محمد بلمو كعادتي كل يوم، استيقظتُ باكرا في الخامسة صباحا، لأنّ ضرورات العمل جعلتْ ساعتي البيولوجية مبرمجةً على هذا التوقيت، حتى في يوم العطلة.. تذكرت أن اليوم السبت 21 مارس هو «اليوم العالمي للشعر».. يقال والله أعلم؟ ليس لي في الحقيقة برنامج خاص واستثنائي لما تقتضيه المناسبة، التي ليست شرطا لأحد ما دامت تتعلق بهذا الغريب المتغرب على أرض الغربة والغرابة: أي الشعر. كل ما في الأمر أنني سأنتظر استيقاظ الأسرة بعد ثلاث ساعات على الأقل كي أتناول فطوري، وأنطلق نحو قريتي، حيث لا يحتاج الشعر ليوم عالمي كي يحتفي بعزلته المضاعفة، ففي القرية على الأقل ثمة ربيع حقيقي ملموس لم تسرقه بعد عصابات الظلام لتحوله ببداوتها الهمجية إلى خريف مثخن بالجراح وجثث القتلى بعدد من عواصم ومدائن العالم العربي، وفي القرية كذلك ما يليق بالشعر من صمت وهدوء وتلقائية، بعيدا عن مظاهر التصنع والضجيج المخترقة للعديد من التظاهرات التي تحتضنها مدن بالمناسبة، وفي القرية أيضا ما يكفي من ألوان الربيع كي يطلق الشعر عصافيره دون خوف من فلول هذه المدنية الكاذبة، المنافقة والطاحنة.. أن يحظى الشعر ب«يوم عالمي»، لا يعني بتاتا أنه سيحظى مثل أيامٍ عالميةٍ أخرى لأشياء أخرى بالكثير من الاهتمام والرعاية والاحتفال.. ففي بلادنا السعيدة لم تُعِرْ أي وسيلةٍ إعلامية سمعية بصرية اهتماما استثنائيا بالشعر و«يومه العالمي» المزعوم، بل منها من لم يشر إليه حتى من باب الإخبار البارد… وبالكاد وجَدَتْ جريدةٌ يوميةٌ ما يكفي من أخبار حوله لتسويد بياضِ صفحةٍ واحدةٍ من ملحقها الثقافي، أما الأسبوعيات فقد تغاضت تماما عن الموضوع… إحداها تخصص في كل عدد صفحتين كاملتين للسينما وطز في الشعر والقصة والكتاب… أحد رؤساء التحرير لا يتعب من تذكير قرائه بأن الشعر قد انتهى منذ زمان، وأنه لا يستحق أكثر من جنازة رمزية، وليذهبِ شعراءُ اليوم إلى الجحيم، والمفارقة أن هذا الحداثي العظيم ينسى أنّهُ فقط يُلَوِّكُ مقولةً بالية ورجعيةً لا يتعب صديقي القروي الأمي من ترديدها كلما تعقدتْ عليه الأمور بلهجة دارجة: «ما خلاّوْ الْوَالا للتْوَالا ما يْقُولُو».. ولو ترجمنا هذه المقولة إلى العربية الفصحى، لكان على مِثْلِ هذا الحداثي الصنديد أن يستقيل من حداثته وعمله معًا مادام الأولون لم يتركوا له شيئا ليقوله أو يدبجه في جريدته.. أما التظاهرات التي تنظم بالمناسبة فإن أغلبها يقتلُ الشّعرَ عوض أن يحتفي به، ويُنَفِّرُ الجمهورَ منه عوض أن يُحَبِّبُهُ إليه، كما لو أن هناك اتفاقا ضمنيا لنصب مقاصلَ للشعر تحت ذريعة الاحتفاء به بمناسبة «يوم سلخه العالمي». هذا، والنتيجة أنك تجد في الغالب برنامجا يُكَدِّسُ الشواعر والشعراء في جلسة واحدة، يكاد كل واحد يمحي متعة ما ألقاه الذي قبله، فيخرج في النهاية المتلقي النادر خاوي الوفاض، وفي الكثير من الأحيان يتشبث بعضهُم بالمنصة تَشبُّثَ الديكتاتور بكرسيه، ينهال بأريحية مدحا في المنظمين والمدعمين والجمهور القليل جدا وحتى العابرين بجانب القاعة، قبل أن ينتقل إلى مقدمة طللية يتحدث فيها عن تجربته العصماء ونصوصه التي نشرت والتي لم تنشر، ليبدأ في تلاوتها الواحد تلو الآخر بطريقة رديئة، دون أن يفكر أن عددا من فصيلته ينتظر دوره في طابور طويل لقراءة ما كتبه أكان شعرا أو ادعاء.. وتكتمل عملية سلخ الشعر وتعذيب الشعراء عندما يستغل بعض الأشخاص صفتهم التنظيمية ليعلنوا فجأة أنهم أصبحوا مع توالي دورات مهرجانهم شعراء فطاحلة ونقادا مبرزين، لإجبار ضيوفهم على الإنصات لتُرَّهاتِهم، هم الذين لم يسبق أن كتبوا سوى تقارير جافة عن أنشطتهم البعيدة عن المجال، قبل أن يركبوا موجة «اليوم العالمي لسلخ الشعر». ورغم أن بعض الهيئات تعاني حقيقة من أجل تنظيم ملتقياتها بالمناسبة، رغم ضيق ذات اليد وبخل القطاعين العام والخاص، فتلجأ إلى استعارة أو تبادل عدد من الشعراء الأجانب، في إطار الالتفاف على ميزانيتها المتواضعة وأيضا لضمان طابع عربي أو دولي لتظاهراتها، فإِنَّ تسيُّبَ بعض المتطفلين على الشعر في يوم تعذيبه العالمي، ينتج مفارقات غريبة تسيء للشعر والشعراء والمناسبة معا، ففي إحدى دورات مهرجان شعري متواضع ينظم بمدينة صغيرة لا يكاد سكانها يسمعون أخباره، حدث أن تم تكريم شاعر عربي، تطوع لتوزيع نسخ من آخر مجاميعه الشعرية على الشعراء المدعوين، فما كان من المنظمين إلا أن طالبوهم بإرجاع تلك النسخ التي أهداهم إياها الشاعر العربي المحتفى به إلى الجمعية المنظمة، ومن أغرب ما حدث أنهم احتجزوا البطاقة الوطنية لأحد الشعراء وأخبروه أنهم لن يعيدوها إليه إلا عندما يعيد لهم نسخة الديوان، فهل الشعر نفيس وغالٍ إلى درجة تدفع جمعية إلى أساليب بوليسية من أجل إجبار شاعر في مهرجان شعري على التنازل عن ديوان شعر مهدى إليه، أم أن الشعر هنا مجرد صهوة لركوب الموضة من أجل تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها به؟ هنيئا أيها الشعر… لا عيد لك فؤاد شردودي.. بين حدود الشكل واللون شفيق الزكاري استنادا لتطور طبيعة الأشياء، وخضوعا لمنطق التحول، لا يمكن أن نتناول تجربة الفنان فؤاد شردودي إلا من هاتين الزاويتين، تجربة عرفت مسارا تصاعديا، وضع فيها الفنان اهتماماته في محك اختيارات صعبة في ظل التراكمات المشهدية التي تعرفها الساحة التشكيلية المغربية والعربية. جاء من الكتابة والشعر محملا بأسئلة ثقافية مقلقة اعتمدها كمرجع تأسس عليه مشروعه التشكيلي، مرتحلا بين الكلمة والصورة، يغرف من جمالية الصورة الشعرية، ليعطي لعمله نفسا جديدا تتعدد فيه الرؤى بخيال منفتح على آفاق جمالية متنوعة، فإدراكه الحسي بأهمية الصور المخيالية والبلاغية كشاعر، أولا، جعلت عمله الإبداعي كتشكيلي في فترة لاحقة، سندا لأسئلة جوهرية، جمعت بين الفكرة كمعنى والممارسة كتقنية. فانطلاقا من مرجعيته المتعددة، يمكن إحالة تجربته في شموليتها على ثلاث مراحل بأسئلتها كتراكم سجله عبر محطات شكلت زمنيا، توقفا تأمليا في طبيعة عمله مع الحفاظ على النسق الرابط بين كل محطة على حدة، فبعدما نسج أيقوناته وأشكاله وملونه انطلاقا من رؤية جمعت بين التشخيص والتجريد، في أقصى تجلياتها، بما تحمله من أسئلة وجودية وإنسانية عبر الجسد بثنائيته التي يختزلها الظل والضوء، وتحديده بخطوط داكنة تأكيدا على علاقته بالمكونات المحيطة به من عناصر تجريدية انسيابية، فوق سند لا حدود لسقف الرؤية فيه لعمقه وبعده الذي اتخذ فيه اللون وظيفة جمالية جمعت بين كل الألوان الممكنة بشكل متناسق، وبين الخدعة البصرية التي جعلت هذا العمق مسرحا لحركة غير مرئية لا يمكن الانتباه إليها إلا من خلال حس مرهف مدرك للباطن، أصبحت تشكل هذه الرؤية في وعيه الجمالي ضرورة حتمية للانتقال إلى تصور إيجازي minimal على مستوى اللون والمادة، لينتقل من ملون خضابي بتفرعاته وتدرجاته الغنية بمشتقات الألوان إلى ملون محدود لا يتعدى أن يكون في بعض الأحيان ثنائيا منوكروميا، اختزله في ظل الأسود القاتم وإشراقة الأبيض الساطع وما بينهما من تدرجات رمادية تكاد تصبح الجسر الوحيد والأوحد للعبور إلى عوالم الانتقال من التشخيص إلى التجريد كليا، معتمدا على المحو وإعادة البناء بتقنية جدارية تفاعلت مع عوامل التعرية، لتجعل السند مدخلا لأيقونة تتجاوز حدود الأبعاد الثلاثة (الطول والعرض والعمق) إلى بعد رابع في مرحلته الثالثة، هو: الحركة. إن مغامرة الفنان شردودي الحالية تدخل ضمن تجربة تجريدية تعبيرية بعيدة عن حيل وخداع وتمويه الأسلوب والإقرار به، كما أشار إلى ذلك الفنان الهولندي وليام دوكونينك، لأنه يشتغل شعوريا وعفويا بجميع الأساليب ليكسب عمله طابعا شخصيا يقترب في تصوره النظري من تجربة الفنان الألماني جيرار ريشتر. فإذا كان التحليل السيميائي يقوم على البنية الخطابية مع تفكيك الدلالات والرموز، كمعجم بسياقات تخضع للمسار التصويري، فإن الوحدات الدلالية التي تساهم في التوصيف تكاد تكون غائبة في العمل الأخير للفنان شردودي، بعدما قام بهدمها ليعيد بناءها من منطلق ذهني افتراضي لدلالات أيقونية تجريدية تجمع بين الظاهر والغابر وبين الواضح والضبابي، بثنائية لونية جعل السند من خلالها مسرحا لتضاربات وتقاطعات لونية يصعب تجميعها، مع احتمالات تشخيصية مشهدية ملتبسة مرئيا. وحتى لا نبتعد عن العملية التحليلية في نظام الوظائف في مجال تحليل الصورة، ودراسة الألوان، بتمظهراتها المشهدية، فإن تجربة شردودي شكلت فوضى مرئية عارمة ومنتظمة في نفس الوقت، ناتجة عن فعل عفوي من جهة، ومراقب ومحكم ذهنيا من جهة أخرى، أفرز تكوينات متوازنة تتجاوز الأمكنة إلى فضاءات تعج بحركات خطية ولونية غنائية، أكدت حضورها بقوة لتثبت مصداقية صيرورة إستيتيقية عبر منهج تشكيلي متسلسل في تعامله مع كل المكونات الجمالية للوحة التشكيلية. دهشة الوصول صدوق نورالدين الآن أنت هنا. في مكان غير المكان. مكان لم يخطر في حلمك يوما أنك ستحله لترى حياة جديدة..حياة خارج ما ألفت وآلفت. الآن أنت هنا في المدينة الصغيرة المكللة بجلال البياض وإيقاعات الصمت الرهيبة. كأن المدينة قدت من حجر صامت، أو أنها صعدت للتو من الماء واغتسلت في بياض يلبس الأرض. بياض لا يعترف بالتراب. بياض شمعي قطني أينما رميت سهم نظرك ألفيته يتربع تفاصيل الزوايا ودقائق الفضاء. بياض ينث. ينفث برودته في الخارج ليعانق الكل في ذروة النشوة الباردة. وفي الداخل ومهما جاهدت كي يغيب جسدك داخل دائرة الاحتماء من سلطة البياض ورهبة البرد فإنك تتحايل على براهين القدر لوقت أوجز من بلاغة الوجيز، لتجد ذاتك تسابق الريح، وقد غطت النتف ما تدثرته من لباس خلته يقيك نأمة البياض ولسعات البرد. أنت الآن هنا. ليلة البارحة فقط أضحى المكان غير المكان. كنت. وكانت. كنت توقع الخطو على أرضية الحمراء، وقد أشعلت الشمس نار حرارتها ولما يطل الربيع بعد. وحدها مراكش تسربت هاربة من مدونة مدن العالم لتكتب قصائد فرادتها بحبر الخضرة والطين. كانوا كما رأيتهم. هنا وهنالك. يجوسون الأمكنة ويتعقبون الشمس حيثما قيض لها أن تشرق. كانوا هنالك. الآن أنت هنا. أتراها لعبة حبكتها أيادي الغيب؟ أم أنك آثرت ركوب فرس اللحظة لتحل ميادين عبرها القراصنة ذات زمن؟. ليلة البارحة لم تنم. رأيت في حلمك الأشياء كلها. رأيت أنك لم تعد أنت. وأن طائرا لم تهتد لنوعه يحملك من مكان لآخر. ورأيت الشقر يحتفون بلغات العالم. كل شيء تغير. لبس جلدا غير الجلد. وأما أنت فلم تأل جهدا في أن تعايش ابتكارات الزمن. أتذكر. أتراك تذكر وقع المطر ليلة البارحة. كان أغرقك في بحر المفاجأة غير المتوقعة. وكنت. كنت أمضيت بياض نهارك ترى من شرفة غرفتك بالفندق الأجساد الشمعية استرخت على رصيف المسبح، فيما الماء يقتات على راحته في انتظار أجساد أطفال يبللها، حتى أنك خلت يوم سفرك بالذات، وأظنه السبت صباحا، مطيرا لا محالة كما دونت أحوال الطقس تخميناتها في الهزيع الأخير من خريف حاد البرودة. إلا أن ما كان انتهى عكس ما حلمت. فما تلقفه سمعك من وقع المطر فقفزت راميا نومك الخلف لتراه، انمحى في الغد كأن لم.. كأن لا مطر مر من هنا. إذ سرعان ما باغتتك خيوط الحمراء الذهبية التي لا تشبه في شيء بقية شموس العالم. فمن نافذة سيارة الأجرة، تعقبت طفولة نهار جديد في مراكش عبر مشاهد هي إيقاعات بطيئة بث البياض أشعتها. عندها فكرت في أنك لا يمكن أن ترى شمع أجسادهم يتلون أو يحترق، وهم الممددون، فيما الحارس ببدلته مزيج السواد البني يحرسهم وقد اغتالت أجسادهم شهوته لما رأى حلما واستلذ. لن ترى من شرفة الفندق ما سبق وكان، لكنك ستشاهد البياض. وستبدو مراكش صغيرة من الأعلى حيث قيض أن تحلق لثالث مرة في حياة تزحف نحو الانطفاء. الآن أنت في مطار المنارة، تبحث كالتائه عن تثبيت هوية وقطف حلم راودك متأخرا لبلاد البياض، حيث يغني الليل سقوطه الصامت، فإذا أنت غير قادر على تمييز انطفاء زمن وبداية ثان. كان الصف طويلا لما انتظمت. لم تنته لمسمعك غير رطاناتهم التي لا تفقه منها شيئا، فيما الضحك يجلجل الفضاء. لحظتها أدركت بأن هؤلاء سيكونون رفاق سفرة بمقاييس الزمن أربع ساعات. قد تكون سقطت في دائرة الخطإ معتقدها خمسا. إلا أن الدانماركية الجالسة يمينك وزوجها، نبهاك إلى ضرورة إضافة ساعة لوقتك المغربي. أنت الآن تجلس في المقعد رقم 1 بالدرجة الأولى، قادك إليه حرير أناملها. أنامل المضيفة الشقراء التي عجنت من بسمة لم تتوقف إلا والطائرة النرويجية تحط بمطار كاستروب اليكاد يكون فارغا، وكأن لا أحد بعد اليوم سيسافر. وأمامه بالضبط توقفت. الجمركي بقميصه الأزرق الفاتح وربطة عنقه الزرقاء السائلة وعويناته الدقاقة في جوازك، إلى أن ختم وابتسم. لحظتها اهتديت لكون مراكش انتهت إلى ثقب في الذاكرة فيما البقية ستشغلها فضاءات السويد المفتوحة ساحاتها على أقدام ترسم الخطو في هدوء. في محطة القطارات الواسعة كانا: التيباري بقامته الدكالية الطويلة ورأسه الأصلع، والمراكشي الذي فاضت أسئلته عن الحمراء والجو والناس وساحة جامع الفنا وأماكن الشواء التي تفوح رائحة عطانتها. كانا هنالك. وكالخائف كنت. كانا يغزلان انتظارا في خفة ريشة. رأيتهما يتكئان على الحاجز الحديدي يقرآن الوجوه في انتظار العثور على الظل الهارب من شمس الحمراء إلى هنا، حيث البياض يسود مملكة الحياة. كانت اللحظة قوية. وفي أثنائها أحسستك كائنا آخر في زمن ومكان. لم تعرف كيف تتالت الصور، واستعادت الذاكرة ما كنت قرأت من كتابات الشرق عن الغرب.وها أنتذا تدبج ما يمكنه أن يشكل إيقاع امتداد لما حبرته أقلامه ودمغته من سير، رحلات، مغامرات، تيه، مفارقات، جنون وتصدع. لاحقا ستخاطب سعيدا بالقول: في السويد من لا يتمالك نفسه يسقط في بئر الجنون.. داخل المحطة لم يطل انتظار القطار العابر محمولا على الماء من كوبنهاكن إلى مالمو، فلوند، حيث صمت لينيرو يترقبك. التدفئة حارة وأنت ترى الماء يشف يمينا ويسارا وكأني بك فاتح تأخر به زمن امحى قراصنته. كالمأخوذ كنت. ترى المشاهد تتسابق حتى إذا ما التفت قابضا أيا منها انفلت خيط رمل. وعلى اليابسة لفتا نظرك للعمارة الملتوية. لم يدركا حينها أن خيال المعماري الإسباني تفتق عن رقصة الجسد الإنساني. كانت قائمة في الهواء، إذ بين طابق وثان فجوة مفتوحة تحركها أصابع الريح..كأني بها ترقصها، وبالعين تسقط في خدعة لانهائية.. أدرتم الظهر لمحطة القطار. طوت الدانمارك في الغياب لحين عودة. تماما بعد شهرين أمضيتها على شفا الجنون: ساحات مفتوحة، محال تجارية، مطاعم، مقاه، مكتبات عامة، خاصة، حافلات، قطارات وحركية شارع تسامى في الفراغ وكأن لا أحد يسكن الجنوب في مساحاته الفارغة المكللة بالبياض نهاية خريف، فيما الأشجار العارية سيقانها تتعقب خضرة يد أبريل دون أكاذيب.لاحقا سيهمس في أدنيك المراكشي بأن زعيما حزبيا من يسار حقيقي نده بأن مملكة الحياة في حاجة لأزيد من أربعين مليونا من الساكنة. في المقعد الأمامي للسيارة جلست. المراكشي يجيد تقطيع الطرقات، الممرات وكأنه ولد هنا. المشاهد الطبيعية تتناثر أوراق ليمون تقشر. منازل متباعدة قائمة في العراء مفتوحة على الصمت والثلج. لا أحد يرى أحدا. أو ربما يعرفه. الحدائق الصغيرة في الأمام بساحاتها وكراسيها الخشبية وفسحات لعب الأطفال. في الأعلى يرسم القرميد لونه الأحمر الأخضر على صيغة مثلث سال بندف ثلج ذابت خيوطا يتصيد سمعك همس مائها الأثير. الأحد. صبيحة الأحد احتواك فضاء ساحة القطارات بنتوريات. كانت تدب سلحفاة بامتدادها الفارغ العميق.