أعاد إدريس جطو وهو يكشف عن الاختلالات التي عرفتها عملية تمويل الأحزاب السياسية خصوصا أثناء مواعيد الاستحقاقات الانتخابية، السؤال عن الكلفة التي يحتاجها المرشح، أي مرشح، لكسب مقعد انتخابي. ودشن جطو من حيث لا يدري، من خلال كشفه عن بؤر سوداء في عملية تمويل الأحزاب خصوصا تلك التي لم تنجح في تقديم ما يثبت صرفها لأموال الدعم، مسلسل الانتخابات التي تستعد البلاد للانخراط فيه وفي حمى الألوان والشعارات والرموز. وهو بذلك قد دفع هذه الأحزاب للنظر فيما وضعته من ترتيبات ومن حركات تسخينية استعدادا للمواعيد القادمة. وارتباطا بأموال الدعم، لا بد من التساؤل هل تكفي الشعارت والخطب الرنانة والبرامج الانتخابية التي تقدمها الأحزاب السياسية لناخبيها أثناء الحملة الانتخابية، لكسب المقعد الانتخابي، أم أن الأمر في حاجة لأشياء أخرى فيها ما هو مالي وما هو عيني، ورمزي أيضا. وهي أشياء تتباين من حزب سياسي لآخر، ومن مرشح لآخر. تعتبر الانتخابات، بحسب التفسير القانوني والسياسي، الصيغة المثلى لوجه الديمقراطية من خلال التعرف على رغبات الناخبين. وفي مغرب اليوم، كما الأمس، لا يخفي العارفون بخبايا الأمور أن جل الاستحقاقات الانتخابية، هي سوق كبيرة تلغي البرامج والخطب والشعارات، ويحضر بديلا عنها البيع والشراء ماديا أو عينيا. لذلك كثيرا ما انتصر هذا التوجه على كل ما تقدمه الاستحقاقات من عناصر أخرى إذا عرف المرشح وتنظيمه الحزبي كيف يكسب هذه السوق الكبيرة، وكيف يروج لسلعته لتنافس بقية السلع المعروضة. لذلك تقول نتائج جل الاستحقاقات التي عرفها المغرب إن نسبة كبيرة ممن يصلون سواء إلى البرلمان تحديدا، أو إلى الجماعات المحلية، هم أعيان توفرت لهم الإمكانيات المادية التي ساعدتهم على كسب الرهان. ويصبح بذلك الانتماء الحزبي مجرد صيغة لاستكمال المشهد، وإعطاء لعبة الديمقراطية قيمتها. ولذلك أيضا نتابع كيف يغير أكثر من مرشح جلده السياسي مع حلول كل محطة انتخابية إذا ما اكتشف أن مصلحته الخاصة قد تتعارض مع مصلحة التنظيم الحزبي المنتمي إليه. إن كسب رهان الاستحقاقات لا بد أن يمر عبر محطة الموارد المالية أكثر من البرامج ومن الشعارات والحملات الانتخابية. ومن تم تصبح عملية اختيار المرشحين وتوزيع التزكيات مرهونة بتوفر المرشح على حد أدنى من الموارد المالية الخاصة قبل أن يدخل التنظيم الحزبي على الخط. ولا يشكل الدعم المالي الذي يصرفه الحزب إلا نسبة ضئيلة مما تحتاجه معركة كسب المقعد. ومن تم تسعى جل الأحزاب السياسية، وهي توزع تزكياتها على هذا الشرط الأساسي بالنسبة لها. ودخلت أحزاب كانت إلى الأمس القريب تنادي باعتبار الانتخابات مجرد واجهة نضالية لإسماع صوت الحزب، سباق كسب المقاعد بمرشحين قادرين على ذلك ليس برأسمالهم السياسي، ولكن بما يتوفر لهم من إمكانيات مالية كافية لمواجهة السوق. ويتحدث المتتبعون للشأن الحزبي المغربي عن حزب الاستقلال مثلا الذي ظل يفتح أبوابه لكل القادرين على كسب المقعد بقطع النظر عن انتماءاتهم السابقة، أو ولائهم الحقيقي للحزب. كما سار على النهج نفسه بعده حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي أوجد لهؤلاء الأعيان صيغة ما عرف بالانفتاح. أما أحزاب ما عرف باليمين، كما هو حال الحركة الشعبية مثلا أو التجمع الوطني للأحرار، أو الحزب الوطني الديمقراطي سابقا. أو الأصالة والمعاصرة الحديث العهد بالحياة السياسية، فقد ظلت تعتمد بدرجة كبيرة على الأعيان القادرين على كسب المعركة. يحتاج المرشح في المحطة الأولى، عمليا لأشهر كافية قبل الانخراط في حملته الانتخابية، إلى موارد مالية للتحرك في دائرته الانتخابية من أجل أن يعيد معه أواصر التعارف التي تكون قد انقطعت على مدار التجربة الانتخابية المنتهية. وعليه أن يكون حاضرا في كل المحطات ذات البعد الاجتماعي سواء تعلق الأمر بالأفراح أو الأحزان. فلا بد للمرشح أن يعيد مرضى دائرته الانتخابية، ويقدم التعازي لمن فارق الحياة. كما يجب عليه أن يكون حاضرا في أعراس ناخبيه ليقدم الهدايا التي تليق بحجمه كمرشح مستقبلي. وعلى الرغم من أن هذه السلوكات تبدو خارج مهامه السياسية وخارج المهام التي يفترض أن يقوم بها المرشح سواء بداخل مجلس النواب أو بالجماعات المحلية، إلا أنها حاضرة بقوة في المشهد الانتخابي المغربي، وتحتاج لمصاريف غالبا ما تكون ذاتية. ثاني