يشمل الشعب الجزائري أولا، نلتمس منه أن يكون طلبه للحق من كتاب «النار في الجزائر.. مؤامرة الجنرالات» لصاحبه شهاب نصار/ مكتبة مدبولي/ الصادر سنة 2004، إنه غيض من مأساة شعب صدّق، لحين من الدهر، أنه سيد قراره في اختيار حكامه، ليدخله العسكر في دوامة من القتل والبشاعة في أسوأ صورها وحشية، خلفت مئات الآلاف من الضحايا، لكن طريقة النظام الجزائري في تدبير هذه المأساة مخجلة وموجبة للعجب.. تفرض علينا التساؤل أين هو حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، في ظل هذا المصير الدامي الذي يرهنه؟ إن تركيز ديبلوماسية النظام البومديني على الورقة الحقوقية، لإظهار رقة قلبه على أهالينا في الصحراء، هو لتشويه الواقع وقلبه عن الأوضاع الداخلية لشعب جزائري مقسم بين إرهاب العسكر في المدن وعسكر الإرهاب في الجبال، هكذا لا شغل لهذه الديبلوماسية إلا تحويل كراهية المغرب إلى اقتصاد سياسي، حيث تصرف أموالا طائلة تخص الشعب الجزائري الشقيق في تمويل الحملات الإعلامية المعادية للمغرب، من خلال الاستعانة بشركات ومكاتب للدعاية في كل بقاع العالم، كل هذا لمطاردة المغرب وتقديمه بصورة معاكسة للواقع وللتاريخ.. وكأن الأمر يتعلق فقط بأريحية اسمها «مغرب الشعوب»!! ففي الاحتفال الأخير بذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وقفت عرائس العسكر في تمثيلياتهم الديبلوماسية تظهر للعالم كيف أن الليل والخيل والبيداء تعرفها في الدفاع عن حقوق «الشعب الصحراوي»، وكأني بالجزائر الثكنة أضحت فردوسا لحقوق الإنسان، في حين أن الواقع يظهر فردوسا داميا، بتعبير الكاتب نوري الجراح في كتابه «الفردوس الدامي»..، والسؤال هو ماذا عن حقوق الشعب الجزائري في تقرير مصيره؟ متى يكف هذا النظام عن العبث بأكفان شهداء الجزائر، ويضمن حقه الدستوري في مؤسسة التداول على السلطة بعيدا عن يافطات الاستهلاك السريع؟ ما موقع الفصل 6 من الدستور الجزائري الذي ينص على أن «الشعب مصدر كل سلطة» وأن «السيادة الوطنية ملك للشعب وحده» في ظل الفساد الذي عم البر والبحر في الجزائر؟ فقد كان الأولى أن يترك النظام الجزائري شعبه يغتنم ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «لكشف المحرمات في المأساة الجزائرية، والتي حرصت السلطات على عدم الاقتراب منها، ألا وهي الآلية الداخلية لعمل الجيش الجزائري»، بتعبير الضابط الجزائري السابق حبيب سويدان في كتابه «الحرب القذرة»، ليكتشف هذا الشعب حقيقة أن البوليساريو مجرد ذراع للسكر، لكنها ذراع بترت أصابعها حقيقة التاريخ والواقع: المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها. أما عن فرية «حق الشعب الصحراوي» التي لا يتردد العسكر وعرائسهم في اقترافها، بمناسبة وبغير مناسبة أحايين كثيرة، فتتضمن مفارقات سنقف عندها ونزنها بميزان الفطرة السليمة التي فقدها هؤلاء منذ أبيهم بومدين الذي علمهم هلوسة كراهية المغرب. فمن المعروف أن العالم المتمدن يحتفل كل سنة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، غير أن المثير في المناسبة الأخيرة هو أنه في الوقت الذي شكلت فيه هذه اللحظة مناسبة لتقويم المنجز في المغرب وتشخيص غير المنجز للمصالحة مع ماضيه وتفكيك قلاع المقاومة في أجهزته، في حراك سياسي وحقوقي حقيقي يروم فيه الجميع تأسيس دولة تستمد مشروعيتها من مبادئ المواطنة والمؤسسات الديمقراطية بشكل لا رجعة فيه، فإننا نندهش من الطريقة التي اختار بها حكام الجزائر الانضمام إلى ركب العالم المتمدن، عندما لم ينتهزوا فرصة الذكرى إلا ليجددوا القطيعة مع هذا العالم، بسعيهم إلى تصدير أزمتهم الداخلية الخانقة والحؤول دون حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. ولأن المناسبة مناسبة متحضرين، فإنه من الطبيعي أن يعمل غير المتحضرين على توظيف الذكرى لتجديد العهد والبيعة مع عدم التحضر شهادة واستشهادا.. هكذا تجدد الأمم المتحضرة عهدها مع روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في إطار رهانها على العقل والكرامة، فيما لا تفوت الأمم غير المتحضرة أن تعاكس هذه الروح بما تفترضه هذه المعاكسة من ديماغوجيا. ومن