قطعت وزارة الداخلية الشك باليقين. واليقين هو أنه يحق لأي أحد في المغرب أن يشغل رئاسة الجهة دون أن يتوفر على أي شهادة دراسية، بعد أن كثر اللغط حول تحديد شروط صارمة في وجه من يريد رئاسة الجهات. قرار وزارة الداخلية وجدت له سندا داخل الدستور المغربي، الذي ينص حسبها على أن المغاربة متساوون في الحقوق وفي الواجبات أيضا، يعني أن وزارة الداخلية لجأت إلى سلطة التأويل من أجل تسويغ قرار مصيري يتعلق برؤساء الجهات، خاصة بعد إقرار مشروع التقطيع الترابي الجديد الذي يخول صلاحيات جديدة لمؤسسة الجهة. في كل مرة تتسرب إشاعات حول عزم وزارة الداخلية وضع «سقف» علمي أمام الراغبين في الترشح إلى البرلمان أو للانتخابات الجماعية، لكن لا شيء من ذلك حدث. تشتغل سلطة التأويل دائما بمنطق أن المجالس الجماعية والبرلمان المغربي بغرفتيه جزء من المجتمع المغربي ولا يمكن القفز على حقيقة أن هناك نسبة كبيرة من الأميين. قد يبدو التفسير بسيطا جدا، بل ومتهافتا ويمكن إسقاطه بسهولة، بيد أنه في العمق يكشف إلى أي مدى أن الجهة الأولى المشرفة على الانتخابات ليست قادرة، إلى حدود اللحظة على الأقل، على أن تتخلى عن «قوة» الأعيان. وزارة الداخلية، ومهما كانت الظروف، ومهما كانت دعوات الذين يدافعون عن القدر الكافي من «الشفافية الانتخابية»، لا يمكن أن تلغي فئة عريضة، متعاضدة ومتماسكة وتعرف جيدا أين تكمن مصالحها ومن يهددها أيضا. الدولة في الأخير تتعامل بمنطق الربح والخسارة، لاسيما أن همها الأول يتمثل في ضمان أكبر نسبة من المشاركة الانتخابية لتثبت للجميع أن المغربي بات متصالحا مع السياسة. وعلى هذا الأساس، تعرف جيدا أن الأعيان، رغم أن معطيات الحقل السياسي المغربي تغيرت كثيرا خلال العقدين الأخيرين، يشكلون رقما صعبا في الاستحقاقات الانتخابية، بل وبينت النتائج أنهم غالبا ما يحصدون أكبر نسبة من الأصوات دون عناء كبير. ما الذي يمكن أن تجنيه وزارة الداخلية إذا فكرت فعلا في أن تضع شروطا «علمية» في وجه من يبتغي الدخول في الاستحقاقات الانتخابية؟. في الظروف الحالية، قد تجني شيئا واحدا: إقصاء فئة الأعيان من الحقل السياسي أي أن تحديد هذا الشرط فقط سيغير الخريطة الانتخابية بشكل كامل. الداخلية، وهي المشرف الأول على الإعداد للانتخابات، لا تستطيع أن تغامر بتغيير خريطة تعرف تفاصيلها الدقيقة جدا، لأنها اكتسبت خبرة طويلة في الترتيب لها. نريد أن نقول إن «الشهادة» الدراسية تشبه كثيرا التقطيع الانتخابي. الأعيان يشكلون حصة الأسد من الكتلة البرلمانية للأحزاب التي تنعت بأنها إدارية، ولتي تشكلت منذ عقود، واستطاعت أن تبصم المشهد السياسي المغربي وأن تتحكم فيه. في البداية كانوا مسنودين بالدولة ثم ما فتئت هذه الفئة تتقوى وتكتسب قوة في صناديق الاقتراع. ما أسميناه بالسقف الدراسي قد يفضي إلى شيئين اثنين: أن تنهي بشكل نهائي تحكم الأعيان في الخريطة السياسية وأن تغير بنية الأحزاب الإدارية في جوهرها. وهما خياران ليسا في صالح الدولة. الخيار الأول يعني أن الدولة ستفسح المجال أمام شرائح جديدة لخوض الانتخابات، وهي الشرائح التي لا ترتبط بمصالح متبادلة ولا يمكن أن تلعب ذات الدور المخول للأعيان. المصالح مقابل الدخول في غمار الانتخابات. إنه منطق قائم منذ عقود، وله شرعيته وفاعليته أيضا. الخيار الثاني يرتبط بالأساس بقدرة الدولة على التعامل مع أحزاب سياسية جديدة لا يتحكم فيها الأعيان ولا تتحول فيها المناصب إلى ريع انتخابي وبالتالي إنهاء ما يسميه المفكر المغربي عبد الله حمودي سلطة «الزاوية السياسية». إنه تغيير عميق لن