المحطات التي تفرض على المرشح أن يكون حاضرا فيها على المستوى المالي، هي بداية الحملة الانتخابية. فكل العمليات اللوجستيكية تفرض مصاريف هي أكبر بكثير مما يصرفه الحزب لمرشحه. فالأمر يحتاج لأسطول من السيارات التي يتم كراؤها في الغالب الأعم بعد أن انتهت عملية التطوع الحزبي التي كانت سائدة فيما قبل. ويحتاج هذا الأسطول للبنزين، ولأجور السائقين وتعويضات الأكل. كما تحتاج العملية لأداء تعويضات جزافية للمتطوعين للقيام رفقة المرشح بحملته الانتخابية. وهم في الغالب جماعة من الشباب الذين يجدون في هذه المناسبة فرصتهم لكسب قوت يومهم بعد أن تراجع التطوع، ولم تعد للأحزاب شبيباتها التي كانت تقوم بهذه المهام، وهي كانت بثمابة قوات احتياطية لمثل هذه المحطات. أما إذا اختار التنظيم الحزبي تنظيم مهرجان خطابي في عز الحملة الانتخابية، فإن المصاريف ستزداد حتما. ولذلك كثيرا ما تراجع بعض المرشحين عن تنظيم مهرجان خطابي، إذ أبانت المعطيات الأولى للحملة الانتخابية عن تراجع المرشح في سباقه من أجل المقعد. أما البديل عن المهرجانات الخطابية الصاخبة التي تلقى فيها الخطب وترفع الشعارات، ويحمل فيها الزعماء فوق الأكتاف، فقد أصبح هو الاعتماد على بعض الوسائل الحديثة كالكتيبات والأقراص المدمجة. غير أن أكبر المحطات التي يحتاج فيها المرشح لإمكانيات مالية مضاعفة، هو يوم الاقتراع خصوصا إذا اقتنع أن ذلك السوق الكبير فرض منطق من يدفع أكثر. لذلك يعترف الكثير ممن جربوا هذه الوصفة أن يوم الاقتراع يشكل قرابة التسعين في المائة من المردودية، أكثر من كل أيام الحملة الانتخابية الأخرى، خصوصا إذا كان المقعد سيكلف صاحبه شراء الأصوات، وضبط السوق، وتسويق السلعة بالشطارة اللازمة. ويحتاج الأمر كذلك لربط أواصر الثقة بين المرشح وبين أعيان المنطقة سواء أكانوا قد كسبوا هذه الصفة لوضعهم الاجتماعي، أو لقربهم من السلطة، لكي يقوموا بديلا عنه بإقناع الناخبين بالجدوى من التصويت عليه. إنهم هنا الوسطاء الضروريون لكسب الرهان. وكل عملية خارج هذه الصيغة تعتبر مضيعة للجهد والمال والوقت. لذلك كثيرا ما أفلس مرشحون بعد أن صرفوا أموالا كثيرة دون أن ينالوا المعقد، فقط لأنهم دخلوا سوق الانتخابات بدون وسطاء. وكما يحدث في أي سوق، فإن منطق المضاربات ومحاولة إفساد السوق، هو ما ينطبق على الانتخابات حيث يكثر السماسرة الذين يبحثون عن الربح المادي بكل السبل. ومن تم قد ترتفع سومة الصوت الانتخابي بارتفاع تقلبات السوق. ولأن السلطة ظلت في جل الاستحقاقات التي عرفها المغرب تختار حيادا سلبيا، إذا لم تكن تراهن على دعم مرشحها المفضل، فقد ظل المرشحون ينتظرون يوم الاقتراع لشراء أصواتهم وفق الثمن المحدد في السوق. لكل هذا، تصبح الأحزاب السياسية سواء تلك التي توظف أموال مرشحيها أو تلك التي تعتمد على إمكانياته الذاتية، مجرد نوافذ وهمية لا تعكس الطبيعة الحقيقية والوزن السياسي لمختلف التعبيرات السياسية في البلد. والحصيلة هي أن جل الاستحقاقات لم تفرز في المغرب ممثلين صوت عليهم ناخبون عن اقتناع، إلا بنسبة ضئيلة جدا. لقد كشفت جل التجارب الانتخابية التي عاشها المغرب عن حالات مد وجزر في تعامل السلطة معها، ومع التشكيلات السياسية التي قبلت دخول اللعبة منذ الستينيات، قبل أن تتوقف وتعود في منتصف السبعينيات فيما سماه الحسن الثاني وقتها بانطلاق المسلسل الديمقراطي. غير أن هذا المد والجزر لم يغير من صورة هذه الاستحقاقات التي ظلت توصف بالسوق الكبيرة التي يكسبها من يدفع أكثر، ولمن يحسن تسويق سلعته بالشطارة والمعرفة بميكانيزمات هذه السوق وتقلباتها. مع التوفر على العملة القابلة للصرف سواء تعلق الأمر بالخطب والشعارات، التي لم تعد تغري الناخبين كثيرا، أو بالمال الذي اقتنعت جل الأحزاب السياسية اليوم على أنه السبيل لكسب المقاعد. لذلك فهي تسهر على توزيع تزكياتها لمن هو أهل لكسب هذا المقعد ولو على حساب مناضلين أفنوا أعمارهم في نقاشات المقرات الحزبية الباردة. الدين والانتماء الجغرافي من أهم محددات السلوك الانتخابي في 1913، سيلاحظ الفرنسي « سيجرفريد» أن الآراء السياسية المعبر عنها تتميز بتوزيع خاص، مرة على المستوى الجغرافي، ومرة بحسب مستويات أخرى منها ما هو طبيعي. وكانت خلاصة هذا الباحث الفرنسي هي أن ثمة توافقا بين الخرائط السياسية والخرائط الطبيعية والبشرية