على يمينك مطعم كودست، وعلى عتبة بابه سبورة دونت عليها بالأبيض محتويات طبق اليوم، إلى السعر المحدد. وأما محطة القطارات التي لا تتوقف، فكانت إلى موقف خاص بالدراجات العادية جانبها، فلا يكاد يفصل سوى الإسبريسوهاوس، حيث انتقى بن الصباح الفائح الرائحة الجلسة الأولى. لم يكن الإسبريسوهاوس مقهى عاديا.كان يموج في بهاء التقليد. أشبه بمضافة داخل بيت كبير. لوحات كلاسيكية علقت بذكاء يد على الحيطان. بضع مقاعد وطاولات عادية متباعدة. كراس بنية على نمط أسرة، وطاولات بخشب عتيق ثبت بمسامير قديمة، كما لو أن أبواب جنوب المغرب التي نهبها المفسدون نبتت هنا فجأة. على يسار الكراسي في الأعلى صناديق من خشب رتبت مائلة إلى اليسار، وزينت بشموع ملونة، إلى مكتبة صغيرة تذيب الفراغ. كانت الإسبريسوهاوس مقاه في مقهى..وعلى الزبون انتقاء جلسته في الزاوية التي توقظ خياله. كانت دون رصيف يزعج المشي والعين وزبائن يثرثرون متفرجين على مؤخرات نساء عابرات. على يسار الساحة المحال التجارية الملتصقة بعناوين ووظائف. من بعيد، على مقعد خشبي أخضر، عبق الفضاء بموسيقى قيثارة. الرجل الطاعن ذو الشعر الفوضوي واللحية الثلجية يغني. كان يغني دون أن يعبأ بالذاهبين أو الآيبين. أشبه برحالة مكسيكي انتهى به المطاف هنا. بعد أسبوع، سيلفت نظرك آخر في مالمو بقامته القصيرة وسحنته السمراء يرتب طفولة صبح تأخر، فيما شمس مارس المريضة ترسل أشعة باردة كانوا يحسونها تضيء أجسادا شاخت في بياض الثلج لينثروا عراءها الأبلق في الساحة محتفين بربيع يتدرج في بث علاماته في كل مكان. ظهيرة الأحد فاتحة ظهيرات شهر ونصف أمضيتها ترتب جغرافية المكان بعيدا عن التفكير في كون الزمن سيخطئ مواعيده. ومن النافذة رأيت. رأيت سحر لينيرو الخلب وقد تربعت على بقايا بياض ذاع، وأشجار تعرت سيقانها السامقة إلى أن يحكي الربيع عودة خضرة تروي جوع عين لدفق امتلاء بلا نهاية. لاشيء سوى الصمت. كأن لا أحد يشغل الأمكنة أو أن الأمكنة افتقدت إحساسها بمن يشغلها. صمت الأشياء. الكائنات، والفراغ النابض بحياة هي الحياة في مملكة الحياة. الآن بدأت تحس بأنك ترى وتسمع. ترى ما سبق وتعرفته في جرائد ومجلات وأفلام وثائقية. وتسمع (أترى كنت تسمع؟) حقيقة صمت قرأت عنه في محكيات بنكهة عالمية. كأنه «صمت البحر» أو «الصمت».. أنت الآن هنا، في مكان غير المكان.لأزيد من شهر وأنت غارق في دائرة الحيرة والتردد والشك. إلا أن صوتها أيقظك لينتشلك من الدائرة ويدعوك لأن ترى ما يمكن ألا يجود الزمن به يوما.وحده صوت هدى أشعل نار نباهتك لضرورة ركوب حلم حرصت على أن تحياه منذ اليوم الثالث من حلولك، حيث باغتك سعيد بالسؤال: أنت في الطريق للمدينة وحدك؟ وكان أن تداعت الصورة الدمشقية. صورة الشاعر محمد يرى أن التيه الدمشقي يفسح مغامرة الضياع. ضياع المسافر فيما يعرفه ولا يعرفه. غربة السفر في المدائن المجهولة، حيث يتأتى ليقظة الضمير أن تتعقب التفاصيل وتقرأ العلامات وتقارن ليظل السؤال النابض: أتراني تعرفت هذه الأمكنة أم أتعرفها لأول مرة؟ في بوتولوف بلاستن، ساحة الحافلات كدت تضيع. لولا أنك أعدت تركيب جغرافية المكان. في الوسط محطة الحافلات المنتهية من جميع النقاط. وعلى اليمين اليسار مطاعم عربية وسويدية. وبعيدا تتراءى معالم ساحة تناهت في الفراغ إلا من باعة للخضر والفواكه. هي اللوحة ذاتها التي خطط رسم تجلياتها التيباري بقامته الدكالية الفارعة. وها أنت تعاود القبض على التفاصيل. ومثلما لم تخطئها في اليوم الثالث، فلن يحدث امتداد شهر ونصف. تقف وظهرك إلى المطعم الإيراني في الخلف. وأما نقطة التوقف فمثبتة أمامك، وليس عليك سوى التطلع للوحة الإلكترونية لترى كم هي الدقائق المتبقية على وصول الحافلة.. مقطع من رواية «رأيت الملك» مفضل: هيمنة النخب الفرنكفونية على الساحة الثقافية يؤثر سلبا على تطور المعرفة قال إن الفيسبوك افتراضي في وجوده لكنه أصبح واقعيا في أثره حاوره: صدوق نورالدين يعتبر الدكتور محمد مفضل أحد الأساتذة الباحثين الذين يحفرون مسار عملهم في صمت، كما في جرأة نادرة تتأسس على دراسة ومقاربة التحولات التي تطال النظرية الأدبية، استنادا إلى حصيلة المرجعيات الغربية والعربية. وهو حاصل على الدكتوراه في الدراسات الأنجلوفونية، من جامعة بوردو سنة 2009. على أن اهتمامه تركز بالأساس على تجليات ومظاهر السخرية في الأدب، إلى متابعة التحولات المعلوماتية، متمثلة في الوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي. ويشغل حاليا منصب أستاذ التعليم العالي المساعد للغة الإنجليزية بجامعة شعيب الدكالي/ الجديدة، وقد صدر له عن منشورات أبي رقراق كتاب «السخرية في الثقافة الرقمية». في هذا الحوار يجسد محمد مفضل مدى اهتمامه بموضوع السخرية، كما يبين العوامل التي حذت به إلى الانشغال بالتاريخانية الجديدة، حيث يعتبر بأن مقاربة النص في عمومه لا تنحصر في الجانب الشكلاني المحض، وإنما تقتضي الانفتاح على أبرز القضايا التي يتناولها النص من حيث الأبعاد الخارجية. – صدر لك مؤخرا كتاب «الصخرية في الثقافة الرقمية» كيف انبثقت لديك فكرة تأليف هذا الكتاب؟. مباشرة بعد اندلاع الربيع العربي تغير سلوك الفيسبوكيين المغاربة وأصبحوا