بعد يوم واحد من إبداء الحكومة موافقتها على اتفاقية قضائية مع فرنسا هدفها تعزيز التعاون بين السلطتين القضائيتين للبلدين، عين الملك محمد السادس عبد اللطيف الحموشي رئيس مديرية مراقبة التراب الوطني على رأس جهاز الأمن الوطني، الجهاز الأم الذي تندرج تحت إطاره كل المؤسسات الأمنية الوطنية. من الأزمة إلى الأوسمة إلى الترقية لقد جاء هذا التعيين، الذي اعتبره مراقبون بمثابة ترقية للحموشي، بعد نهاية الأزمة الدبلوماسية بين فرنسا والمغرب والتي كان مدير الأمن الوطني الجديد في قلبها. ففي فبراير 2014، زارت مجموعة من رجال الشرطة مقرّ إقامة السفير المغربي، لإبلاغه باستدعاء قضائي لعبد اللطيف الحموشي بناءً على ثلاث شكايات تتعلّق بالتعذيب، وذلك اعتمادًا على مبدأ الولاية القضائية الذي يتيح لقضاء الدول ملاحقة متورطين في التعذيب حتى وإن كانت جنسياتهم لا تنتمي لهذه الدول. كان هذا الحدث مقدمة لتوتر كبير عرفته العلاقات الفرنسية المغربية قبل انفراجها في الآونة الأخيرة. ومن سخرية القدر أن هذه الأزمة التي بدأت باستدعاء الحموشي انتهت بتوشيحه بوسام فرنسي من درجة فارس تكلف وزير الداخلية الفرنسي، برنارد كازنوف، نفسه بالإعلان عنه. لقد كان هذا التوشيح إقرارا من فرنسا بالدور الأمني الهام الذي يقوم به مدير الأمن الوطني الجديد في مجال مكافحة الإرهاب، خصوصا بعد أن اكتوت باريس بنار الإرهاب في أحداث «شارلي إيبدو» الشهيرة. وبعد التوشيح الفرنسي جاء التوشيح الإسباني الذي أقر بدوره بالجهود الأمنية المبذولة من طرف مدير «الديستي» في مواجهة الإرهاب. لقد بدا أن الرجل خرج من أسوأ أزمة مهنية عاشها بعد الاستدعاء الفرنسي ليدخل مسارا تصاعديا سينتهي به بعد الأوسمة ليتربع على عرش المؤسسات الأمنية الوطنية. مدير الأمن، مدير الدستي.. التطبيع إضافة إلى السياق الدبلوماسي والدولي، يبدو أن تعيين الحموشي على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني يأتي في سياق تحولات تعرفها المؤسسة الأمنية الوطنية. العنوان العريض لهذه التحولات هو التطبيع مع المجتمع ومع باقي المؤسسات الأخرى. ففي 20 مارس الماضي انتقل العمل المخابراتي الداخلي إلى حقبة جديدة بعد أن تم تدشين مقر مركزي علني لمديرية مراقبة التراب الوطني التي تفرع عنها كذلك المكتب المركزي للتحقيقات القضائية. كما أن جمع الحموشي بين إدارة الأمن الوطني، المؤسسة العلنية والتي تتعاطى بصفة يومية مع الانشغالات الأمنية البسيطة أو الأكثر خطورة للمواطنين، وبين إدارة مديرية مراقبة التراب الوطني، التي لطالما ارتبطت في الوعي الشعبي بالعمل السري وعدم الوضوح والقضايا الحساسة، يأتي بدوره في سياق هذا التطبيع الذي يبدو أنه يهدف إلى القطع مع رؤية استراتيجية أمنية تقليدية ومتجاوزة لطالما جنت على صورة المغرب وصورة أجهزته ومؤسساته. هذا التطبيع وتلك العلنية الذي بدأته الأجهزة الأمنية تعكسه، كذلك الخرجات الإعلامية لبعض المسؤولين الأمنيين ومن بينهم مدير المكتب المركزي للتحقيقات القضائية عبد الحق الخيام الذي ظهر في حوار تلفزيوني مع قناة العيون الجهوية يتحدث فيه عن إحداث المكتب وعن الأدوار التي يقوم بها، ولكن بالأساس عن أخطار الظاهرة الإرهابية. التوحيد بعد التطبيع في هذا الحوار التلفزيوني أقر عبد الحق الخيام في بداية حديثه بأن كثيرا من القضايا التي اشتغل على البحث فيها خلال رئاسته للفرقة الوطنية للشرطة القضائية كانت بناء على تقارير استخباراتية صادرة عن مديرية مراقبة التراب الوطني، مؤكدا أنها كانت تلعب دورا رائدا في حل عدة قضايا أمنية يواجهها رجال الشرطة. ويبدو أن الوزن الأمني