والاقتصادية. لقد توقف هذا الباحث عند وجود نوعين من الناخبين هما ناخبو الحجر، وناخبو الكلس. وهو ما فسره بكون الطبيعة الصخرية توفر الماء، وتسمح بظهور ملكيات زراعية كبيرة حول مصدر هذا الماء. في الوقت الذي لا تسمح فيه الطبيعة الكلسية في السهول مثلا بتوفر الماء الكافي. وهو ما لا يسمح بالتالي إلا بظهور ملكيات زراعية صغيرة متجمعة في القرى. وعليه فإن نظام الملكية، هو العامل المحدد للسلوك الانتخابي. ويزيد هذا الباحث في الشرح لكي يؤكد على أن الملكية الصغيرة يكون فيها الفلاح متشبثا باستقلاليته، ويؤمن بقيم العدل، الذي يحدد سلوكه الانتخابي في غالب الأحيان. أما في أنظمة الملكية الكبيرة المراقبة من قبل طبقة أرستقراطية، فإن التصويت يكون في الغالب لصالح الأحزاب المحافظة. كما أن العامل الديني يعتبر محددا أساسيا للسلوك الانتخابي. وقد سجلت تلك الدراسة نفسها أن نسبة المشاركة في العمليات الانتخابية، تكون في المناطق الأكثر تدينا، مرتفعة. أما التصويت فيها فيكون على أحزاب اليمين في الغالب الأعم. وعلاقة بالتاريخ، تضيف الدراسة، أنه يمكن للماضي السياسي لمنطقة معينة أن يفسر سلوك ناخبيها في فترة من الفترات. وذهبت دراسات أخرى حول السلوك الانتخابي لتؤكد أن هذا السلوك تحدده ثلاثة عناصر أساسية هي الوضعية الاجتماعية للناخبين، والتقليد المحلي، والظروف السياسية. فالفئات الاجتماعية غير المحظوظة في المجتمع هي التي تصوت في الغالب لفائدة أحزاب اليسار. أما الفئات المالكة للثروات، فهي التي تصوت لأحزاب اليمين. وبخصوص التقليد المحلي، تؤكد الدراسات على أنه عامل أساسي بوجود جماعات تصوت لصالح اتجاه سياسي محدد بغض النظر عن تركيبة ناخبيها الاجتماعاية أو المهنية. ويرجع هذا الأمر مثلا للماضي السياسي لهذه المناطق. أما ثالث العوامل المحددة للسلوك الانتخابي، فهي المتعلقة بالشروط السياسية التي تجري فيها الاستحقاقات، خصوصا وأن الانتخابت هي في نهاية الأمر جواب الناخب عن سؤال سياسي محدد. ولفهم سلوك الناخب لا بد من معرفة طبيعة السؤال. لذلك تختلف طبيعة المشاركة السياسية باختلاف الاستحقاقات. فنسبة المشاركة مثلا في الاستفتاءات تكون مرتفعة. كما أن نسبة التصويت في دائرة انتخابية لفائدة حزب معين ليست هي النسبة نفسها في انتخابات من نوع آخر. بالإضافة إلى أن ناخبي بعض الدوائر قد يصوتون على اتجاه سياسي معين في فترة معينة، ثم يغيرون اختياراتهم في الانتخابات اللاحقة. وارتباطا بالسلوك الانتخابي، تضيف الدراسة أنه يحدد أيضا بحسب التحفيزات التي تدفع الناخب لكي يختار بين هذا المرشح أو ذاك. ومن تم نصبح أمام الجواب على أسئلة من قبيل ما هي دواعي مشاركة فرد في الانتخابات؟ وما هي دواعي اختياره لهذا الحزب دون الآخر؟ ولهذا المرشح دون الآخر؟ وما هي الأسباب التي تجعله مخلصا لاختياراته، أو تلك التي تجعله مضطرا لكي يغير سلوكه الانتخابي من استحقاقات لأخرى. أما الخلاصة التي انتهت إليها الكثير من الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع، فهي أن السلوك الانتخابي يظل غير عقلاني. ولا يمكن أن يصبح كذلك إلا إذا توفرت جملة من الشروط أساساها الوعي وإمكانية الحصول على المعلومة والأخبار، والاتصال بأفراد وفئات لها الوضعية نفسها، وثبات البنيات الاجتماعية. غير أن السؤال الكبير الذي يمكن أن يطرح أمام هذه الخلاصات وهذه الدراسات التي تناولت السلوك الانتخابي من زوايا مختلفة، هو ما مدى تطابق ما خلصت إليه، مع ما تعرفه انتخاباتنا المغربية التي تخلط كل شيء، ويحركها جلها الفساد على أكثر من مستوى. كيف يتحول الحزب السياسي إلى» علامة تجارية» ظلت الأحزاب السياسية، في كل التجارب، تبحث عن جواب مقنع لسؤال محير. ما هي أفضل الطرق الواجب استخدامها لدفع الناخبين للتصويت عليهم، خصوصا وأن الناخبين فقدوا ذلك التجانس السابق، وأصبحوا يتشكلون من طبقات وفئات اجتماعية متباينة وذات مصالح مختلفة ومتناقضة أحيانا. وفي بداية القرن العشرين، حاول بعض رجال السياسة بلورة نظرية التسويق السياسي، بعد أن حققت نجاحات كبيرة في عالم التسويق التجاري. فالشعار الأكبر في أية عملية تسويق هي معرفة أذواق وأهواء المستهلك من أجل اقتراح منتجات تستجيب لهذا الذوق. لذلك أصبحت قدرة المؤسسة الإنتاجية لا تقاس بعدد الزبناء، ولكن بنسبة المخلصين منهم لعلامتها. ومن