الطبيعي أن تكون لدبلوماسية «المليون شهيد» خصوصية، يمليها هوس مرضي هو كراهية المغرب أولا و أخيرا.. ولأن هذا الهوس تاريخاني منذ الزمن البائد لبومدين إلى الزمن الرديء للعسكر وعرائسهم المدنية، فمن الطبيعي أن تختار هذه الدبلوماسية من ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مناسبة لتجديد العشق والوصال مع هذا الهوس، الذي اتخذ هذه المرة شكل حملات إعلامية مغرضة في الصحف الجزائرية وفي الصحف المأجورة في إسبانيا، هكذا نقلت جريدة «صوت الأحرار» الجزائرية نص المداخلة التي ألقاها سفير البومدينيين في مدريد المدعو «محمد حناش» في رحاب جامعة فالنسيا، والذي جاء فيه ما يزكي تحليلنا عندما صرح بأن بلاده «تتفهم بقاء أصابع الصحراويين على أزندة بنادقهم إذا لم تتوفر الإرادة السياسية للحكومة المغربية، فصبر الشعب الصحراوي بدأ ينفد»، أما جريدة «الشعب» فقد أوردت مقالا لمن أسمته ب»خبير في الشؤون المغربية» والذي انطلق فيه من جملة وردت في الخرجة الإعلامية الأخيرة لعبد اللطيف الفيلالي: «لا حل مع الجزائر إلا الحرب»، ليوجه هذا «الخبير فينا» نداء إلى الشعب الجزائري قال فيه: «يجب أن تتردد هذه العبارة في طول الجزائر وعرضها وعلى أفواه كل من له لسان، سواء أكان مسؤولا أم إعلاميا أم طالبا في ثانوية أم عاطلا يلعب الدومينو في مقهى الحي، لأنها تكشف حقيقة السلطة المغربية منذ أربعة عقود أو يزيد». ولأن التاريخ هو -على حد تعبير بول فاليري- ملاذ أيضا للمهووسين الباحثين عن اعتقادات أفيونية تنسيهم مرارة حاضرهم، فإن هذا المهووس «الخبير في كرهنا»، قام بمقارنة بين ما أسماه انتهاكات الجنود المغاربة في حرب الرمال وانتهاكات النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وبهذا الكلام يكون خبيرنا المفوه كمن (ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون)، صدق الله العظيم، وهذا أحسن رد على ما جادت به نفسه.. وإذا كان هذا غيض من فيض ما جادت به خسائس الأنفس من كتبة العسكر على صحف «إخوتنا»، فإن سياستهم لم تشذ عن هذا، وأنّى لها أن تفعل، فهذا البرلمان الجزائري مؤخرا لم يفته، والمناسبة طبعا هي تقويم وضعية حقوق الإنسان في الجزائر، أن يجدد تشبثه ب«حق الشعب الصحراوي»!! ولنا أن نتساءل أهي فلتة فقط أن يتلى بيان يهم ما قيل إنه دفاع عن حقوق «الشعب الصحراوي الشقيق» في جلسة للسلطة التشريعية تناقش وضعية حقوق الإنسان الجزائري؟ من الذي يخفي، حقيقة، نوايا توسعية؟ لذلك اختار نائب يدعى «بن موسى» عن الحزب الحاكم، حزب الملك بوتفليقة طبعا، أن يصيح نعيقا في قبائل مجلس النواب بإدانته «الحملات المغرضة للمغرب على الجزائر»، مؤكدا أن «الصحراء الغربية ستنال استقلالها لا محالة»، وأنه «مهما ناور المغرب فإن الشرعية الدولية ستتجسد»، لينال تصفيقا حارا من طرف باقي القبائل على هذا الفتح العظيم الذي جادت به «شجاعته»!! ولنا أن نقول لهم: فلتأكلوا لحمنا ولتشربوا دمنا غيبة ونميمة، فما أصبركم على التاريخ، فأما الشرعية الدولية التي تدعون بها وصلا، فنحن عشاقها الأوائل اليوم وبالأمس أيضا، عندما آمنا بحقكم في التحرر وحَمَلكم آباؤُنا وأجدادُنا على أكتافهم وأطعموكم طعامنا ونحن جياع.. لتحتلوا منابركم اليوم وتظهروا لنا كم أنتم ناكرون للجميل وجاحدون بالنعمة.. بنعيق أكل عليه الدهر وفعل اسمه «حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره»، فما أصبركم على التاريخ أيها المهووسون بكرهنا، بمناسبة وغير مناسبة.. فهل تنتظر الأنفس الخسيسة المناسبات لتحن إلى طبيعتها؟!! وحده درويش، رحمه الله، استطاع أن يتكلم من مساحة جرحه حين عبر وأتقن.. «كم من أخ لم تلده أمك انبثق من شظاياك الصغيرة.. وكم من عدو ولدته أمك، يحيل بين الظهيرة وبين دمك..». فقد كان الأجدر بعسكر الجزائر وعرائسهم من المدنيين أن يحرصوا على أن يكون الاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مناسبة لتشخيص الوضعية الكارثية لحقوق الإنسان في الجزائر، حيث الفساد والإفساد هما الصبغة السائدة في كل أجهزته، (أنظر كتاب «النار في الجزائر.. مؤامرة الجنرالات»/ شهاب نصار مرة أخرى)... وللموضوع صلة.