بعد تحريرها لقطاع المحروقات ورفع الدعم عنه وجعل ثمنه يحتكم للأسعار في الأسواق الدولية، عادت الحكومة لتضع يدها على ملف آخر لا يقل حساسية هو الدعم المخصص لغاز البوطان، الذي استنزف 14 مليار درهم خلال سنة 2014 من الميزانية المخصصة لصندوق المقاصة. الحكومة تبحث منذ أشهر عديدة عن الصيغة الأنسب لضمان استفادة أزيد من 5 ملايين أسرة فقيرة ما يعني قرابة 9 ملايين شخص يعيشون تحت عتبة الفقر، وبالتالي قطع الطريق على فئات أخرى لم يعدد ممكنا السماح باستفادتها من وضع استمر عقودا طويلة، وكلف الميزانية العامة للمغرب الشيء الكثير. تناسلت في الأيام القليلة الماضية الكثير من الأخبار، التي تتحدث عن قرب عرض الحكومة تصورها النهائي لطريقة توزيع الدعم المقرر تخصيصه لغاز البوطان، وكثير من هذه الأخبار تتحدث عن تفاصيل وتقنيات لم تؤكدها إلى الآن أي جهة رسمية ولم تنفها، ما يجعل منها مجرد فرضيات تصل في بعض الأحيان إلى حد الإشاعات، ولعل تأخر الحكومة في عرض تصورها سببه صعوبة الملف وحساسيته ورغبتها في إحاطته بكافة الضمانات التي تساعد على إنجاحه، خاصة أن ما يحرك الحكومة في هذا الملف عنصران أساسيان: أولهما الضغط الذي تمثله فاتورة غاز البوطان على صندوق المقاصة، وثانيهما استفادة العديد من الفئات التي يفترض أنها غير محتاجة إلى دعم الدولة، خاصة من يستعملون البوطان في الفنادق والمطاعم وفي قطاع الفلاحة. قرار الحكومة مباشرة الملف كان من ضمن الأولويات التي عبر عنها رئيس الحكومة في أكثر من مناسبة، حيث شدد على أن العديد من الفئات تستفيد من دعم غاز البوطان الموجه بالأساس إلى الفئات الفقيرة، حيث بلغت هذه الاستفادة حصة الأسد، إذ قدرت ب 60 في المائة من ميزانية الدعم، في حين لا تستفيد الطبقات الاجتماعية سوى من 40 في المائة. فضلا عن أن الدولة تتحمل كامل الدعم الموجه لغاز البوطان، بمبلغ 83 درهما عن كل قنينة من فئة 12 كيلوغراما. لذلك جاءت خطوة الحكومة لمنع الدعم عن الجهات التي لا تحتاجه، وتوزيعه بشكل مباشر على الفئات المخصص لها هذا الدعم، مع منع بشكل تام على أي جهات أخرى الاستفادة منه، إلى جانب تقليصه من 14 مليار درهم إلى حدود 5 ملايير درهم وفق المنظور الإصلاحي الجديد. وفي تقرير سابق صادر عن المجلس الأعلى للحسابات، تم الكشف عن أن البوطان المعبأ في قنينات من فئة 3 كيلوغرامات و6 كيلوغرامات و12 كيلوغراما يمثل الحصة الأكبر من الاستهلاك الوطني من هذه المادة بنسبة 97 في المائة، ويستهلك من طرف الأسر وبعض القطاعات الإنتاجية خصوصا منها الفلاحة، إذ يستعمل لضخ المياه والتدفئة. القرار القاضي برفع الدولة يدها عن دعم قطاع غاز البوطان، خاصة المتعلق بالقنينات من حجم 12 كيلوغراما يأتي، إذن، في إطار الخطة الحكومية الرامية إلى إصلاح صندوق المقاصة، من أجل رفع الحيف عن ما يناهز 5 ملايين أسرة تعيش تحت عتبة الفقر، على أساس أن السعر المقرر لقنينة الغاز سيصل إلى 100 درهم كحد أدنى. وفي تصريحات سابقة، قال بنكيران إن الدولة ستكون مضطرة إلى صرف 18 مليار درهم سنة 2015، من أجل تأمين دعم قطاع غاز البوطان، ولذلك قررت الحكومة رفع الدعم عن القطاع، واضعة نصب أعينها إيجاد طريقة لمساعدة المحتاجين من نساء مدن الصفيح واللواتي يقطن في منزل مشترك، مؤكدا أنه لن يحرم الأسر المغربية من مصدر طاقة تحتاجه، لكنه في ذات الوقت سيحرم جهات من الاستفادة من دعم لا تحتاجه. سيناريو الدعم المباشر.. قرار الحكومة تحرير سعر قنينة الغاز، بالإضافة إلى أنه جاء نتيجة وضع مختل لم يعد ممكنا السماح باستمراره، خاصة أنه يثقل كاهل الميزانية العامة للدولة، إلا أنه يأتي أيضا استجابة لعدد من التوصيات الصادرة عن مؤسسات دولية، ومنها البنك الدولي الذي أشاد في وقت سابق بقرار الحكومة المتعلق برفع الدعم عن المحروقات، وأوصى بتعميمه ليشمل إعادة النظر في طريقة دعمها لأسعار قنينة الغاز. البنك الدولي اقترح على المغرب أن يقوم بتغيير طريقة دعمه لقنينة الغاز، من خلال توجيه جزء من الأموال المخصصة لدعم قنينة الغاز لمشاريع اجتماعية لها علاقة مباشرة مع الفئات الفقيرة، وهكذا سيضمن المغرب أن الأموال تصل إلى الفئات التي تستحقها، حسب رؤية فرع البنك في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وتبعا