تم بدأ ربط المستهلك بعلامة تجارية معينة. سيستفيد رجال السياسية من هذه الوصفة حينما بدأت الأحزاب السياسية ترسم لنفسها هي الأخرى علامة تجارية تميزها عن بقية الأحزاب المنافسة، من خلال التعرف على حاجيات الناخبين للحصول على أصواتهم. وقد انطلق العمل بهذه الوصفة في ثلاثينيات القرن الماضي حينما انهزم الحزب الديمقراطي الأمريكي في الانتخابات الرئاسية لسنة 1928، ليبادر وقتها لخلق مصلحة لإشهار الحزب، وانطلاق التسويق السياسي. اشتغل الماركوتينغ السياسي وقتها على دراسة بحثت موضوع تطلعات الناخبين بالحصول على المعلومات الدقيقة حول ما يرغب فيه هؤلاء الناخبون. وذلك قبل الانخراط في ترتيب الحاجيات والتطلعات بحسب درجة أهميتها. بالإضافة إلى كيفية حصول الناخب على المعلومات السياسية وبرامج الحزب وشخصيات المرشحين، ومدى تأثير الممارسة السياسية على الناخبين، وكيفية رد فعلهم. ثم معرفة كيف يختار الناخب مرشحه. وكيف يبرر صوته. أما الخلاصات التي انتهت إليها هذه الدراسة، فهي أن الأفكار والبرامج الحزبية ليست دائما ذات قيمة ولا تأثير على سلوك الناخبين. في حين أن الطريقة التي تدار بها الحملات الانتخابية، والشكل الخارجي للمرشح وسلوكه اليومي هي التي لها تأثير أقوى على الناخبين. في التجربة المغربية، لم يخرج التسويق الانتخابي عن أنماطه التقليدية من خلال البرامج الانتخابية التي لا تزال تقدم في عموميتها أفكارا ومتمنيات بدون ضوابط إجرائية. ثاني أشكال التسويق السياسي هي التي تأتي عن طريق التلفزيون الذي ساعد على إيصال أفكار الأحزاب وبرامجهم إلى الناخبين. غير أن كسب رهان هذا العامل الحاسم يحتاج إلى جملة من الإجراءات والأفكار التي أصبح خبراء الإعلام ينوبون فيها عن الزعماء السياسيين. لذلك يتحدث العارفون بعالم التلفزيون وعلاقته بالتسويق السياسي عن جملة من الشروط التي لا بد من توفرها. وفي مقدمة هذه الشروط، الحرارة الإنسانية في الخطاب التلفزيوني. والإقناع من خلال ردود فعل الضيف وحركاته. زد على ذلك الصدق في القول، والذكاء من خلال الرد على الأسئلة غير المنتظرة ببراعة. ومع ذلك فإن تأثير التلفزيون على النتائج السياسية يبقى محدودا. فكثيرا ما أسفرت حملة انتخابية عصرية ومحكمة عن نتائج سلبية إذا ما قورنت بمرشحين بدون مصداقية. أما ثالث الدعامات، فهي التي تعتمد التسويق السياسي من خلال الصحافة المكتوبة حيث تفيد الأرقام أن معدلات سحب الصحف تزداد خلال الحملات الانتخابية. بل إن تنظيمات حزبية تختار أن تصدر جرائدها الخاصة حتى ولو تعلق الأمر فقط بفترة الحملات الانتخابية. ومع ذلك فإن هذه الوسيلة لا تزال تعتبر غير ذات تأثير بالنظر لنسبة المقروئية في المغرب، وارتباط ذلك بأمية الناخبين. وتبقى الصورة اليوم واحدة من عوامل التسويق السياسي التي قد تنوب عن المكتوب الذي يعرف تراجعا كبيرا، ولا يغري الناخبين. وصفة الأعيان التي تداوي مرض الأحزاب ظل حزب مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يقول في أدبياته «إن الانتخابات مجرد محطة من محطات النضال، وواجهة لإسماع صوت الحزب». وفي سنة 2007 قاد عملية وصفت بالجذرية لاستقطاب وجوه سياسية، أو لنقل انتخابية، لتعزز الصفوف فيما اصطلح عليه بحملة الانفتاح. غير أن انفتاح الاتحاد الاشتراكي لم يكن إلا في وجه الأعيان القادرين على كسب المقعد الانتخابي ليس إلا. وقبل الاتحاد، كان حزب الاستقلال قد فهم مبكرا أن الانتخابات ليست في حاجة لمناضلي المقرات الحزبية، ولكن لأعيان يعرفون كيف يدبرون هذه المحطة. ولذلك استطاع أن يكون له حضور وازن سواء في المدن أو القرى. والحصيلة هي أنه استطاع أن يحافظ على بقائه حيا يرزق رغم كل الضربات التي تلقاها باعتباره حزبا ظل يشارك في تدبير الشأن العام منذ عقود. لم يخرج حزب الحركة الشعبية، بكل ألوانها، عن هذه الوصفة. لذلك لم يكن يجد صعوبة في اختيار مرشحين من أعيان البادية وبعض المدن. الأعيان الذين ليسوا في حاجة لدعم الحزب ماديا في معركة تحتاج لإمكانيات مهمة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالاستحقاقات النيابية. أما حزب التجمع الوطني للأحرار، فقد ظل ينعت على أنه حزب الأعيان بامتياز منذ ولد من رحم سلطة الداخلية عقب استحقاقات سنة 1977 التي أفرزت مجموعة من اللامنتمين الذين دخلوا الانتخابات بإمكانياتهم الذاتية، قبل أن