لمديرية مراقبة التراب الوطني والذي تعاظم منذ أحداث 16 ماي الإرهابية دفع باتجاه رفع الحواجز والحدود بين مختلف الأجهزة الأمنية بعد أن أدركت السلطات أن نقطة الضعف الأساسية التي يمكن أن تستثمرها المشاريع الإرهابية تتعلق بنقطة التنسيق. هذا يعني أن توحيد المدير، الذي أصبح على رأس الجهازين، قد يكون الخطوة الأولى في طريق توحيد ودمج كل الأجهزة الأمنية في جهاز واحد يمتلك المعلومات ذاتها ويتداول القضايا نفسها، ولا يترك المجال لثغرات أمنية يمكن اختراقها خصوصا مع تصاعد الظاهرة الإرهابية مجددا وتنامي أخطارها في المنطقة ككل. إنها الخلاصة ذاتها التي وصلت إليها السلطات الفرنسية على سبيل المثال بعد اقتحام «شارلي إيبدو» وظهور الضعف الأمني على مستوى المعلومات والتنسيق بعد أن اكتشف المحققون أن المشاركين في عملية الاقتحام سبق أن خضعوا لمراقبة أمنية بسبب أنشطتهم وارتباطاتهم بالجماعات الإرهابية خارج فرنسا. تعيين عبد اللطيف الحموشي على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني يجعل منه رجل الأمن الأول إلى جانب مدير المخابرات الخارجية، فهل ينذر هذا التعيين بقرب هيكلة جديدة للأمن الوطني؟
الحموشي..رجل المخابرات الذي أحرق المسافات لم يكن قد أكمل الأربعين عندما تم تعيينه على رأس مديرية مراقبة التراب الوطني، المعروفة اختصارا ب»الدستي» سنة 2005. صموت وهادئ بقامته المتوسطة يبدو شابا طموحا أوصله طموحه أول أمس الجمعة ليرأس الإدارة العامة للأمن الوطني إلى جانب مسؤوليته المخابراتية. لقد تعود الرجل أن يرتقي الدرجات ويحرق المسافات بسرعة خارقة، كانت 12 سنة قضاها في جهاز «الديستي» كافية بالنسبة له ليصبح مديرا له بعد أن ولجه وهو في سن ال27 قادما من كلية ظهر المهراز بفاس وهو يحمل دبلوما للسلك الثالث في تخصص القانون. ربما كان من حسن حظه، أو سوء طالعه، أن السنوات التي ولج فيها الجهاز المخابراتي الداخلي كانت سنوات اضطرابات أمنية بامتياز. لقد تمرس من خلال العمل في عديد من الملفات والقضايا الأمنية بدءا بمتابعته لأحداث أطلس إسني بمراكش سنة 1994 وكان حينها في السنة الثانية من مساره المهني. لكن التحول الذي عرفه المغرب بعد صعود الملك محمد السادس إلى الحكم كانت فاتحة لمسار مهني لم يكن متوقعا بالنسبة لشاب من سنه، فبعد تعيين الجنرال حميدو العنيكري بدأت مرحلة التشبيب داخل جهاز «الديستي»، وكان الحموشي من المستفيدين منها، فبرز في قضايا مكافحة الإرهاب خصوصا بعد أحداث 16 ماي الإرهابية. ورغم نجاحات عديدة في تفكيك خلايا إرهابية إلا أن جهازه عرف هزات حقيقية بعد الضربات والأحداث الإرهابية التي فاجأت الدارالبيضاء في 2007 ثم أحداث مقهى أركانة بمراكش. قبل سنة احتلت صورة الحموشي مقدمة المشهد، وهو الذي اعتاد أن يعمل في الظل، عندما كان في قلب أزمة دبلوماسية بين المغرب وفرنسا بعد استدعائه من طرف عناصر من الأمن الفرنسي قدموا إلى السفارة المغربية بباريس بناء على شكاية بالتعذيب. لقد استماتت الدولة المغربية حينها في الدفاع عن رجل الأمن الأول وفضلت الدخول في أزمة دبلوماسية على أن تستجيب للاستدعاء المهين، ولم يكد ينتهي عام على جفاء العلاقات بين باريس والرباط حتى عادت الحكومة الفرنسية التي وقعت صك الاستدعاء لتوقع بيد الرئاسة على صك التوشيح ويتلقى الحموشي وساما فرنسيا ساميا على المجهودات الأمنية التي بذلها. كانت فرنسا حينها قد اكتوت بنار الإرهاب وذاقت مرارته في أحداث «شارلي إيبدو» وفهمت السلطات الفرنسية أن العمل الأمني الوقائي أفضل من العمل الأمني العلاجي. فخرج الرجل من خانة المبحوث عنه إلى خانة أصدقاء فرنسا.