لضرورة إيجاد مخرج بأقل التكاليف الاجتماعية، وضعت الحكومة العديد من السيناريوهات، لكن أبرزها يبقى تقديم دعم مباشر للأسر المعنية بقيمة 100 درهم للأسرة، وهو سيناريو اقترحه رئيس الحكومة بنفسه قبل أن يتراجع عنه لاحقا بمبرر صعوبة تنفيذه، خاصة مع الصعوبات التي ستواجه الحكومة في تأمين وصول مبلغ الدعم الشهري، والتخوف أيضا من استغلال الملف لأغراض انتخابية، ما يفقد العملية مصداقيتها ويجعل منها وسيلة لنوع جديد من الريع. السيناريو الثاني الذي اقترحته الحكومة ينص على تقديم مبلغ الدعم نفسه للأسر المعنية على أساس أن يخصم المبلغ من فاتورة الماء والكهرباء، على أساس ألا يتجاوز سقف الاستهلاك 300 كيلواط شهريا، أي الشطر الرابع من الأشطر الستة، التي على أساسها يتم احتساب الأداء. وبالنسبة لأولئك الذين لن يصلوا إلى هذا السقف من الاستهلاك، فإنه سيتم ادخار منحتهم للأشهر المقبلة. هذا السيناريو، الذي يبدو أنه الأقرب إلى أن يعتمد، يطرح بدوره إشكالا جوهريا، يتمثل في كون فئات عريضة من الأسر التي يفترض أن تستفيد بدورها من الدعم لا تملك اشتراكا في خدمات الماء والكهرباء، خاصة في المناطق الوعرة التي لم يتم ربطها بالشبكة، فضلا عن هذا يطرح هذا السيناريو كما الأول مشكل أن الحكومة خصصت 100 درهم لكل أسرة شهريا، وهو ما سيؤمن لهم شراء قنينة غاز واحدة، كما أن نسبة احتمال تجاوز الأسر للقنينة الواحدة أمر وارد بدرجة كبيرة، وفي هذه الحالة، سيكون منطقيا وضع سؤال حول من سيتحمل كلفة القنينة غير المدعمة؟ ضغوط وجبر خواطر تشير المعطيات التي تقدمها الحكومة إلى أن العدد الإجمالي الذي تستهدفه خطة الحكومة هذه يصل إلى قرابة 5 ملايين أسرة، الجزء الأكبر منها ضمن الفئات الهشة، وجزء آخر ضمن الفئات ذات الدخل المتوسط نسبيا. وفي تصريح سابق لبنكيران حث على أنه سيتم الرفع من الدعم في إطار سياسة الحكومة الرامية إلى عدم المس بالقدرات المالية للأسر الفقيرة. وبتنسيق مع المكتب الوطني للماء والكهرباء، ستتكفل الحكومة بتنزيل هذا السيناريو عبر اعتماد فاتورة جديدة، تتضمن إشارات إلى استفادة المعنيين من التخفيض الناتج عن تحرير ثمن قنينة الغاز. لكنها لم تحدد السقف الزمني الذي سيتم خلاله انطلاق عملية رفع الدعم، سوى أنها قررت العمل به بعد انتهاء الانتخابات. وعلى إثر طرح عامل الوقت، يتساءل البعض عن أسباب نزول هذا القرار في هذه الظرفية بالذات، إذ تطرح تساؤلات عدة من بينها، هل جاء هذا القرار خدمة لصالح المواطنين الذين لا تسعفهم قدرتهم الشرائية لشراء قنينة غاز، أم لتطويق تلك الجهات التي قال عنها رئيس الحكومة إنها تستفيد ب 60 في المائة من حصة الدعم الموجه للقطاع، أم إرضاء وتوسيعا لهامش ربح موزعي الغاز بالمغرب، الذين هددوا ولوحوا بسلاح الإضراب ووقف تزويد السوق في أكثر من مناسبة. مع العلم أن الهدنة بينها وبين الموزعين قابلة لكل الاحتمالات. وكان بنكيران قد وعد موزعي البوطاغاز بحل مشاكل القطاع، وعلى رأسها هامش الربح الذي لم يتزحزح منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي تصريح سابق للمساء، قال رئيس جمعية موزعي الغاز بالمغرب، «إن مكتب الجمعية عقد اجتماعا مع رئيس الحكومة ووزير الداخلية والكاتب العام لوزارة الداخلية، تمت فيه مناقشة المشاكل التي يعيشها قطاع توزيع الغاز في المغرب، موضحا أن رئيس الحكومة أبدى تفهمه لمطالب المهنيين، خاصة فيما يتعلق بالزيادة في هامش الربح، ووعد بحل هذه المشاكل في أقرب الآجال». وأضاف ابن جلون أن الجمعية قدمت لرئيس الحكومة خلاصة حول الصعوبات المالية التي تواجهها الشركات العاملة في القطاع، بسبب ارتفاع تكاليف النقل والتشغيل والأعباء الضريبية، والتي دفعت عددا من المهنيين نحو الإفلاس، مؤكدا أن بنكيران قال بالحرف «حرام علينا نخليوكوم في هاد الوضعية». وحسب مصادر إعلامية سابقة طالبت الجمعية بتوسيع هامش الربح بحوالي 25 في المائة عوض 15 في المائة، ولولا انخفاض سعر الغاز عالميا، لربما شهد المواطن ارتفاعا أكثر جراء رفع الدعم. وهو الأمر الذي يضعنا أمام إشكالية مفادها ماذا لو ارتفع سعر الغاز عالميا، هل سترفع الحكومة من نسبة دعمها للأسر الفقيرة، وماذا عن آلاف الأسر ذات الدخل المتوسط.