يجمعهم وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري في تنظيم سياسي أطلق عليه اسم التجمع الوطني للأحرار، ووضع على رأسه صهر الحسن الثاني أحمد عصمان. ومن يومها، ظلت لوائح التجمع يقودها الأعيان الذين يعرفون كيف يكسبون المقعد. لذلك لا تندلع الخلافات والمواجهات بين هذه الفئة حيث يذوب» المناضلون»، خصوصا وأن التجمع بدون امتداد قاعدي بشبيبة حزبية حقيقية، أو قطاع نسائي منظم، أو ذراع نقابي وازن، أو وسيلة إعلام مؤثرة. حزب التقدم والاشتراكية، الذي يرفض قادته أن يوصف بالحزب الصغير، ركب الموجة نفسها وأعلن في نسبة كبيرة عن عدد من مرشحيه من الأعيان. لذلك قال بفخر إنه بدأ يقدم للناخبين وجوها جديدة. ولعل هذه الوصفة التي تعني الأعيان، هي التي رسمها حزب الأصالة والمعاصرة وهو يرسم لنفسه خطا سياسيا جاء لتجميع حداثيي البلد في مواجهة الإسلاميين. لقد اختار منذ أعلن عن مؤتمره التأسيسي عددا من الأعيان الذين طلقوا أحزابهم وارتموا في حضن فؤاد عالي الهمة، عراب «البام». وبقي بعض رموز اليسار، الذين كانوا قد التحقوا بحركة لكل الديمقراطيين، قبل أن يصلوا في المحطة الموالية لحزب الأصالة والمعاصرة، بمثابة «رجال التدخل السريع» كلما كان الحزب في حاجة لمن يدافع عن اختياراته في وسائل الإعلام. لقد فهم حزب الأصالة والمعاصرة أنه لتؤسس حزبا يمكن أن يحتل المرتبة الأولى في أي استحقاق، فلست في حاجة إلا لأعيان الانتخابات، الذين يعرفون كيف يدبرون شأنها من يوم انطلاق الحملة الانتخابية إلى يوم الاقتراع. أما أن يكون الحزب في حاجة لتنظيمات موازية في الشباب والنساء، أو في حاجة لدرع نقابي يمكن أن يقدم له الدعم اللازم، أو لوسيلة إعلام تنشر برنامجه وتعرف بخطه السياسي، فليس ضروريا. ولذلك لم يخف الشيخ بيد الله وهو وقتها أمين عام «البام» حينما سئل مرة عن غياب كل هذه التنظيمات الموازية في حزب يبحث لنفسه عن موطئ قدم في المشهد السياسي، حيث رد أن الأصالة والمعاصرة ليس في حاجة لكل هذا. لا تحسم حينما تشتعل حمى الانتخابات في المعركة البرامج الانتخابية التي دبجتها الأحزاب السياسية، ولا الأرقام التي قدمتها حول النمو والتشغيل. ولكن الحسم سيكون عن طريق أعيان الانتخابات الذين سيوظفون الخطاب « السياسي» الذي تحتاجه المرحلة. وخطاب المرحة، كما تؤكد على ذلك جل التجارب، من هو مستعد للدفع أكثر. وحدها بعض التنظيمات الحزبية التي لها مناضلوها المنضبطون، هي التي يمكن أن تخرج عن قاعدة الأعيان للحسم في مرشحيها. حينما أعاد الحسن الثاني الحياة للمشهد السياسي المغربي فيما اصطلح عليه بالمسلسل الديمقراطي في أواسط السبعينات، لم تكن الأحزاب التي سميت بالوطنية مرغوب فيها. إضافة إلى أنها عانت من بطش الملك الراحل. لذلك لم يجد إدريس البصري، وهو وقتها المهندس الحقيقي لهذا المسلسل الذي ولد بعد سنوات الاستثناء، غير أعيان المدن والبوادي للدفع بهم إلى احتلال الصفوف الأولى في الجماعات المحلية وفي مجلس النواب بغرفتيه. وحينما لم يكن تكوين الحكومات على عهد الحسن الثاني يخضع لأية « منهجية ديمقراطية»، وهي صيغة أبدعها الاتحاد الاشتراكي عقب استحقاقات 2002، فقد أعطت استحقاقات 1977 لهؤلاء الأعيان الذين تقدموا لا منتمين، الأغلبية المطلقة. وهي أغلبية ظلت تقول نعم لكل قرارات الحكومات المتعاقبة، لدرجة أنه لم يكن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية الكثير من التأثير والتأثر. وفي استحقاقات سنة 1984، حيث ولد حزب جديد برعاية الدولة سمي بالاتحاد الدستوري، وضم ما اصطلح عليه بجيل ما بعد الاستقلال، لم يتشكل مجلس النواب في غالبيته من غير الأعيان الذين أعادوا الصور السياسية نفسها التي عاشها المجلس منذ تجربة 1977. اليوم، وعلى الرغم من أن المنهجية الديمقراطية أضحت محددا واحدا فاصلا في اختيار الحزب الذي من المقرر أن يقود الحكومة الجديدة، إلا أن الاعتماد على الأعيان في جل الأحزاب المغربية يمينها ويسارها، لم يغير من الحياة السياسية الشيء الكثير. وإن كانت تجربة اللوائح الوطنية للنساء والشباب قد أضفت على المشهد بعض التنوع، وإن كان ذلك غير مضمون بنسبة كبيرة، لأن شباب مجلس النواب كانوا في حاجة لفترات «تدريب» من أجل أن يكون أداؤهم النيابي مجديا. عندما كانت بطاقة الناخب أداة للتزوير والإنزال الانتخابي حينما تقرر في أول استحقاقات