يغير فقط بنية الأحزاب بل سيؤسس علاقة جديدة بين الدولة والأحزاب ليست مبنية على الخضوع بل على التنافس. تحديد شرط الشهادة الدراسية قرار سياسي كبير جدا رغم أنه يبدو بسيطا، والكثير ممن ناقشوا الموضوع لم ينتبهوا أن الدولة في الأخير تتعاطى معه بمنطق الربح والخسارة وتتعاطى معه كموضوع حاسم جدا، لذلك كان محمد حصاد، وزير الداخلية، صارما جدا في الموضوع، وتجاوز انتقادات حادة وجهتها جهات مختلفة. واضح إذن، أن وزارة الداخلية لا تريد أن تقامر بخلق مشهد سياسي جديد، تنتهي فيه سلطة الأعيان وواضح أيضا أن كل ما قيل عن تراجع نفوذهم مجرد كلام للاستهلاك السياسي، فمعركة الشهادة الدراسية، كانت بالفعل معركتهم الأكثر قوة في التاريخ السياسي المغربي الحديث. يلزم الآن الكثير من الانتظار لتفهم الدولة ومعها الأحزاب السياسية أن تغيير هذا الحقل المعطوب.. يتطلب شهادة على الأقل.
صقور العمل الجماعي نجحوا في سحب شرط التعليم عبر لوبيات الضغط جناتي: رؤساء الجماعات أحدثوا جمعية بأهداف سياسية للضغط على الجهاز التنفيذي مصطفى الحجري نجحت وزارة الداخلية في تمرير مشروع القانون التنظيمي للجهات خاليا من أي شرط يتعلق بالمستوى التعليمي للمرشحين للرئاسة، وهو ما سيفتح الباب مشرعا للأعيان وذوي النفوذ ممن لم تطأ أقدامهم أبواب المؤسسات التعليمية. ورغم التبريرات التي ساقتها وزارة الداخلية من كون إقرار هذا الشرط «يتعارض مع الدستور ومع حرية الترشح والمساواة بين المواطنين»، فإن ما حدث كشف بشكل واضح أن الحسم في عدد من التعديلات تم في الكواليس، وخارج لجنة الداخلية، وكانت مؤشراته ظاهرة، بفعل الضغوط والرسائل الواضحة والمشفرة التي مورست، سواء من طرف بعض الأحزاب، أو من طرف لوبي مشكل من رؤساء الجماعات، في إطار جمعية أحدثت لكسر احتكار مناقشة هذه القوانين بين الحكومة والأغلبية والمعارضة. فقد استبق عدد من صقور العمل الجماعي بالمغرب مناقشة هذه القوانين بتشكيل جمعية رؤساء مجالس الجماعات، التي كانت بمثابة لوبي ضغط بقوة من أجل إحداث تعديلات وحذف بنود رأى أنها ستقطع الطريق على عدد من الممارسات التي تحولت إلى عرف في التسيير الجماعي. هذه الجمعية التي طالبت وقتا قصيرا بعد إحداثها بفتح ملف فساد العمال والولاة، وهددت بشكل صريح وزارة الداخلية بخوض معركة قوية، وعدم السكوت عما وصفته بالتراجعات الخطيرة، بعد الكشف عن مسودة مشروع القانون المتعلق بالجماعات، تحولت شهورا بعد ذلك حسب تصريحات الشرقي الضريس إلى شريك أساسي لوزارة الداخلية، التي لم تتردد في توقيع اتفاقية دعم سخي بقيمة 15 مليون درهم موزعة على ثلاث سنوات. هذا التغيير السريع في الخطاب والعلاقة بين الطرفين استبقته تصريحات قوية صدرت عن هذه الهيئة التي يرى فيها عدد من المتتبعين على أنها إطار أحدث للضغط والحصول على أكبر عدد من المكاسب خلال عملية تنزيل القوانين التنظيمية، وهي ما تعكسه فقرات من الرسالة التي وجهت باسمها لوزارة الداخلية والتي طالبت فيها ب«الاستجابة لمطالب وحاجيات المجالس الجماعية القروية والحضرية، حتى لا تخلف موعدها مع التاريخ فيما يخص إصلاح الأوضاع والاختلالات الحالية». محمد جناتي، أستاذ العلوم القانونية والإدارية والسياسية، قال إن هذه الجمعية لها نفوذ قوي لم تتردد في ممارسته رغم أن وجودها يتعارض مع القوانين المنظمة للجمعيات بصفة عامة، بحكم الأدوار المكشوفة التي أصبحت تقوم بها. وأضاف جناتي، في تصريحاته ل»المساء» بأن الجمعيات يتعين أن لا تكون لها أهداف سياسية، لكن الواقع يثبت بأن جمعية رؤساء الجماعات تحولت إلى ما يشبه نقابة للدفاع