أكثر اهتماما بالنقد السياسي الساخر، وأبدعوا في إنتاج منشورات استعملت فيها مختلف أنواع الفكاهة والتهكم والسخرية. كان هذا التغير بالنسبة إلي، كباحث في موضوع السخرية الأدبية، فرصة لتوسيع مجال البحث الذي أقوم به منذ فترة ليشمل السخرية في الوسائط الجديدة، وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي. وقد اكتشفت عبر الملاحظة اليومية للمنشورات الساخرة على الفيسبوك أن لغة الحياة اليومية المستعملة في هذه المنشورات لا تقل قيمة من حيث التعبير الثقافي والاجتماعي عن اللغات الأخرى، وحتى من الناحية الجمالية فإنها تتميز بقدرة بالغة على المجاز والترميز والتعبير الساخر. كما أن لها خاصية لا توجد في اللغات الأخرى، هي قدرتها على تمثيل القيم الثقافية في سيرورتها الحياتية، وفي تفاعلها اليومي مع المعيش والتاريخ. كل هذه الاعتبارات وجدت في نفسي ما يدعمها، خصوصا تصوري لعلاقة المعرفة بالواقع المعيش، وتحديدا ضرورة البحث في الظواهر الثقافية والاجتماعية للكشف عن الأنساق التي تحكمنا ولفهم التغيرات التي تحدث في المجتمع. يعتقد الكثير من الناس أن دراسة الممارسة الساخرة الشعبية على الفيسبوك غير جديرة بالاهتمام والبحث الأكاديمي، وأعتبر هذا إقصاء في واقع الأمر لجزء مؤثر من الثقافة، وهو راجع لهيمنة التصور النخبوي للثقافة، المتعالي عن الواقع المعيش. على هذه الخلفية تولدت فكرة تأليف هذا الكتاب، وقد كان هذا الإنجاز ثمرة تحول في مسار البحث الذي أقوم به. – لكن، لماذا التركيز على موضوعة السخرية في الواقع الافتراضي، عوض الواقعي والحقيقي؟. الفيسبوك عالم افتراضي بامتياز، ويعتبر عالما موازيا للعالم الواقعي، الذي نعيش فيه ولا يمارس أي تأثير واضح عليه. كان هذا الاعتقاد هو المهيمن في الأوساط الفكرية والسياسية إلى حدود 2011، حيث فوجئ الجميع بالدور الذي لعبه الفيسبوك في تحريك الشارع وتوجيه الرأي العام والمساهمة في التغيير السياسي. لقد أدرك الجميع أن الفيسبوك، رغم كونه افتراضيا، يؤثر في الواقع الفعلي. يعتبر الفيسبوك افتراضيا في وجوده، لكنه واقعي في أثره، لأنه يساهم في تشكيل الوعي والسلوك الفردي والعام. ممارسة السخرية على الفيسبوك أكثر تأثيرا من السخرية الممارسة في أرض الواقع لأنها تستفيد من الإمكانات التقنية، ومن المناخ الذي توفره التكنولوجيا الرقمية. تنتشر المنشورات الساخرة بسرعة، ويتم تداولها على نطاق واسع. كما أن مناخ الحرية يجعل التعبير الساخر أكثر جرأة على انتقاد الوضع السائد، وأكثر قربا من المواطن العادي، ومن معيشه اليومي. أصبحت الحدود بين الافتراضي والواقعي ملتبسة وغير واضحة، وأصبح الخطاب الافتراضي، أحيانا، أكثر واقعية من بعض الخطابات المنتشرة في وسائل الإعلام. توجد في حياتنا عوالم متوازية في وجودها، لكنها مختلفة من حيث تأثيرها، وما نسميه العالم الافتراضي، اليوم، أصبح جزءا من حياة الناس، يشكل وعيهم ويمكنهم من التعبير عن ذواتهم. فلا عجب، إذن، أن نبحث في قدرة هذه العوالم الافتراضية على التأثير في الواقع المادي والفكري، فالتاريخ القريب أثبت أن تأثير هذه العوالم على الواقع أصبح حقيقة. – في هذا السياق، بالذات، ألا ترى بأن سخرية العالم الافتراضي (تكاد) تلغي الواقع والتاريخ، وبالتالي لا تستحضر سوى الكائن كفرد، كوجود وكعزلة؟. يعتبر الفيسبوك إحدى شبكات التواصل الاجتماعي، وهو مؤسس في الأصل على التفاعل بين الإفراد، أي أن البعد الاجتماعي حاضر بقوة، رغم الطابع الافتراضي للشبكة. تشكل ممارسة السخرية على هذه الشبكة تدخلا يوميا في الواقع وتعليقا على تطوراته، وهي فضاء يلتقي فيه الإبداع الفردي والخيال الاجتماعي بنصوصه وبنياته الثقافية. تصبح السخرية، بهذا المعنى، صيغة للفعل الاجتماعي، حاضرة وفاعلة في التاريخ والواقع. وبعيدا عن كل مبالغة أعتقد أن السخرية كما مارسها المغاربة على الفيسبوك في الأربع سنوات الماضية ساهمت في تحقيق بعض التغير الثقافي على مستوى بعض القيم (التشاركية وتقبل النقد ونسبية الحقيقة…)، لكن الأثر السياسي يبقى محدودا باستثناء دورها التحريضي خلال الربيع العربي . – أعتقد بأنك ركزت كثيرا على الناقد الروسي ميخائيل باختين في مقاربة هذه الموضوعة. لكن ألم تفكر في ميلان كونديرا وهو يتحدث بالذات عن رابليه في كتابة «الوصايا المغدورة»؟. صحيح، ركزت على ميخائيل باختين في مقاربة موضوع السخرية، وذلك راجع بالأساس إلى مساهمة باختين في انفتاح الخطاب على السياق التاريخي والاجتماعي بمقولاته المعروفة، كالحوارية والتشاركية والكرنفالية، في إنتاج ومساءلة القيم الاجتماعية والثقافية. ورغم أن تطبيقات باختين النقدية كانت في الأصل على الرواية (رابليه ودوستويفسكي)، فإن توظيف مقولاته النقدية من طرف النقاد تعدى مجال الرواية ليشمل كل الخطابات الاجتماعية والثقافية، فأصبح مرجعا للباحثين في السوسيولوجيا والنقد الثقافي. وبالنسبة إلى البحث الذي أنجزته، ربطت بين مقولات باختين والثقافة الرقمية من حيث كون هذه المقولات لبنة أساسية في تكون الثقافة الرقمية. فالعالم الرقمي هو تفاعل وتشارك وتعالق مستمر ولانهائي يتشكل داخله الوعي الفردي