عاشها مغرب محمد السادس بعد دستور 2011 أن يتم إقرار البطاقة الوطنية كوثيقة وحيدة للإدلاء بها في مكاتب التصويت، اعتبر الكثيرون أن هذه الخطوة هي أقوى تعديل سياسي تعرفه مدونة الانتخابات، بعيدا عن حكاية عتبة الأصوات، والتقطيع الانتخابي، الذي يثير حفيظة الأحزاب السياسية في كل محطة انتخابية. لقد كانت خطوة جرئية ظلت العديد من التنظيمات السياسية تطالب بها حماية للاستحقاقات من الفساد، الذي أضحى عنوانا كبيرا من عناوين مشهدنا السياسي، قبل أن تقتنع الدولة بجدواها وقيمتها. ومن تم فقد أصبح على الناخب أن يدلي بالبطاقة الوطنية وهو يلج مكتب التصويت. أما بطاقة الناخب، التي ظلت ملتصقة بكل الاستحقاقات، فستشكل وثيقة هي بمثابة دعوة للناخب كي يحضر للإدلاء بواجبه الوطني، خصوصا وأن أرقام وزارة الداخلية تخبر أن أكثر من تسعين في المائة من الكتلة الناخبة أضحت تتوفر اليوم على بطاقة وطنية بيومترية. لذلك لم يعد مقبولا ألا توظف في واحدة من مجالات الحياة السياسية وهي الانتخابات. هي خطوة راهن الكثيرون على أنها ستعفي من واحد من أساليب الفساد الانتخابي الذي عاشته التجربة المغربية منذ دخلت ما اصطلح عليه بالمسلسل الديمقراطي، الذي انطلق في ثوب جديد منذ استحقاقات سنة 1976، بعد توقف اضطراري كانت البلاد قد دخلته بسبب حالة الاستثناء التي اختارها الملك الراحل بعد أن اشتد الخلاف بينه وبين خصومه السياسيين وقتها. فمنذ استحقاقات 1976، شكلت بطاقة الناخب أداة فعالة للتزوير. لقد كانت تصنع في معامل وزارة الداخلية الممتدة من المقدم والشيخ، إلى القائد والباشا ثم العامل. لذلك اعتبر الكثيرون وقتها أن الفوز بمقعد انتخابي سواء في جماعة محلية أو بمجلس النواب، لا يمكن أن يمر إلا عبر توفير ما يكفي من البطائق الانتخابية التي يتحكم في مصيرها خصوصا مقدم الحي. ولأن وزارة الداخلية ظلت تصنع الجماعات المحلية وتشكيلة مجلس النواب، فقد ظلت بالتالي توفر أعدادا كبيرة من بطائق الناخبين لتوظفها عند الحاجة. والحاجة هي توزيعها على المرشحين الذين تراهن على فوزهم، والذين يقومون بالتالي بتوزيعها على أولئك المستعدين للتصويت أكثر من مرة، خصوصا وأن هذه البطائق تحمل في الغالب أسماء وهمية، أو أسماء موتى غادروا إلى دار البقاء، لكنهم ظلوا في نظر وزارة الداخلية حاضرين يجب أن يساهموا في العمليات الانتخابية. ولم يكن غريبا أن يحمل مرشح الإدارة، كما كان يوصف في أدبيات الانتخابات المزورة، خلال يوم التصويت أعدادا كبيرة من البطائق، لكي يوظفها في الوقت المناسب. ولأن التزوير الانتخابي صنع لنفسه محميات ورجال سياسة، فقد صنع أيضا بعض المصطلحات الخاصة، ومنها مصطلح «الإنزال الانتخابي»، الذي يعني أن مرشح الإدارة تصنع له دائرته الخاصة من خلال تسجيل عدد من أصدقائه والمقربين له، بالإضافة إلى عدد من الأسماء الوهمية التي يتم إنزالها في هذه الدائرة أو تلك. ظلت السلطة هي من يكلف «بصنع» بطائق الناخبين والتحكم فيها. وظل أعوانها هم من يوزعونها، لذلك كان صوت السياسيين في هذه العملية مغيبا منذ تجربة سنة 1976 وما تلاها بعد ذلك من تجارب امتدت إلى 1983 ثم تجربة سنة 1992. غير أنه في أفق استحقاقات سنة 1997 ستضطر وزارة الداخلية للخضوع لضغط بعض التنظيمات اليسارية التي ظلت تطالب بضرورة تصحيح وتشذيب اللوائح الانتخابية بعد أن أصبح الحديث عن وجود أسماء الموتى بهذه اللوائح قضية رأي عام. وكان المطلب هو أن ترفع وزارة الداخلية اليد على هذه البطائق حيث سيتولى رئيس المجلس الجماعي المنتخب، أو من ينوب عنه رئاسة ما سيسميه الوزارة الوصية باللجنة الإدارية، والتي تضم في عضويتها ممثلا عن السلطة المحلية بصفته نائبا للرئيس، وعددا من الأعضاء سواء المنتمين للمجلس الجماعي، أو الذين يقترحون من خارج المجلس. انطلقت عملية إعادة التسجيل وفق نظام محدد يفرض توفر شرط من شروط ثلاثة لكي يكون من حق هذا الناخب أن يسجل في دائرة انتخابية ما. أول هذه الشروط هو السكن في الدائرة، أو الازدياد بها كشرط ثان، أو أداء أية ضريبة في ترابها كشرط ثالث. وفي المرحلة الثانية، يحق لكل مسجل في اللوائح الانتخابية أن يطعن في اسم مسجل آخر إذا ثبت لديه أنه لم يحترم شرطا من الشروط الثلاثة، لتقوم اللجنة الإدارية بالتشطيب عليه. أما في المرحة الثالثة، فيحق للمشطب عليه أن يرفع شكواه للجنة نفسها، التي