عن رؤساء الجماعات في وجه ممثلي الدولة والجهاز التنفيذي، وتبحث فقط عن مصالحها الضيقة. وربط جناتي تناقض الخطاب الموظف من قبل الجمعية بهاجسها الأساسي المتمثل في خدمة أجندة ضيقة للوبيات، وهو ما يجعلها تفرط في الإطناب والمدح لوزارة الداخلية حين تتلاقى المصالح، قبل أن تعوض ذلك بلغة أخرى حين تتعارض المصالح، علما أن تعارض وتلاقي المصالح هو ما يفسر الدعم المالي الذي قدمته الوزارة للجمعية. والغريب أن بعض الانتقادات شديدة اللهجة الموجهة إلى وزارة الداخلية صدرت عن وزراء من خلال الجمعية، ومن بينهم محمد مبديع ما فسر على انه تحالف غير معلن بين أحزاب من الأغلبية والمعارضة، بعد أن دعا مبديع إلى التعبئة وإلى جبهة موحدة من أجل الانخراط فيما وصفها ب«المعركة القوية»، بعد الكشف عن مسودة المشروع، فيما ذهب عمدة مدينة طنجة عن حزب الأصالة والمعاصرة، أبعد من ذلك وهو يتهم واضعي المسودة بالقفز على الدستور، ليضيف في رسالة تحد واضحة خلال أشغال المجلس الإداري للجمعية بأنه «لا أحد سيفرض علينا قانونا»، لا يوازي ما سماه بالتطورات الحاصلة في المغرب. هذه المواقف تفسر في جزء منها أسباب تصويت حزب العدالة والتنمية على صيغة المشروع رغم التحفظات والرفض المعلن من طرف عدد من برلمانييه بخصوص إلغاء شرط المستوى التعليمي، إلا أن هذا لم يمنع الحزب من التصويت بالموافقة مع الأغلبية بعد المشاورات التي تمت خلال اجتماع اللجنة، وهو الأمر الذي ربطته مصادر مطلعة بعدم رغبة حزب المصباح في إغضاب حليفين أساسيين له يعتمدان بشكل كبير على الأعيان، ممثلين في التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية. وطرح جناتي علامات استفهام حول أسباب عدم دفاع الجمعية عن مبدأ المناصفة الذي اختفى من أجندتها، وهو الأمر الذي أرجعه جناتي لتعارضه مع مصالح من تخندقوا فيها، وقال إن الأخيرة صمتت عن هذا المبدأ رغم أنه مبدأ دستوري، في الوقت الذي كشرت عن أنيابها من أجل إسقاط شرط المستوى التعليمي بدعوى تعارضه مع الدستور ما يفضح الخلفيات والأهداف السياسية التي تتحكم في تحركاتها. وتساءل جناتي عن الطريقة التي سيتعامل بها رئيس أمي مع أطر الدولة التي تشترط مستوى معرفيا وعلميا عاليا لتولي مناصب المسؤولية، وكيف سيمكن له أن يكون مفاوضا شرسا للدفاع عن مصالح المنطقة التي يمثلها، علما أن رؤساء المجالس يقاسمون الدولة مجموعة من الاختصاصات بموجب القانون. وكان عدد من المتتبعين قد اعتبروا أن حذف شرط المستوى التعليمي سيكون بمثابة نكسة، بالنظر للتحديات وللرهانات المرتبطة بتفعيل الجهوية، علما أن القانون السابق كان يشترط شهادة التعليم الابتدائي كحد أدنى قبل أن يتم إلغاء شرط التعليم بشكل نهائي.
إسماعيلي: تنصيب أشخاص محدودي التعليم تكريس لأسلوب ريعي يخدم جهات معينة قال إن الأحزاب تلقى عليها مسؤولية كبرى في منح المواطنين «بروفيلات» لمن يمثلهم حاورته حليمة بوتمارت يرى ندير إسماعيلي، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة المولى إسماعيل بمكناس، أن فرض شرط مستوى تعليمي معين سيعمل على الحد من خلق الفرص أمام الصفقات السياسية المنبوذة، التي قد تعيد رموزا أساءت إلى الانتقال الديمقراطي بتواطؤ خفي أو معلن مع المتمدرسين أو غير المتمدرسين. وأضاف إسماعيلي أن عدم التنصيص على هذا الشرط في شغل منصب رئيس الجماعة سيشكل انتصارا لقوى التغيير في مواجهة القوى المحافظة، مشيرا إلى أن قوى التغيير التي تسعى إلى خلق شروط استقلالية مؤسسات عصرية وقوى محافظة تعمل على تنصيب أشخاص محدودي التعلم قصد تكريس أسلوب ريعي يخدم جهات وفئات ويلحق أضرارا بالوطن وبمستقبل الديمقراطية. – في حالة عدم احترام شروط المستوى الدراسي، هل سنكون أمام رؤساء أميين لا يتجاوز مستواهم الدراسي الخامسة ابتدائي؟ مسألة الديمقراطية التمثيلية وشروط ممارستها، خصوصا فيما يتعلق بإسناد المسؤولية لأولئك الذين هم على قدر غير كاف من التعلم؛ مثل الذين لا يتجاوز مستواهم الدراسي الخامسة ابتدائي، تضعنا أمام سؤال استحقاق من لا يتمتعون بما يكفي من الأدوات اللازمة لمباشرة مهام الريادة والتدبير على رأس الجماعات. بكل تأكيد، عدم احترام هذه الشروط يجعلنا أمام رؤساء أميين أو أميين بالقياس إلى معايير المعرفة والمهارة في العصر الحالي. فصميم الديمقراطية يقوم على تقوية القدرات لدى المؤسسات لتمكينها من مباشرة مهام التنمية المرجوة بنخب على قدر معقول من الكفاءة والمهارة لرفع تحدي الجهوية والحكامة الجيدة لأن مفهوم الديمقراطية يساوي صناعة مؤسسات ذات كفاءات تدبيرية وريادية عالية. فمنح رئاسة الجماعات لنصف المتمدرسين أو غير المتمدرسين يجعلنا نواجه روادا لا يتمتعون بالمهارات اللازمة لتحصيل المعرفة أو الولوج إليها أو حتى استثمارها في صناعة القرار وقيادة الجماعة. هذا الوضع سيضر قطعا بالعملية الديمقراطية ذاتها، ويؤدي إلى حجز الانتقال الديمقراطي المنشود. كما أن عدم اشتراط المستوى الدراسي اللائق لمزاولة مهام رئاسة الجماعات يضعنا أمام مفارقات مقلقة لمجتمع مغربي يعرف نسبة عالية من المتمدرسين والكفاءات ويفرض على مؤسساته التمثيلية أن تعكس هاته التحولات ويلزم التشريع التأسيس لذلك باستثمار الثروات اللامادية التي تزخر بها بلادنا. – هل تقييد الترشح بشرط المستوى الدراسي يخالف القوانين الدستورية على اعتبار أن عملية الترشح حق دستوري مكفول؟ رزمانة الحقوق المدنية والسياسية والدستورية، التي تشكل الأرضية الأساسية لنظامنا القانوني والتشريعي، إلى جانب العديد من النصوص، لا يمكن بحال من الأحوال أن تتنافى ومبادئ الديمقراطية التمثيلية التشاركية أو تتعارض مع حق الانتخاب والترشح لمن تتوفر فيهم الشروط اللازمة لذلك. فمن الناحية المبدئية هناك ثبوت ورسوخ لهذا الركن الدستوري، وهو حق التمثيل والمشاركة في التدبير، إلا أن هناك شروطا لممارسة هذا الحق تضع ضوابط وقواعد لكي تضمن بشكل رئيسي ممارسة حقوق أساسية أخرى ترتبط جوهريا بتحقيق أهداف الديمقراطية ووظائفها في التنمية والابتكار والرفع من جودة الحياة. فمهام التدبير لا يمكن أن توكل إلا إلى نخب قادرة على تحقيق الأهداف، وتتمتع بالكفاءة اللازمة للتسيير الديمقراطي المطلوب. كما يمكن التأكيد على أن تقويم المسار الديمقراطي والحقوق الدستورية المرتبطة به، ومن ضمنها الحق في الترشح، لا يتم إلا بتحصيل النظام الانتخابي من كل مخاطر الانحراف في استعمال هذا الحق وتفادي كل إمكانيات الإفساد الانتخابي الذي قد يلحق سوءا كبيرا بمسلسل الانتقال الديمقراطي ككل. – هل يمكن القول إن فرض هذا الشرط سيكون ضربة قوية لبعض الوجوه الحزبية التي اعتادت شراء المناصب؟ بدون شك، فرض هذا الشرط سيعمل على الحد من خلق الفرص أمام الصفقات السياسية المنبوذة، التي قد تعيد رموزا أساءت إلى الانتقال الديمقراطي، بتواطؤ خفي أو معلن مع المتمدرسين أو غير المتمدرسين. فعدم التنصيص على شرط المستوى الدراسي في شغل منصب رئيس الجماعة سوف يشكل انتصارا لقوى التغيير في مواجهة القوى المحافظة، فقوى التغيير التي تسعى إلى خلق شروط استقلالية مؤسسات عصرية وقوى محافظة تعمل على تنصيب أشخاص محدودي التعلم قصد تكريس أسلوب ريعي يخدم جهات وفئات، ويلحق أضرارا بالوطن، بل بمستقبل الديمقراطية. فالتنصيص على شرط المستوى الدراسي لرؤساء الجماعات لا يشكل ضربة قوية لبعض الوجوه فقط، بل هو دعامة أساسية لتوفير شروط حكامة حقيقية لمؤسسات منتخبة. – هل تعتقد أن عدم تنصيص وزارة الداخلية على شرط المستوى الدراسي خضع لضغط لوبيات رؤساء الجماعات؟ لاشك أن صراع القوى والمجموعات الضاغطة ومدى تفوق طرف على آخر وحساب تقدير المصالح هو المتحكم في تدبير هاته اللعبة وحسمها في تبني أو عدم تنبي شرط المستوى الدراسي لشغل منصب رئيس الجماعة. ففي حال استجابة وزارة الداخلية للوبي انتفاء شرط المستوى الدراسي سيكون ذلك مؤشرا على حضور القوى المحافظة، وإشارة إلى ضرورة الاجتهاد أكثر من طرف كل الفرقاء لمنح الممارسة الانتخابية بعدا آخر، وإن نص القانون على عدم اشتراط المستوى الدراسي لمنصب رئيس الجماعة. يمكن القول إن المؤشر الحقيقي لخلق مؤسسات ديمقراطية صانعة لحكامة جيدة في إجراء التغيير الديمقراطي الكامل ليس رهين لوبي رؤساء الجماعات، بل هو مسؤولية الجميع لترسيخ ديمقراطية الاستحقاق لمواطنين أحرار في إرادتهم يمتلكون وسائل التنصيب والإعفاء والمتابعة لإنجاح المشروع الجهوي. – عدم اشتراط المستوى الدراسي يطرح مسؤولية الأحزاب في تقديم مرشحين ينسجمون مع المنظور الذي حصل بعد إقرار دستور 2011. دستور 2011 هو عبارة عن وثيقة للحقوق والالتزامات من أجل ملكية ديمقراطية برلمانية ومواطنة، وقد شكل إطارا عاما للمبادئ والأهداف، كما رسم المهام والوظائف لجميع المتدخلين، وعلى وجه الخصوص النشطاء المدنيين والسياسيين، حيث حدد أدوارهم في مسلسل البناء الديمقراطي لتوطيد نظام الملكية البرلمانية وتثبيت نظام التدبير الجهوي، وكما سبق أن أشرت، فحتى في فرضية انتصار لوبي رؤساء الجماعات الأقل تمدرسا في عدم التنصيص على شرط المستوى الدراسي، فالأحزاب السياسية تبقى مسؤولة بكل المقاييس عن تقديم مرشحين ذوي مواصفات أخلاقية ومهاراتية لتسيير الجماعات، انسجاما مع مقتضيات الدستور، ولكون هاته الأحزاب الشخصية الرئيسية في العملية الانتخابية والسياسية، حيث تضطلع بمهام التأطير والتكوين والتربية السياسية والمدنية. فالأجهزة المنتخبة شريك أساسي في تدبير السياسات العمومية وصناعة القرار وتفرض أطرا مناسبة تقترحها الأحزاب. هاته الأحزاب السياسية تطبع العملية الانتخابية، بل العملية السياسية برمتها، للرفع من مستوى الأداء الديمقراطي. – هل تعتقد أن الأحزاب قادرة على رفع هذا التحدي؟ انسجاما مع ما سبق، فالأحزاب السياسية تملك شبه احتكار للمسلسل الانتخابي، إلى جانب بعض النقابات الأكثر تمثيلية، في انتظار توسيع إمكانية المجتمع المدني بمختلف أطيافه ومكوناته للمشاركة في العملية التشريعية ومراقبة العمل الحكومي وأداء المؤسسات المنتخبة محليا وجهويا. الأحزاب، إذن، تساهم بشكل أو بآخر في صناعة المناخ السياسي والانتخابي وتحديد قواعد مساطر اللعبة السياسية. وبهذا المعنى، تلعب دورا استراتيجيا في اقتراح ممثلي الأمة، محليا ووطنيا، وأصحاب القرار داخل المؤسسات المنتخبة. فعليها، إذن، تلقى المسؤولية الكبرى في منح المواطنين بروفيلات لمن يمثلهم ويرأس جماعاتهم، محلية كانت أم جهوية. إن شرط المستوى الدراسي قد يعبر عن المشروع السياسي لهذه الأحزاب، ويكشف مدى انخراطها في التغيير المنشود. كما أن مصداقية الأحزاب ومشروعيتها على محك معالجة منعطفات الانتقال الديمقراطي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العصري المنفتح القادر على مواجهة أسئلة العولمة في الديمقراطية والتنمية والاستقرار. فالأحزاب السياسية المغربية هي المؤهلة لمنحنا المؤسسات المنتخبة التي نطمح إليها والنخب المدبرة لها والمتنورة المستجيبة لروح دستور 2011 قصد بلوغ محطات الجهوية بأطر تصنع نظاما انتخابيا وسياسيا يتمتع بقدر كبير من الاستقرار والمناعة والازدهار.