والاجتماعي، وتبنى داخله القيم والحقيقة في بعدها الحواري. لذلك كانت مقولات باختين مناسبة من الناحية المنهجية لدراسة السخرية في الموقع الاجتماعي الفيسبوك. أما مقاربة كونديرا فتبقى أدبية محضة، ويبقى مفهومه للفكاهة، مثلا، مرتبطا بالرواية الفلسفية. يرى كونديرا في الفكاهة غموضا جماليا وتدنيسا للمقدس. وتعتبر هذه مقاربة خاصة لوصف هذا النوع من الهزل الروائي الذي يجعل كل ما يلمسه غامضا. الغموض الجمالي الذي تحدث عنه كونديرا هو من خاصيات الخطاب الجمالي الرفيع، ولا يمكن من الناحية المنهجية تبني هذه المقاربة للحديث عن الفكاهة في لغة الحياة اليومية. يبقى كتاب كونديرا «الوصايا المغدورة» من أجمل الكتب النقدية التي قرأت لسلاسته التعبيرية، ولقوة ملاحظاته التركيبية، التي تنم عن وعي نقدي باللحظات القوية في تاريخ الرواية. – كيف ترى واقع الترجمة من الإنجليزية إلى اللغة العربية؟. هناك زخم نوعي في المشرق العربي، ويبقى المجهود المبذول في المغرب واعدا. هناك عدة مشاكل مرتبطة بالترجمة، منها ما يتعلق بالجودة والدقة، وذلك راجع إلى التوجه التجاري لبعض دور النشر، ومنها ما يتعلق بالجانب الأيديولوجي والثقافي، حيث هناك متدخلون يوجهون عمل المترجم ويفرضون عليه مقاييس معينة في التعامل مع النص الإنجليزي، كحذف مقاطع لا تتفق مع ما هو سائد ثقافيا وإيديولوجيا ودينيا. التقيت، مؤخرا، خلال ندوة دولية بمترجم أردني يعمل بجامعة الكويت وسألته عن حذفه مقاطع أساسية في رواية «الطريق» للكاتب الأمريكي كورماك مكارثي، فكان جوابه أن مدير دار النشر هو من أمره بذلك. بالإضافة إلى هذا النوع من التدخلات، نجد أن بعض المترجمين يختارون مقاربة واحدة لكل النصوص، وهذا يؤثر أحيانا على انتقال دلالة وأسلوب النص المترجم إلى اللغة العربية. قد تتعدد مقاربات الترجمة، من شكلية أو دينامية إلى دلالية وتواصلية، لكن ما يهم، حقيقة، هو أن يبقى النص المترجم حاضرا في غيريته الأصلية. - لكن، ما هي أهم القضايا التي تمثل في تصورك صعوبات تواجه هذا الواقع؟. الصعوبات كثيرة، ذكرت بعضها سابقا، ويمكن إجمالها في صعوبات خاصة بعملية الترجمة في حد ذاتها، حيث يلجأ المترجمون إلى ترجمة المضمون وكأن اللغة مجرد وعاء للمعلومات. تصبح هذه الترجمة تعسفا على النص الأصلي، خصوصا إذا كان النص الأصلي يتخذ شكلا إبداعيا غير مألوف بالنسبة إلى القارئ العربي. يتطلب هذا النوع من الترجمة إمكانات إبداعية وإلماما باللغة الإنجليزية وآدابها غير متوفرين لجميع المترجمين. أعطي مثالا برواية «الطريق» لكورماك مكارثي، التي ذكرتها سابقا، والتي قمت بدراستها في نصها الأصلي وكذا المترجم، حيث تبين لي من خلال المقارنة بأن أسلوب الكاتب التقليصي، الذي يشبه نوعا ما أسلوب بكيت، غائب تماما عن النص المترجم، وهذا يعتبر تنقيصا من القيمة الإبداعية للعمل الأصلي، وتحويرا غير مبرر لأسلوب الرواية. هناك قضايا أخرى إشكالية بالنسبة إلى الترجمة من اللغة الإنجليزية، أهمها هيمنة النخبة الفرنكفونية على الساحة الثقافية، الأمر الذي يؤثر سلبا على تطور المعرفة في المغرب ويجعلها مرتبطة بالتيارات النقدية والمعرفية الفرنسية المتعالية والنخبوية، في حين أن المعرفة البراغماتية الأنجلوساكسونية غائبة تماما عن الترجمات في المغرب. أعتقد أن الترجمة شأن هام، ويجب أن تتبناه الدولة في إطار مؤسسة مستقلة ممولة من المال العام، حتى لا يخضع المترجمون لإكراهات النشر والطبع والتمويل. - في مقالة نشرت لك، أشرت إلى استنفاد الشكلانية لقوة حضورها. ما أسباب ذلك؟. من بين المؤاخذات الأساسية عن المنهج الشكلاني عزل هذا الأخير للنص الأدبي عن سياقه التاريخي. هذا لا ينتقص من دور المنهج الشكلاني في تطور النقد الأدبي، بل تعتبر هذه المقاربة نقطة انطلاق أي نقد يحترم النص الأدبي في خصوصيته الأدبية التي تميزه عن باقي الخطابات، غير أن التركيز على أدبية الأدب دون وضع هذه الأدبية في سياقيها التاريخي والمعرفي يفصل الأدب عن دوره الاجتماعي وكذا السياسي، ويجعله مجرد ترف فكري. أظن أن مهمة النقد لا تختزل فقط في إبراز جماليات النص الأدبي، بل تتعدى ذلك إلى الكشف عن معنى تلك الجماليات وبعديها السياسي والمعرفي. هذا النقص في النقد الأدبي الشكلاني هو الذي أدى إلى ظهور تيارات نقدية عديدة تحاول إبراز البعد التاريخي المغيّب، بما في ذلك علاقة الأدب بالسلطة والثقافة والأيديولوجيا كالنقد النسوي وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية والتاريخانية الجديدة والمادية الثقافية، وغيرها. – لكن، ألا يمثل التوجه نحو التاريخانية، بصورة من الصور، عودة إلى منهج البنيوية التكوينية وبشكل أكثر تطويرا؟. علاقة التاريخانية الجديدة بالبنيوية التكوينية هي علاقة تجاوز، حيث إن التاريخانية الجديدة تنتمي إلى تيار مابعد البنيوية. ومن بين الاختلافات الظاهرة بينهما نجد أن التاريخانية الجديدة لا تقر بوجود رؤية واحدة للعالم في مجتمع معين، عكس ما تقوله البنيوية التكوينية. كما أنها لا تعتبر الثقافة شيئا متجانسا، ولا تعتبر الأدب تعبيرا متعاليا عن الفكر الإنساني، بل مجرد نص كباقي النصوص. هناك طبعا