عبد الحق التازي واحد من أول دفعة مهندسين استقبلهم مغرب ما بعد الاستقلال، ليجد نفسه يُهندس سياسات المغرب إلى جانب الحسن الثاني، بدءا من وضع أول تصميم خماسي للمغرب المستقل، إلى الانغماس في السياسة والوزارة، فكان شاهدا على مغرب ما بعد الاستقلال، بكل الآمال التي عقدها المغاربة عليه، والآلام التي تكبدوها من جراء الاصطدام بين القصر والحركة الوطنية. فوق «كرسي الاعتراف»، يكشف عبد الحق التازي العديد من التفاصيل الصغيرة التي كانت فاعلة في قرارات كبيرة، وظلت طي الكتمان، خصوصا وأنه جمع، بتناغم كبير، بين انتمائه إلى حزب الاستقلال وقربه من الحسن الثاني الذي ظل على اتصال دائم به في عدد من الملفات الدقيقة والحارقة، أيام كان التازي كاتبا للدولة في الشؤون الخارجية. بتلقائية كبيرة، وبدون لغة خشب، يتحدث التازي عن الحسن الثاني الذي أعلن للاستقلاليين أنه ينتمي إلى حزبهم، وعن «صفقات» حزب الاستقلال مع القصر، مثل تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والاتحاد العام لطلبة المغرب، وما راج عن قبول الحزب تزوير انتخابات 1977، وكيف هدد أوفقير باغتيال علال الفاسي الذي رفض استقلال موريتانيا عن المغرب، وحقيقة اختيار الحسن الثاني امحمد بوستة خلفا لعلال الفاسي، والعديد من الخبايا التي لا تتوقف عند تجربة التناوب بل تتجاوزها إلى ما يعيشه حزب الاستقلال حاليا وإلى من «صنع» حميد شباط. – في أكتوبر 1994، أي بعد سنة على العرض الأول للكتلة من أجل المشاركة في الحكومة، سيجدد الحسن الثاني دعوة أحزاب المعارضة إلى تشكيل حكومة أقلية يضمن لها الاستقرار لمدة ثلاث سنوات على الأقل، هل تشاطرون رأي الذين قالوا إن هذا العرض كان لمجرد جس النبض وإن قرار التأجيل الذي سيصدر في بيان الديوان الملكي يوم 11 يناير 1995 يؤكد ذلك؟ بلاغ الديوان الملكي في 11 يناير 1995 جعل من إدريس البصري جزءا من المقدسات التي يعطِّل المساسُ بها تحقيق العرض الملكي. وقد كنا، في الواقع، أمام إخلاف جديد لموعد مع التاريخ، كان مظهرا من مظاهر العبث، فعرض التناوب ربما كان يستهدف الاتحاد الاشتراكي لا حزب الاستقلال. – ما الذي يدفعكم إلى هذا الاعتقاد.. لماذا لم يأت الاقتراح على هذه الصيغة؟ لا يجب أن ننسى أن الوزير الأول المطلوب حقيقة (اليوسفي) كان قد غادر البلاد غاضبا احتجاجا على ما عرفته العمليات الانتخابية من إفساد، وكان المؤمل استدراج عودته.. لقد كنا في سينما. – قال امحمد بوستة، في حوار صحفي أدلى به لصحيفة «المشعل» في 7 فبراير 2011، إنه كان من الراغبين جدا في عودة اليوسفي باتفاق مع الحسن الثاني لإتمام ما بدأه مع المرحوم عبد الرحيم بوعبيد منذ 1989، وإنه زاره في «كان» الفرنسية وألح عليه كثيرا في العودة، وإن الملك الراحل بعث إلى اليوسفي مستشاره عواد لنفس الغرض، ولذلك يقول بوستة إن تعيين اليوسفي لم يفاجئه كثيرا. هل تعتقدون أن الأمور تمت بترتيب بين الملك الراحل والأمين العام لحزب الاستقلال؟ لا، لا، ليس إلى هذا الحد، فالأخ بوستة صرح، في نفس الحوار، بأنه قال عندما عرض عليه الملك الراحل تشكيل الحكومة: أولا، نحن ليست لدينا أغلبية بسبب التزوير؛ وثانيا، لن يقبل مني، أمام أخلاقي والتزاماتي بمبادئ أدافع عنها، أن أقف أمام البرلمان بهذا الشكل وأقدم حكومة وبجانبي إدريس البصري الذي كنت أقول فيه كل هذا الكلام. كما عبر عن اعتقاده بأن أحمد رضا اكديرة كان يقوم بدوره في إفساد التلاقي بين الملك والكتلة وكان ضد أن يصبح حزب الاستقلال على رأس الحكومة، ولذلك قام بتصريف هذا الأمر، فهو له نظرية في هذا البعد ضد حزب الاستقلال، وظل يكشف عن مخططه كلما سنحت له الفرصة لذلك. – سنعرض في ما بعد لملابسات تشكيل حكومة التناوب. لنرجع الآن إلى الترشيح المشترك في اقتراع 25 نونبر 1993.. ترشحت أنت في الحي المحمدي بالدار البيضاء ولم يتم انتخابك، لماذا لم تتقدم في دائرتك بفاس؟ تهييء الترشيح المشترك مع إخواننا في الاتحاد الاشتراكي كان يتم بحماس ودقة، وعشنا مخاضا كبيرا في دراسة الحالة مقعدا مقعدا، رغم جهود القيادة؛ وفي بعض المناطق واجهنا صعوبات في بعض الدوائر، ربما لأسباب ذاتية في أغلب الأحيان.. إذ لم ننجح في تحقيق عملية شاملة ولكننا قدمنا المرشح المشترك في عدد كبير من الدوائر وحالفنا النجاح في معظمها. وفي ما يخصني، فقد كنت هيأت نفسي للترشح بفاس طبعا، واشتغلت بمنتهى الدقة؛ ومع كاتب الفرع المرحوم عبد الهادي بن جلون، عملنا على استقطاب جميع القوى المتعاطفة معنا وفتحنا مقرا بحي اللمطيين، وعقدنا العديد من التجمعات واللقاءات وكثفنا الاتصالات، فكنت متيقنا، بحكم المجهود التأطيري الكبير والقرب من الدائرة، من كسب المقعد للحزب… – ولكنك في النهاية لم تترشح في فاس؛ ماذا وقع؟ ذات يوم، دخل علي الأخ امحمد الدويري في بيتي هنا بالرباط، وجعل يدعوني إلى التخلي عن ترشيحي بفاس لفائدته، وقد ضغط علي بشدة، واقترح علي -رغم رفضي- الترشح النضالي في الحي المحمدي وهو يعلم بأن المقعد لا يدخل في خريطة النتائج المطبوخة. – النتائج، إذن، كانت مطبوخة وكان الأمر معلوما لديكم؟ على الأقل، المعطيات المتوفرة كانت مؤشرا لا بد من أخذه في الاعتبار، لقد تأملت الوضع مليا ولم يهن علي كسر خاطره علما بأني كنت أعتبره بمثابة الأخ الأكبر.. فقد كان الدويري بالنسبة إلي من القادة المميزين، غلبتني وطنيتي وتقدمت بترشيحي فعلا في دائرة الحي المحمدي ضد إرادة العائلة كلها وإرادة مناضلي الحزب في فاس. وفي هذه الدائرة، شعرت بنوع من الاحتكاك بالمناضلين، والذين كانوا على حق، فأنا كنت قد نزلت عليهم، رغم كل شيء، بمظلة في موقع ليس موقعي. ورغم كل المعيقات وقصر المدة، فرضت وجودي بالعمل وساهمت في تأطير تجمعات المرشحين المشتركين بالدار البيضاء (عبد الرزاق أفيلال وعبد الكبير طبيح). لقد قمت بعمل مضنٍ، وكانت لي مواجهة مع السلطة. ومن أسوإ المظاهر التي وقفت عليها، بعد ضبط بعض المقدمين يتحكمون في مئات البطائق، أن القضاة أصبحوا يعملون تحت إمرة العمال ويقضون بتعليماتهم، واتضح أن لا جدوى من متابعة المتلبسين بالفساد الانتخابي. بالطبع، نجح إخواننا الذين أطرت معهم حملاتهم الانتخابية؛ أما المقعد الذي ترشحت من أجله فكان محسوما، وعند إعلان النتائج كان أول من اتصلت بهم هو الأخ امحمد الدويري لتهنئته على فوز أهديته إياه بكل أريحية وبغض الطرف على كل المناورات Les entourloupettes.