يمكن أن تضيف لعضويتها بعض المؤهلين للبت في بعض الخلافات، وقد أصبحت تسمى «لجنة الاستئناف». قبل أن يضطر المتضرر في نهاية الرحلة لوضع شكاية لدى المحكمة الإدارية التي تنظر في تسجيله، ويكون حكمها ملزما للجنة الإدارية. شكلت هذه العملية، رغم تعقيداتها، نقطة ضوء. وتمت تنقية وتشذيب عدد من اللوائح الانتخابية لتكون نظيفة بشكل يضمن للاستحقاقات قيمتها. غير أن العملية لم تسلم من بعض حالات الإنزال هنا وهناك، خصوصا وأن رئاسة اللجنة أوكلت لرئيس المجلس الانتخابي، وأن نائبه هو ممثل السلطة المحلية. وإذا استحضرنا أن عددا من المجالس المنتخبة كانت متوافقة مع ممثلي السلطة في كل شيء، فقد ظل صنع دوائر بعينها لفائدة مرشح الإدارة سهلا. وعاد الكثيرون يتحدثون عن هذه البطائق الانتخابية التي توظف في الوقت المناسب. وعلى الرغم من إعمال نظام اللائحة ابتداء من استحقاقات 2002 حيث قلت عمليات البيع والشراء التي ظلت تعرفها الاستحقاقات السابقة، إلا أن العارفين بتقنيات التزوير اخترعوا صيغة شراء بطائق الناخبين، حيث يمكن لحي أو دوار أن يفاوض من أجل بيع بطائق كل المسجلين في اللوائح الانتخابية لفائدة مرشح لكي يوظفها يوم الحسم، خصوصا وأنها لا تحمل صور الناخبين، ويمكن لحاملها أن يصوت كل مرة في مكتب تصويت. اليوم تغيرت الصورة نسبيا مع دخول البطاقة الوطني كشرط أساسي في العمليات الانتخابية مما سيقلص من صور الفساد، التي راهن نظام الانتخابات المعتمد على اللائحة، على القطع معه دون أن يقوى على ذلك. غير أن هذا لن يكون كافيا لكي نضمن استحقاقات نزيهة وشفافة. فما يزال شراء الأصوات حاضرا بقوة خصوصا في البوادي والمداشر ومحيط المدن الكبرى. وما تزال الإدارة تمارس حيادها السلبي في الكثير من المناسبات، على الرغم من أن ملك البلاد نبه لذلك في أكثر من مناسبة. وما يزال تجار الانتخابات هم الذين تستهويهم مثل هذه المحطات أكثر من غيرهم. هي خطوة مهمة وجريئة أن تعوض البطاقة الوطنية، في الاستحقاقات، بطاقة الناخب. غير أنها خطوة لا تكفي من أجل أن نصبح غدا على استحقاقات نزيهة ونظيفة. هكذا تفوز بمقعد انتخابي نظريا، يشكل الرأسمال الرمزي للمرشح، أي مرشح للانتخابات في المغرب، عنصرا حاسما في كسب المقعد الانتخابي، بموازاة مع ما يقدمه من برنامج انتخابي إجرائي وقابل للتحقيق، وما يجر خلفه من تراكم نضالي يفترض أن يستمده من تنظيمه السياسي. غير أن واقع الحال يفرض أشياء أخرى تكون في الغالب هي الأكثر حسما في كسب المقعد، وربح الرهان. اليوم، لم يعد الحصول على التزكية الحزبية للترشيح للانتخابات سواء أكانت جماعية أو تشريعية، قضية تحسم فيها مجالس الفروع أو مجالس الأقاليم، خصوصا حينما يتعلق الأمر بتنظيمات سياسية لا تشتغل بهذه الاختيارات. ولكن للحصول على التزكية الحزبية في مغرب اليوم، يحتاج المرشح لما يكفي من ضمانات مالية قد تصل أحيانا لرشوة كبار الحزب. ولم يعد الأمر سرا بعد أن افتضح أمر عدد من الأمناء العامين الذين وزعوا التزكيات بالمقابل. غير أن أكبر الضمانات هي أن تتوفر في المرشح ما يكفي من مؤهلات للفوز بالمقعد الانتخابي حتى خارج كل الضوابط. لذلك أضحت لجان التأهيل تجيب على سؤال مركزي واحد: هل يتوفر المرشح على كل حظوظ الفوز بالمقعد الانتخابي في هذه الدائرة أو تلك، حتى وإن لم يكن مناضلا في صفوف الحزب، أو كانت له أخطاء سياسية، أو جاء من تنظيم سياسي مختلف إيديولوجيا. المهم هو أن يكون قادرا على كسب المقعد. وكسب المقعد الانتخابي في مغرب اليوم لا يتحقق بالبرنامج، ولا بكاريزمية المرشح، ولا بالتنظيم السياسي الذي ينتمي إليه، بقدر ما يتحقق بما يتوفر عليه المرشح أساسا من إمكانيات مالية مهمة، ومن قدرة على حسن توزيع هذه الإمكانيات. دون التفريط في دعم السلطات، أو ضمان حيادها على الأقل. لقد جرب حزب الاستقلال، الذي يوصف بأنه حزب الانتخابات بامتياز، وصفة منح التزكية لكل من تتوفر فيه شروط كسب المقعد الانتخابي الذي يصبح الهدف الأكبر. وسارت على نهجه كل التنظيمات السياسية الأخرى من الحركة، إلى التجمع، إلى الاتحاد الدستوري. ولم تكن سيرة المرشح هي التي تحدد حصوله على التزكية، بقدر ما كانت قدرته على كسب الرهان. في حين ظل حزب مثل الاتحاد الاشتراكي يقول في أدبياته إن الانتخابات تشكل واجهة من واجهات النضال السياسي، قبل أن يركب هو الآخر موجة