بعض التشابهات، منها أنهما معا يعتبران الكاتب مجرد صوت معبر عن رؤية العالم لجماعة معينة، حسب غولدمان، أو عن طاقات اجتماعية، حسب غرينبلات. غير أنه يجب الإشارة إلى أن التاريخانية الجديدة تأثرت كثيرا بفكر فوكو، خصوصا مقولاته حول الخطاب والتشكلات الخطابية وعلاقة السلطة بالمعرفة والهيمنة، لكنها وظفت فكره توظيفا (متشائما) يجعل السلطة المهيمنة قدرا على المجتمعات لا يمكن تقويضها عن طريق الأدب. غير أن النسخة الإنجليزية من التاريخانية الجديدة، والتي تسمى المادية الثقافية، هي أكثر راديكالية في مقاربتها لمفهوم السلطة، حيث تأثرت بألتوسير، وتبنت مقولته حول الأيديولوجيا كممارسات خطابية تدعم الوضع الاجتماعي وكذا السياسي لمستعملها. أعطى هذا التبني الفرصة لظهور مفهوم المقاومة للإيديولوجية المهيمنة، وأعطى للثقافة بعدا ديناميا. – هل يمكن اعتماد هذا المنهج بالذات في دراسة الرواية العربية؟. أعتقد أن المقاربة التاريخانية الجديدة إذا ما أدخلت عليها بعض التعديلات قد تكون مناسبة لمقاربة الرواية العربية لأن طبيعة القضايا التي تطرحها هذه الرواية، والمرتبطة في مجملها بعلاقات السلطة والتهميش والقمع والفقر والهوية وغيرها من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية تجعل هذه المقاربة ضرورة معرفية حتى يساهم النقد في إعادة الأدب إلى حضن المجتمع والتاريخ. إن المجتمع العربي يواجه تحديات حقيقية تتعلق بالهوية ومستوى العيش والحريات والتنمية، وهي قضايا أساسية لا يمكن أن ينشغل عنها الأدب ولا النقد الأدبي بقضايا شكلية وذاتية. لا أريد أن يبقى الأدب منعزلا في تجمعات ثقافية، هي أيضا منفصلة عن المجتمع وعن قضاياه الحقيقية. احترام أدبية الأدب والإبداع أمران أساسيان في أي مقاربة تاريخانية معدلة. يجب أن يكون الانطلاق من النص للكشف عن الآليات والجماليات، ثم ربطها بالثقافة وبالتاريخ لإبراز دور الكاتب المبدع في دعم أو مساءلة السلطة المهيمنة. ويعتبر المنهج التاريخاني الجديد، في نسختيه الأمريكية والإنجليزية، أرضية انطلاق فقط، حيث تستنبت بعض مقولاتهما في التربة العربية، وتدعم بمقولات أخرى من النظرية الاجتماعية لباختين كالكرنفالية التي تقدم نموذجا منفتحا للثقافة والحوارية والتعدد اللغوي. ليس عيبا أن نستفيد من تجارب الآخرين في مجال النقد، لكن يجب أن نعيد استنبات مقولاتهم في التربة العربية، والبحث من خلال ذلك عن مقولات أصيلة من خلال الموروث الثقافي العربي. – ما الذي يشغلك الآن تحديدا؟. أشتغل حاليا على مشروع كتاب نقدي حول الرواية العربية الساخرة، سأحاول من خلاله تتبع مسار السخرية في الحكي العربي، في النادرة والمقامة والسيرة الشعبية والرواية. غير أن التركيز سيكون على الرواية العربية، التي تتوفر على بنية ساخرة، ولذلك ارتباط بالمنهج الذي سأستعمله لمقاربة هذا الموضوع. أن تكون الرواية ساخرة فهذا يعني أنها تعبر عن موقف من الوضع القائم، ومن علاقات السلطة المتواجدة. دراسة آليات السرد والتمظهرات النصية وعالم الشخصيات والقيم المضمرة ستسمح ليس فقط بإبراز خصوصيات الرواية الساخرة، لكنها ستموقعها كخطاب داخل النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي. نباح القطط أو فُصامية اللغة أحمد لطف الله من بين الإشكالات العميقة والمستعصية في المجال السوسيو لغوي في المغرب مسألة اللغة التي يتكلمها المغاربة الآن، أو التي يناقشون مشروعية استعمالها مستقبلا. وهي قضية كثيرا ما نغض عنها الطرف، غير آبهين بغور جرحها في الوجدان المغربي، ولا منتبهين لما يترتب عنها من تبذير لخيرات البلاد دون رجوع نفع، وتبديد للطاقات الخلاقة دون إضافة لبنة واحدة في صرح الحضارة المغربية. فنحن المغاربة نتحدث لغات وألسنة، ونستطيع العيش شعوبا وقبائل داخل رقعة جغرافية تحمل علما واحدا، وتحت ظل ملك واحد. ونستطيع أن نمارس نوعا من الضغينة اللغوية فيما بيننا بشكل عادي جدا. هناك المفرنسون، وهناك المعربون، أو الذين يتكلمون الدارجة، وهي مزيج من العربية والفرنسية ولغات أخرى، وكلمات يعلم الله وحده مصدرها اللغوي، وهناك الأمازيغ الذين يمتلكون ثلاث لغات. وكثيرا ما نتحدث عن اختلاف الثقافات، وهو مسألة صحية ودليل على نوع من الرفاهية الحضارية، لكن هذا التعدد اللغوي الذي أثبت التاريخ أننا نستطيع التعايش معه، أصبح في السنوات الأخيرة مثار جدال يكشف عن عمق المشكلة ووعورة مسالكها، خاصة أن اللغة تقيم حبائل علاقاتها بجميع مجالات الحياة، من اقتصاد وسياسة وقانون ودين وثقافة وإعلام وحياة اجتماعية. رسميا اللغة العربية هي لغة البلاد والعباد، وواقعيا نجد أن اللغة العربية تكاد تصبح مقتصرة على الدين وحده، فوحدها الصلاة وما يرافقها من الذكر وقراءة القرآن والأحاديث النبوية، هي ما بقي خالصا لوجه اللغة العربية، وكأن اللغة العربية لم توجد قبل الوحي، ولم تنجز جمالياتها الرائعة عبر عهود الشعر والحكمة اللذين ميزا الإنسان العربي في المشرق، والذي استنبت وجوده في المغرب إلى جانب اللسان الأمازيغي الذي هو أصل اللغة المغربية. أما في مختلف المجالات الأخرى فنجد إما هذا الكوكتيل اللغوي الذي ندعوه