بلقاضي: الأميون يحصدون أكبر عدد من الأصوات والأحزاب تتحمل المسؤولية المهدي السجاري التسيير الجيد للشأن الجماعي يستلزم توفر موارد مالية كافية بالموازاة مع التدبير المعقلن. بيد أن قدرة النخب على رسم سياسات محلية قادرة على تحقيق التنمية وتنويع المداخيل وحسن استغلال الاختصاصات الموكولة للمنتخبين ترتبط ارتباطا وثيقا بتجربتهم السياسية ومستواهم الثقافي. واقع التسيير المحلي في المغرب يشير إلى وجود اختلالات كبيرة في قدرة المنتخبين على تحمل مسؤوليتهم. فالتقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات تكشف عن اختلالات واسعة تطال مختلف أوجه التدبير، والتي لا ترتبط في جميع الحالات بنوايا سيئة للمنتخبين، بل قد يكون بعضها ناتجا عن ضعف التكوين والإلمام بالنصوص القانونية. هذه المعطيات ترتبط بواقع يتمثل في كون عدد مهم من المنتخبين ليسوا على اضطلاع بمقتضيات الميثاق الجماعي والاختصاصات المهمة التي لا يتم تفعيلها، وأيضا حدود العلاقة مع سلطة الوصاية. إلى جانب عدم إلمام فئة مهمة من المنتخبين تعنى بمجال التدبير المالي للجماعات، حتى وإن كانت هذه النخبة مثقفة ولها مستوى دراسي معين. وضع يورط المسؤولين الجماعيين في منح رخص بناء خارج القانون لجهلهم بمقتضيات نصوص التعمير، ويفوتون على الجماعات مداخيل بالملايير لعدم إلمامهم بالاختصاصات الموكولة إليهم في هذا المجال، ومنها القرارات الجبائية، إلى جانب الضعف الحاصل في مجال الصفقات، وهو ما يجعل المنتخبين في بعض الأحيان «ضحايا» عمليات احتيال، في الوقت الذي تتم إثارة مسؤولية الرئيس والمنتخبين في الاختلالات التي يتم رصدها. ويرى ميلود بلقاضي، أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في الرباط، أن المستوى الثقافي في علاقته بتدبير الشأن المحلي أو الجهوي يطرح إشكالية حقيقية منذ سنوات، بالنظر إلى أن فشل السياسات العمومية على المستوى المحلي مرتبط بالنخب التدبيريةّ، حيث يشمل المستوى الثقافي آليات تدبير الشأن العام من لغة ومنهج ومعرفة بالاقتصاد والسياسة وعلوم التدبير، لكن هذه المعطيات تكاد تكون غائبة عند نسبة هامة من رؤساء الجماعات وأعضائها. واعتبر بلقاضي أن «القارئ لتقرير المجلس الأعلى للحسابات الأخير وباقي التقارير يدرك هذا المعطى، إذ هناك رؤساء وأعضاء جماعات متابعون أمام القضاء لارتكابهم أخطاء غير مقصودة، والتي ارتكبت لأسباب مرتبطة بالمستوى الثقافي أو بالجهل أو لكونهم تعرضوا للتحايل». وأوضح الخبير السياسي أنه «بالموازاة مع مناقشة مشاريع قوانين الجماعات الترابية والجهوية ومجالس العمالات والأقاليم، فالمستوى الثقافي يطرح إشكالا حقيقيا، إذ تكشف النقاشات الجارية حاليا عن وجود مقاربتين إحداها تدعو إلى فرض مستوى الابتدائي بالنسبة للجماعات أقل من 35 ألف نسمة، والمستوى الإعدادي بالنسبة للجماعات ذات النظام اللائحي والباك بالنسبة للمقاطعات والإجازة لرؤساء الجهات». لكن هذا الطرح، حسب بلقاضي، «غير سليم ويثير إشكالا دستوريا، على اعتبار أن الدستور المغربي يتحدث عن حق الترشح ولا يحدد شروطه. وبالتالي ففي حال التصويت على المستوى الثقافي، سيتم إلغاؤه من طرف المجلس الدستوري، لأنه يناقض القانون الأسمى للبلاد». وقال في هذا السياق: «إذا كانت الأحزاب السياسية لها رغبة حقيقية