كسب المقاعد حينما قام بفتح أبوابه فيما عرف بسياسة الانفتاح. وهي السياسة نفسها التي سرت على جل الأحزاب السياسية اليوم التي بدأت أجهزتها التقريرية وطنيا وجهويا وإقليميا تبحث عمن يكسب المقعد أولا. حينما تهل تباشير الاستحقاقات الانتخابية، يفترض في المرشح أن يضع الإمكانيات الكافية لمعركته. وهي إمكانيات نادرا ما يصرفها التنظيم الحزبي. فالمرشحون الطامحون في الدعم المالي لأحزابهم غالبا ما يحرمون من التزكيات. لذلك كثيرا ما تندلع المواجهات بين أبناء الحزب وبين القادمين من خارجه والمستعدين لخوض المعركة بدون دعم حزبي. في عز الحملة الانتخابية، يجب على المرشح أن يضع ما يكفي من سيارات بحسب شساعة الدائرة الانتخابية، والتي غالبا ما تضم جماعات فيها الحضري والقروي. ويفترض في كل حالة أن يتوفر اللوجيستيك الكافي. زد على ذلك أن لكل سيارة وقودها وفريق العمل الذي يحتاج لمصروفه اليومي. لقد انتهى عهد لجان الدعم والمساندة التي كانت تتكون في العادة من شبيبة الحزب ومناضليه. اليوم هي لجان خاصة تقوم بمهمة في الزمان والمكان حتى دون أن تقتنع بسياسة الحزب، ويفترض أن تحصل بالتالي على حقوقها المادية، على الرغم من أن هذه اللجان لا تقوم بالدعاية لبرنامج الحزب، ولكنها توصل للناخبين صور المرشح ولونه السياسي فقط. يفترض، ضمن سلسلة المعركة خلال أيام الحملة الانتخابية، أن يعقد المرشح في كل قبيلة أو جماعة أو حي ما يصطلح عليه ب» الليلة» التي لا تكون في عمقها من أجل عرض برنامج الحزب، ولكن من أجل التوافق على ما يستطيع المرشح أن يقدمه لناخبيه اليوم وليس بعد أن يحصل على المقعد الوثير. وهي ليلة تقدم فيها أطيب المأكولات والمشروبات لضيوف المرشح. ويتكلف كبير الجماعة أو القبيلة بالتفاوض، بعد أن تكون جماعته قد عرضت ما تتوفر عليه من أصوات. المثير هو أن «ليلة» الانتخابات ينظمها كل المرشحين وفي جل جهات الدائرة الانتخابية، على أن يكون الحسم يوم الاقتراع لمن يدفع أكثر، ولمن أكرم أكثر. في هذه «الليلة» تباع الأصوات وتشترى. ونادرا ما يتراجع المصوتون عن التزامهم بعد أن يكون كبيرهم قد حسم في الأمر. وحينما كان التصويت يتم خارج البطاقة الوطنية، فقد كان المرشح يتوصل بكل بطائق الانتخاب قبل موعد الاقتراع لكي يضمن أصواتها. اليوم ومع إعمال التصويت بالبطاقة الوطنية، يمكن أن تنوب عن بطاقة الناخب نسخة من البطاقة الوطنية. لا يقدم الناخب خلال الحملة الانتخابية، التي قد تتواصل لأسبوعين برنامج حزبه ولا ما ينوي القيام به إذا كسب المقعد، ولكنه يحاول في كل المحطات التي تجمعه بناخبيه أن يقنعهم بأنه الأفضل، وأنه مستعد للدفع. لذلك يسجل أن نسبة المشاركة في جل الاستحقاقات تكون ضعيفة بسبب أن المستعدين للاستفادة الدفع هم من يذهبون لصناديق الاقتراع في الغالب، فيما يفضل الغاضبون وغير المقتنعين مقاطعة هذه الصناديق. خلال يوم الاقتراع، تحسم الكثير من الأمور. ففي هذا اليوم المشهود يمكن لسهم هذا المرشح أن يصعد، كما يمكنه أن ينزل أرضا. في الدوائر الانتخابية الشاسعة، يفترض في المرشح أن يوفر ما يكفي من شاحنات وسيارات لنقل الناخبين إلى مراكز التصويت. بل إنه مطالب بتوفير وجبات أكل لهؤلاء. وكل تأخير يعني أنه يفتح الباب لمرشح آخر يقوم بالمهمة وقد يكسب الأصوات المنتظرة. في يوم الاقتراع، تصبح مراكز التصويت هي محور كل العملية. ففي محيطها يمكن أن تتغير الكثير من الأمور. وبداخلها قد تتغير الصورة. هنا تلعب لجان المساندة دورها في إقناع الناخبين بجدوى التصويت على المرشح المفضل. وهنا يمكن أن تنشط عملية شراء أصوات آخر ساعة. وهنا يفترض حماية الناخبين من تدخل الخصوم. ولذلك كثيرا ما تندلع المواجهات عند مقربة من مكاتب تصويت. بل من محيط مكتب التصويت يمكن أن تحدث أكثر من مفاجئة. لذلك يضع المرشح لهذا اليوم برنامجه الخاص لأنه يشكل الخطوة الأخيرة في سباق الألف ميل. الفوز بمقعد انتخابي في مغرب اليوم لا تحسمه كاريزمية المرشح ولا برنامجه الانتخابي ولا انتماؤه لهذا التنظيم السياسي أو ذاك، ولكن تحسمه أشياء أخرى لعل أولها هو ما يتوفر عليه المرشح من إمكانيات مالية لشراء الأصوات، تصبح أقوى من أي رأسمال رمزي. وتصبح هذه الإمكانيات هي المبرر الذي يقدمه الناخبون الذين لا يخفون أنه لم يتحقق شيء من كل التجارب الانتخابية التي مرت، والمستعدون لبيع أصواتهم.