يا سيدي البوسفور ها غيمُك الجليلُ يزدهي بِدُرِّه الجميل فاقْرَأْ سلاَمَ البرق للشطآنِ في مدائن الأحزانْ، وقل لهم: سنلتقي بموعد الأذانْ إذا تحرك الحجيجُ في مسيرة النخيلْ يُكَبِّرُ الإمامُ أولاً ويَشْرَعُ الصهيل. هذا هو المقطع الأخير من قصيدة كتبها فريد الأنصاري وأهداها إلى فتح الله گولن «وارث السر»، قبل ثلاث سنوات. عنى الأنصاري بكلمة السر موروث بديع الزمان سعيد النورسي (1876-1960)، أحد علماء تركيا البارزين الذي خلف مدرسة منتشرة في العالم بأسره، فقد عاش قلق الإمبراطورية العثمانية الذي أدى إلى تفككها شظايا، وحضر لحظة الانتقال من السلطنة إلى الجمهورية مع كمال أتاتورك، وأدرك أن المياه تسير باندفاع قوي إلى الأمام وأن لا سبيل إلى العودة إلى الخلف، فتوارى معتكفا على دراسة القرآن، بعدما اعتقل عدة مرات، وألف «رسائل النور» الشهيرة التي تعد بالمئات، والتي لا زال أتباع النورسي يتدارسونها في ما بينهم. ومن هذا الفكر خرجت حركة كولن في تركيا، التي تتبع لها اليوم مئات المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية والاقتصادية، ولديها امتداد في ربوع العالم، بعدما نجحت في تنزيل أفكار النورسي إلى الواقع الاجتماعي، حتى أن أفكار الحركة شكلت محاور للنقاش في عدة مؤتمرات بمجلس اللوردات البريطاني والفاتيكان معقل الكاثوليكية، وفي الكرملين الروسي. والمقطع أعلاه ينتمي إلى واحدة من القصائد العديدة التي تركها الراحل فريد الأنصاري، الذي كان أديبا وشاعرا قبل وبعد كل شيء، ومكنته ذائقته الأدبية من الاقتراب من النص القرآني أكثر واستخراج جواهره. وفي قصائده، كما في سائر كتاباته الأخرى بما فيها الفكرية، حضور للغة المتصوفة التي تحاول أن تجعل الكلمات -المحايدة نظريا- صورة للمعاني التي بداخلها. ومن طباع المتصوفة أنهم يعتبرون الشعر الوسيلة الرئيسية للتخاطب، ربما لقدرته على أن يقول ما هو مسكوت عنه، أو لقابليته لأن يحمل عدة أوجه، أو حتى لاستيعابه للرمزية التي تسمح بالتحايل على الرقيب، سواء كان الرقيب حاكما أم كان ثقافة موروثة أم رأيا عاما منتشرا. وقل أن تجد في التاريخ العربي متصوفا لم يكتب الشعر، لا، بل إن متصوفة مروا لم يتركوا وراءهم غير الشعر، مستغنين به عن غيره، أمثال ابن الفارض. كان الشعر وسيلتهم للتخاطب مع الناس، لأن الناس تسمع للشعر السريع الجميل وتهرب من الغرق في الأفكار المعقدة، وهكذا كان يفعل الفقهاء الذين كتبوا الأراجيز، لأن الأرجوزة أبلغ من الدروس الجافة الجامدة. وقد ظهر ميل الأنصاري إلى هذا اللون من الكتابة مبكرا، فقد كانت جميع قصائده الأولى تمتح من لغة التصوف الإيحائية، لأن شعار الكتابة الصوفية هو أن الإشارة تغني عن العبارة. وتجاوز حدود التراث العربي الصوفي إلى التراث الصوفي الياباني، عندما نشر عام 1999 ديوانه «الإشارات» الذي استوحى مقطوعاته من فن «الهايكو»، وهو نوع من الشعر الياباني القديم الذي يعبر بألفاظ بسيطة ومختصرة جدا عن مشاعر كبيرة وعميقة. أعجب الأنصاري بذلك اللون من الكتابة الشعرية فاختار أن تكون كلمة «الإشارات» هي الإطار المعرب لما كتب، لكون الإشارات في لغة المتصوفة هي الكلمات المقتضبة التي تتضمن حمولات كبيرة، فجاء الديوان مزيجا من طريقة «الهايكو» في النظم، والتسمية العربية في المحتوى، لأن الإشارة قد تكون وعاء للمعنى الكبير، إنها مثل الأصبع الصغير يشير إلى الجبل البعيد.