في ترشيح رؤساء الجماعات أو أعضاء للانتخابات بمستوى دراسي معين، فيجب أن يكون ذلك من خلال ميثاق شرف. أي أن تتفق الأحزاب السياسية على ميثاق من بين مواده أنه لا يمكن التقدم بمرشحين بدون مستوى دراسي». بيد أن هذا المعطى سيطرح مشكلا من نوع آخر وفق التحليل ذاته. فالسلوك الانتخابي يشير إلى أن الأميين في المغرب يحصدون أكبر عدد من الأصوات، وبالتالي فقطع الطريق على الأميين والأعيان، سيجعل نسبة التصويت كارثية. ويضيف: «المشكل المطروح اليوم هو أن نحافظ على نسبة مشاركة محترمة، مع التقدم بمرشحين لهم مستوى دراسي وسياسي أيضا». واستطرد أستاذ العلوم السياسية موضحا أنه «قد يكون هناك مرشحون لديهم مستوى ثقافي بدون مستوى سياسي، في حين يوجد منتخبون أميون لكن لديهم تجارب تدبيرية ويتوفرون على ثقافة عرفية من خلال عصاميتهم وخبرتهم في التسيير المحلي». وحمل بلقاضي الأحزاب السياسية مسؤولية أكبر من الدولة، بالنظر إلى أنه لا يتم التفكير في التكوين، في حين أن الأحزاب في عدد من الدول التي ترصد ميزانيات للحملات السياسية، فإنه تخصص نسبة منها لتكوين المناضلين والمسؤولين الحزبيين، على اعتبار أن المعرفة تشهد تطورا سريعا بعدما أحدثت العولمة رجة في المعرفة التقليدية. وأكد على أن «الدولة والأحزاب عليها أن تخصص ميزانية لتكوين المسؤولين الذين يتحملون مسؤولية التدبير المحلي، لكي يصبح هذا المسؤول السياسي يتوفر على خلفية دستورية وقانونية وسياسية، خاصة أن مشاريع القوانين التنظيمية التي تتم مناقشتها اليوم تمنح لرؤساء الجماعات والمقاطعات والجهات والمجالس صلاحيات كبرى». وأضاف قائلا: «حان الوقت لكي ترشح الأحزاب السياسية نخبا مؤهلة، تتوفر على ممارسة سياسية وخلفية قانونية، إذ يمكن للأحزاب السياسية أن تجد مثقفين ببروفايلات تكنوقراطية تقنية، في حين أن تدبير الشأن العام يهم تدبير السياسات العمومية، مما يفرض على المنتخب أن يتوفر على ثقافة تقنية وأيضا خلفية سياسية لأن مؤسسة الرئيس هي منصب سياسي أكثر ما هو تقني». اليوم يناقش البرلمان المغربي مشاريع قوانين مهمة ينتظر أن توسع صلاحيات المنتخبين وتنقل اختصاصات من المركز نحو الجهات. بيد أن واقع التدبير المحلي، وما يتم رصده من اختلالات، يطرح السؤال حول ما إذا كانت النخب المحلية في مستوى هذه الاختصاصات الواسعة، في ظل نقاش يروم فتح باب تقلد مناصب الرئاسة في المجالس المنتخبة أمام الجميع دون أي تقييد بشرط المستوى الدراسي.
البقالي: تبرير وزير الداخلية هروب وعلى الحكومة تحمل مسؤوليتها خديجة عليموسى تباينت بشكل كبير مواقف الفرق البرلمانية لأحزاب الأغلبية والمعارضة مع موقف وزارة الداخلية، بشأن تحديد المستوى الدراسي كشرط أساسي، يجب توفره في كل من يريد أن يكون على رأس تدبير شؤون الجماعات والجهات، إذ في الوقت الذي اشترطت الأغلبية في تعديلاتها المشتركة بخصوص مشروع القانون التنظيمي للجهات، ضرورة التوفر على شهادة الإجازة، كشرط لرئاسة الجهات، وربط المعارضة في تعديلاتها كذلك بين الترشح لرئاسة جهة أو جماعة ترابية بامتلاك شهادة الباكلوريا على الأقل، خرج محمد حصاد وزير الداخلية ليؤكد خلال المناقشة ذاتها بلجنة الداخلية والجماعات والسكنى وسياسة المدينة، ليعارض هذا التعديل، معتبرا أن ذلك فيه مخالفة للدستور الذي يؤكد على المساواة بين المواطنين. ورغم أن فرق الأغلبية سحبت تعديلاتها الخاصة بالمستوى الدراسي كموقف سياسي غير أنها غير مقتنعة بموقف الحكومة الرافض لتحديد المستوى الدراسي المضمن في القوانين الحالية، وفي هذا السياق ترى ربيعة اطنينشي