ارميل..الرحلة الأمنية الطويلة دكالي من أبناء سيدي بنور. منذ تعيينه في فبراير 2012 مديرا عاما للأمن الوطني بدا أن الرجل دخل في مرحلة من الكمون والركود، فرغم موقعه الحساس إلا أن حضوره الأمني الطاغي في بدايات مشواره تراجع بشكل ملحوظ. ولد بوشعيب ارميل سنة 1949 وعلى غير عادة المعلمين والأساتذة غير ارميل مهنته من قطاع التعليم الذي بدأ فيه مساره المهني ليلتحق بسلك الأمن سنة 1981. تدرج الرجل لفترة طويلة في مختلف الرتب الأمنية وعمل في مدن وأقاليم شتى فقد بدأ مسؤولياته بالعمل عميدا مركزيا بمدينة المحمدية، قبل أن يعود مجددا إلى الحي المحمدي بالدارالبيضاء، الذي عمل فيه مدرسا، لكن هذه المرة ليشرف على قطاع الأمن بهذا الحي الذي سبقته شهرته. واصل بوشعيب ارميل مثله مثل أي أمني طموح الصعود في درجات الترقي الأمني، حيث انتقل بعد ذلك إلى فاس ليعين رئيسا للأمن الإقليمي ثم أعادته الأقدار مرة أخرى إلى الدارالبيضاء التي ارتبط بها ارتباطا مهنيا طويلا فعين واليا لأمن الدارالبيضاء. كانت الأعباء الأمنية في الدارالبيضاء أكثر من أن تطاق فنالت منه الغضبات الملكية بعد ارتكابه بعض الأخطاء ليتم تنقيله عقابيا إلى مدينة تاوريرت. وكما استفاد عبد اللطيف الحموشي من مجيء حميدو العنيكري إلى قطاع المخابرات، استفاد بوشعيب ارميل من رئاسة الجنرال لإدارة الأمن الوطني، فقد عمد إلى تعيينه مديرا للأمن العمومي ثم منسقا للمصالح المركزية بالإدارة العامة للأمن الوطني، وهو ما اعتبر بمثابة تحضير له لخلافة المدير العام، لكن سرعان ما سيتم إبعاده مجددا عن الإدارة المركزية بتعيينه واليا للأمن بمدينة العيون. لكن هذا التعيين اعتبر بمثابة ترقية وتشريف بالنظر إلى الحساسية الأمنية التي تحظى بها المدينة تجعلها في مسؤولية ذوي الثقة بالدرجة الأولى. حصل ارميل في شتنبر 2004 على دكتوراه الدولة من جامعة محمد بن عبد الله بفاس بأطروحة في موضوع «الجريمة المعلوماتية بالمغرب». إلا أنه ورغم تجربته الطويلة إلا أن حقبته عرفت ما اعتبر تمردا وأحداثا استثنائية في أوساط رجال الأمن تنوعت قضاياهم بين المنتحرين لأسباب مهنية أو أسرية، أو فاضحي قضايا الفساد وغيرها من قضايا الأمنيين التي شغلت الرأي العام.