الدارجة، وإما اللغة الفرنسية. ففي الإعلام، وعبر العديد من القنوات الإذاعية تستقبلك في الصباح بعض الأصوات الشابة، وهي ترطن بفرنسية أو لهجة عامية غريبة، ولا تتورع عن انتقاد اللغة العربية الفصيحة كلما سنحت الفرص الكثيرة للهجاء والشماتة بهذه اللغة التي ليس لها ذنب سوى أنها من خلق قوم لم يعرف خلفهم كيف يحافظ عليها، وكيف يعمل على تطويرها واستغلال إمكاناتها الهائلة في التواصل والتعبير والتأويل. قد نكون الشعب الوحيد في العالم الذي لا يربط بين اللغة والهوية، ومؤخرا أصبحنا نسمع أنه حتى هذه الأخيرة، أي الهوية، لم يعد الإنسان بحاجة إليها، وقد أكل الدهر وشرب على الحديث عنها، رغم أن الهوية واللسان وجهان لعملة واحدة. فحتى الحيوان، نجد هويته في لسانه: لا الخيل استبدلت بالصهيل العواء، ولا القطط استعاضت عن المواء بالنباح. لذلك كثيرا ما أفكر في هؤلاء المغاربة أصلا الفرنسيين لغة، وأتخيل السيناريو التالي: لماذا لا نعمم اللغة الفرنسية، ونجعل المغرب مقاطعة فرنسية؟ ونستريح بذلك من وجع الدماغ، وتكون العربية آنذاك في مرتبة ثالثة بعد الفرنسية والإنجليزية أو الإسبانية، لا يتعلمها إلا من يريد أن يكون ضالعا في شأن اللغات. بهذه الطريقة لن يجد الفرنكفونيون الحقيقيون أذى بآذانهم جراء سماع كلمات ذات جرس يخدش طبلات آذانهم الناعمة، التي ألفت المراهم الصوتية للحرف اللاتيني، والتي تدْعَك بلطف سطوح المسامع. كما سيتخلص المتفرنسون، أو ذيول الفرنكفونيين من وحل التعبير المزدوج، الذي يجعلهم في نهاية المطاف لا يعرفون العربية ولا الفرنسية، وهؤلاء أشد حقدا على اللغة العربية، فهم يعتقدون أن مناصري العربية يريدون أن يعود المجتمع إلى لغة العصر الجاهلي، التي لم تعد تستجيب للتواصل والتعبير بحكم ابتعادها عن مقتضيات الحداثة، التي أفرزها توالي العصور، ويتجاهلون أن هناك دائما، وفي جميع لغات العالم، تلك اللغة التراثية التي تظل موئل الدارس المتخصص الذي يروم تذوق البديع من الكلام، وهناك هذه اللغة الحديثة التي تأخذ من اللغة الأم ما يناسب العصر، وتطعمه جهود الباحثين في مكاتب التعريب وجهود المجتمع المدني من مثقفين وأدباء خاصة في نحت لغة عربية جميلة وراقية، ومعتنقة لروح الحداثة والحضارة، غير أنها تظل دفينة الكتب، لأن معظم الشباب، اليوم، لا يستسيغ أمرا اسمه القراءة، ولا يجد حرجا في التعبير بوقاحة عن كراهيته لقراءة شيء اسمه الأدب: شعرا وقصة ورواية ومسرحية ومقالا أدبيا وهلم جرا. وفي المقابل لا يزال الشباب الفرنسي محافظا على عاداته القرائية في القطارات وعربات «الميترو» و«الترام». من الأمور المذهلة التي وقعت لي شخصيا أني أتيحت لي فرصة تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها من الفرنكفونيين المغاربة والأجانب، خاصة منهم الفرنسيين، وكنت أجد من الفرنكفونيين استعدادا نفسيا هائلا لاستدراك ما فات، واعتبار عدم معرفتهم باللغة العربية خطأ حكمته ظروف معينة، ويجب تصحيحه. هؤلاء هم الفرنكفونيون الذين يرفعون مصلحة الوطن فوق مصالحهم، لأنهم تشبعوا بثقافة فرنسية سليمة من المنازع الكولونيالية، ثقافة تحترم المبادئ الأساس: الحرية، والإخاء والمساواة. كما أن العديد من الفرنسيين عبَّروا لي عن حبهم لهذه اللغة التي يقبلون عليها. ولا أنسى انبهار رئيس شركة معروفة في الدارالبيضاء، وكان فرنسيا ذا ثقافة عالية، بجمالية الخط العربي، إذ كلما كنت أخط الحرف أجده يقول: إنه الفن «Mais c'est de l'art». بعض الفرنسيين كان يقترحون علي معرفة العربية الدارجة والفصحى أيضا. وبما أن دراسة أي لغة لا تتم بصورة نظرية، بل تحتاج إلى الممارسة والتطبيق، فقد كان هؤلاء الأجانب كثيرا ما يقولون لي إن العائق الوحيد في دراستهم اللغة العربية هو أنهم لا يجدون ميدانا لتطبيقها، فتقريبا جميع الذين يشتغلون في الشركات والمقاولات المغربية يتحدثون الفرنسية، وحتى في الشارع أو في الأماكن العمومية تدفع سحناتهم الأوروبية الآخرين إلى اصطناع لغتهم والحديث بهم إليها. كانوا يقولون لي: «لا أحد يشجعنا على الحديث باللغة العربية سوى أنت». منذ ما يقرب من ستين سنة انتهى الاستعمار الفرنسي بالمغرب، وانتهت حيثياته التي كانت تقول إن من يتعلم الفرنسية يحصل على منصب سام أو وظيفة راقية، ومن يتعلم اللغة العربية يكون مدرسا في أحسن الأحوال، وجنديا في أسوئها، واليوم لم تعد الفرنسية سوى جزء بسيط مما يجب إتقانه لمجرد الرغبة والتفكير في الحصول على وظيفة أو منصب لهما مكانة عالية. ومع ذلك تستمر هذه الفُصامية، حيث تتصارع بداخلنا اللغات، ليس بالطريقة التي نشعر بها باعتزاز أمام لغتنا العربية، ونمارس اللغات الأخرى في التواصل مع الآخر الذي لا يعرفها، بل بطريقة تمزق لغوي لا يزال يفتك بتفكيرنا ونمط حياتنا. هناك الكثير من المغاربة الذين يتواصلون مع ذواتهم بالفرنسية ويحرمون على أبنائهم الحديث بغيرها، ويعيشون في واقع عربي مغربي ويتعاملون معه طيلة النهار.. أتساءل مع نفسي دائما: هل يحب هؤلاء وطنا اسمه المغرب؟ أم يوفرون حبهم لفرنسا فقط؟ كما يترددُ بذهني سؤال آخر: هل يحبون المغرب بالفرنسية؟ أم بالعربية؟ أم ب«تامغربيت»؟