أن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالانتخابات جاءت بمستجدات مهمة حول تعزيز الديمقراطية المحلية والاختصاصات، سواء على مستوى التمايز والتدبير الحر أو في منح السلطة التقديرية والتنفيذية وكذا في مبدأ التدرج بالنسبة لنقل الاختصاصات، لكن هذا لم يواكبه تغيير في ما يخص المستوى الدراسي بعد موقف الداخلية غير الواضح، رغم إجماع الأغلبية والمعارضة على ضرورة توفر المستوى الدراسي في رؤساء الجهات والجماعات والمجالس الإقليمية، تقول عضو لجنة الداخلية والجماعات والسكنى وسياسة المدينة، التي تعتبر أنه كان من الأولى التوفيق بين مقترحات الأغلبية والمعارضة وتحديد مستوى دراسي معين. تبرير الداخلية بعدم دستورية تحديد المستوى الدراسي، تعتبره نائبة «البيجيدي» غير مقنع وهروبا واستخفافا بالعملية الانتخابية، متسائلة: «لصالح من لا يتم التنصيص على مستوى دراسي بالنسبة لرؤساء المجالس الجماعية والجهات والمجالس الإقليمية»، علما أن القانون السابق كان يحدد المستوى الدراسي. وبدورها ترى فتيحة البقالي، عضو الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب، أن ما قامت به الحكومة في هذا المجال هو «هروب فكان على الأقل أن تنص على مستوى البكالوريا كحد أدنى» ، مؤكدة في تصريح ل«المساء» أنه قبيل العمل بنظام اللائحة الوطنية، كان يلوح لنا بعدم دستوريتها غير أنه سرعان ما وجدوا لها الفتوى وأخذت طريقها نحو التطبيق. وحملت البقالي الحكومة المسؤولية، لأنه لا يمكن لمسؤول جهة، التي هي عبارة عن حكومة مصغرة، أن يسيرها شخص له مستوى بسيط جدا وأحيانا أمي، وهو ما يناقض توجه هذه القوانين التي تجعل من الجهة مؤسسة قوية ولها علاقات واسعة وتسعى لجلب مستثمرين أجانب. وقالت النائبة الاستقلالية إن من بين المشاكل التي تعترض عمل عدد من الرؤساء هو المستوى الدراسي ودعم درايتهم بالمهام الموكولة إليهم، والدليل على ذلك هو أن عددا من الاختلالات التي ترصدها التقارير مردها إلى وعدم المعرفة بجانب التسيير والاقتصاد. وبخصوص دور الأحزاب السياسية في ترشيح نخب، قالت اطنينشي، نائبة «البيجيدي»: «صحيح أن للأحزاب جزءا من المسؤولية في ترشيح نخب مثقفة ومتخصصة، لكن دور الداخلية أيضا أن تضع نصوصا من أجل ضبط عمل تسيير المجالس، لأنها لا يمكن أن ترمي بالكرة في ملعب الأحزاب السياسية بل عليها تحمل مسؤوليتها، لأنه ليس في مصلحة أحد أن يسير المجالس أميون علما أننا لسنا ضد هذه الفئة». ومن جهتها تعتبر البقالي، النائبة الاستقلالية أن رمي كرة المستوى الدراسي في ملعب الأحزاب السياسية مردود على وزير الداخلية، لأن عدم اشتراط المستوى الدراسي سيفتح الباب أمام أصحاب «الشكارة» وستظل النخب مهمشة رغم كفاءتها، كما سيساهم ذلك في هدر حق الشعب المغربي الذي يطمح في أن يمثله رئيس يتميز بالوعي والمعرفة ويتقن الاختصاصات الموكولة إليه. المعارضة والأغلبية التقيا في تبريراتهم غير المشتركة، على أن تدبير الشأن المحلي، أضحى اليوم يستوجب التوفر على مستوى تعليمي عال، أو على الأقل على مستوى مقبول، إلا أن حصاد كان عنده رأي آخر مخالف تماما لما ذهبت إليه الفرق البرلمانية أغلبية ومعارضة، وقال إنه «أحيانا تجد أميا أفضل من شخص قاري». ومن بين الحلول التي تراها البقالي من أجل الخروج من هذه الورطة سيما وأن القوانين التنظيمية في طريقها إلى المصادقة من أجل أن تدخل حيز التنفيذ هو وضع ميثاق شرف تصادق عليه جميع الأحزاب السياسية، ووقتها سيتبين من هو منسجم مع مبادئه، لأنه لا يمكن ادعاء «اليسار» في بعض القضايا وادعاء «اليمين» في قضايا أخرى.