مكاوي: تعيين الحموشي يأتي في سياق توحيد أنشطة الأجهزة الأمنية – ما هي قراءتك الأولية لقرار تعيين عبد اللطيف الحموشي على رأس إدارة الأمن الوطني؟ أولا إن الاستراتيجية الأمنية في المملكة أصبح لها مفهوم شامل. لأن الأمن الداخلي والجرائم الحديثة كالإرهاب وعلاقته بالجريمة المنظمة جعلت من الضروري توحيد جهود المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني مع مديرية الأمن الوطني. فالإرهاب كجريمة أصبحت له علاقات متنوعة وأذرع ممتدة نحو جرائم أخرى، كجرائم التهريب وتبييض الأموال والجرائم الاقتصادية والجرائم الإلكترونية مما يهدد حتى استقرار البلد، فالأمن العمومي أصبحت له علاقة بمكافحة الإرهاب. وقد رأينا كيف أن الكثير من الخلايا التي تم تفكيكها كانت لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع تجارة المخدرات أو مع التهريب أو تبييض الأموال، ورأينا كيف استعملت وسائل حديثة لتحقيق كل هذا. وبالتالي فقد أضحى توحيد الأجهزة ضروريا نظرا لتداخل هذه الجرائم، وكذلك للرفع من فعالية مكافحة هذه الجرائم التي أصبحت متداخلة ومتناغمة فيما بينها. – هل يعني هذا التعيين بالنسبة لك توحيدا لكل الأجهزة الأمنية؟ أخص هنا تلك الأجهزة التي أصبحت اختصاصاتها متداخلة فقد رأينا كيف أن المكتب المركزي للتحقيقات القضائية إضافة إلى مكافحته للإرهاب فقد أصبحت له اختصاصات في مكافحة الجريمة المنظمة، كالجريمة الإلكترونية والجرائم الاقتصادية ونهب المال العام وتبييض الأموال وتهريبها إلى غير ذلك. – كيف للمدير الجديد أن يجمع بين إدارة الأمن الوطني المنشغلة بالقضايا الأمنية العادية وإدارة مراقبة التراب الوطني؟ كما قلت سابقا إن الارتباط بين الجرائم المنظمة والإرهاب فرض إمكانية أن يكون لمديرية مراقبة التراب الوطني نظر ورأي في العديد من الملفات الأمنية بالنظر إلى تطور الجرائم التي ذكرتها سالفا، فكثيرا من ملفات الإرهاب وجدنا أنها تصب في القضايا العادية التي لها علاقة بالأمن الداخلي للوطن، فتجارة المخدرات أو تهريب الأموال أو تبييضها أو القرصنة الإلكترونية إلى غير ذلك، أصبحت لها كجرائم علاقة مباشرة مع جرائم الإرهاب. وبالتالي فإن التداخل بين الشرطة القضائية والشرطة العلمية مع المكتب المركزي للتحقيقات القضائية أصبح واضحا. وبالمناسبة فإن هذا التوحيد والدمج ليس سبقا مغربيا فقد رأينا كيف أن فرنسا تطرح قانونا جديدا للاستخبارات لتوحيد عدد من الأجهزة الأمنية ويخلق ما بينها حالة من التناسق والتناغم لمكافحة الجريمة المنظمة ومن بينها جرائم الإرهاب. – هل يعني هذا أن جهاز المخابرات سيصبح هو الجهاز الأمني الأم ويظل جهاز الأمن مجرد فرع منه بعد أن كان العكس هو الأصل؟ لم يكن جهاز المخابرات أو ما كان يصطلح عليه ب»الديستي» عبر التاريخ تابعا لمديرية مراقبة التراب الوطني، فقد كان دائما جهازا مستقلا منذ نشأته إلى يومنا هذا. ومديرية الأمن الوطني تتوفر على قطاع الاستعلامات العامة أو ما يعرف باستعلامات القرب التي لها أذرع عديدة لجمع المعلومات حسب تقنياتها المعتادة نظرا لقربها من المواطنين. أما مديرية مراقبة التراب الوطني فقد أصبحت تتوفر على صفة الضبطية القضائية، ولكن يبقى لكل جهاز اختصاصاته رغم وجود التداخل الذي تحدثنا عنه بل هناك تكامل. وأظن أننا في المغرب أخذنا الكثير في هذا السياق من التجربة الفرنسية، فالقانون الذي تحدثت عنه سلفا يوجه ويؤكد على ضرورة توحيد جهود الأجهزة الأمنية والرفع من مستوى التنسيق فيما بينها.