يشكل الحساب الإداري محطة حاسمة في مسار الجماعة الترابية، أية جماعة، سواء تعلق الأمر بجماعات قروية أو حضرية أو بمجالس مدن. لذلك تعتبر دورته، التي تتزامن مع شهر فبراير من كل سنة، الأقوى والأكثر سخونة من بين كل الدورات العادية، كدورات أكتوبر وأبريل وغشت، والاستثنائية التي يفرضها السياق للتداول في قضايا آنية أو ذات صبغة استثنائية. هي محطة خاصة بالنظر إلى أنها تعرض أمام المستشارين، أغلبية ومعارضة، تفاصيل المالية الجماعية على مستوى ما تحقق من مداخيل، وعلى مستوى ما أنفق من مصاريف. وكل تصويت بالإيجاب يعني أن المجلس المنتخب منح الرئيس، باعتباره الآمر بالصرف، إبراء الذمة؛ لذلك كثيرا ما تندلع في هذه المحطة معارك وحروب ومواجهات لأن هذه الدورة هي عصب كل العمل الجماعي. وفي الوقت الذي يفترض أن تقدم فيه الأغلبية، ومعها الرئيس كآمر بالصرف، كل ما يشفع لها ويبرئ ذمتها لإقناع المعارضة، تدخل الكثير من الجماعات المحلية في لعبة البيع والشراء، وترضية الخواطر طمعا في تصويت يخرج الآمر بالصرف من عنق الزجاجة، خصوصا وأن الكثير من التقارير تتحدث، بين الفينة والأخرى، عن تجاوزات واختلالات مالية هنا وهناك. وبدلا من أن يتابع الرأي العام -المتمثل في أولئك الذين منحوا أصواتهم يوم الاقتراع لمنتخبين بما يخولهم صلاحية تدبير الشأن الجماعي- معركة سياسية حول الاختيارات التي تم على خلفيتها صرف مالية الجماعة، تتداعى إلى سمعه بعض الأصوات التي تنادي بنصيبها من «كعكة» الجماعة مقابل التصويت بالإيجاب على الميزانية، وعلى حسابها الإداري وإبراء ذمة الرئيس الآمر بالصرف؛ بل إن أمثلة كثيرة تصل اليوم حول جماعات محلية لم تتمكن من توفير النصاب القانوني لعقد دورة الحساب الإداري، ليس لأن الرئيس لم يحسن صرف ميزانية جماعته، وإنما لأن معارضيه يطالبون ب»نصيبهم»؛ لذلك وجدنا أن أعدادا كبيرة من الجماعات، قروية وحضرية، أجلت عقد هذه الدورة إلى ما بعد فبراير طمعا في تحقيق حلم النصاب القانوني. إنها صورة من صور الفساد الذي عشش في العديد من الجماعات الترابية التي تصلنا أخبار بعض الرؤساء الذين اغتنوا من ماليتها، وبعض الذين صدرت في حقهم قرارات عزل، وبعض الذين اقتيدوا إلى السجون. غير أن السؤال الأكبر الذي يطرح اليوم، ونحن على أبواب انتخابات جماعية قد تعيد نفس الوجوه التي جعلت من العمل الجماعي حرفة أو مهنة تدر عليها الأرباح، هو: لماذا يجب أن نكرر، في كل تجربة انتخابية، نفس الملاحظات عن سوء التسيير والتدبير، وعن الاختلاسات، وعن الاختلالات في التعاطي مع الشأن المحلي؟ ألا تتحمل الأحزاب السياسية جزءا، إن لم نقل كل المسؤولية عما يحدث إلى درجة أن الناخبين كفروا بهذا العمل الجماعي، واختار بعضهم مقاطعة اللعبة، فيما أصبح البعض الآخر مستعدا للتصويت بالمقابل. عمليا، يفترض في الحزب السياسي أن يكون على أهبة الاستعداد لهذه المحطة؛ ويكون عليه بالتالي أن يهيئ لها رجالاتها العارفين بطبيعة ما ينتظرهم من مهام هي مزيج من المعرفة القانونية والمالية، والتي يجب أن تؤطر بخلفية سياسية؛ غير أن ذلك لا يحدث إطلاقا. جل الأحزاب السياسية، أو لنقل كلها، لا تقدم لهذه المحطة دوما المؤهلين للعمل الجماعي. وكل ما أصبحت تبحث عنه هو وضع الرجل القادر على كسب المقعد الانتخابي، بما في ذلك بعض الأحزاب التي كانت تعتبر الانتخابات محطة نضالية لإسماع صوتها. اليوم، لم تعد هذه المحطة للنضال فقط، وإنما أضحت محطة لكسب المقعد الانتخابي. هل يمكن أن نجد في هذا التنظيم الحزبي أو ذاك خلايا تشتغل على العمل الجماعي وعلى شروطه وضوابطه؟ ألم تعد الأحزاب مجرد دكاكين سياسية تفتح أبوابها كلما حلَّت الاستحقاقات، لتغلقها من جديد فور انتهاء تلك الاستحقاقات؟ إنها مأساة العمل السياسي في البلد، والتي تنعكس حتما على العمل الجماعي من خلال مستشارين كلُّ همهم هو ما سيكسبونه من امتيازات، بعضها مادي وبعضها الآخر رمزي. أما خدمة الصالح العام فقد أضحت استثناء؛ لذلك كفر الكثير بهذه التجربة التي تنكشف كل خيوطها كلما حل موعد الحساب الإداري. بقي، فقط، أن نذكر أن التصويت على الحساب الإداري لا يعدو أن يكون تصويتا سياسيا، وإن كان يبرئ ذمة الآمر بالصرف؛ أما الحساب التقني والمالي فيضطلع به قضاة المجلس الأعلى للحسابات.