طبقة كثيفة من الصمت تجلل الشاعر العراقي الكبير سركون بولص، في العام الثاني لرحيله المبكر. لم يكن رحيله كلمة شتيمة قذف بها في وجه الحياة، التي تبدو في كثير من الأحيان بلا مذاق أو طعم. بل كان، بكل بساطة، إيداعَ الكلمة إلى باريها، بعد أن استولد منها ذلك القدر الضروري من اللغة، القادرة على امتصاص نسوغ الحياة، واستنفاد طاقة الجمر الكامنة في أحشائها، قبل أن تتقلب عليها الليالي الباردة، وتحولها إلى مجرد كومة رماد. لم يمت سركون بولص، لأنه استعجل موتا مخلصا، مُشبعا بالقنوط والتبرم، بل مات فقط لأن أقدامه التي أوصلته إلى مشارف مدينته الأسطورية «مدينة أين»، لم تعد قادرة على مزيد من التجديف. لم يكن موت سركون بولص مجانيا. بل موتَ من أسدى واجبَه تجاه الحياة، على طريقة الشعراء الصعاليك. لم يكن يهمه أن يغنم من الأموال والنياشين والمواقع ما يجعله مِن علية القوم، المتصرفين في كلمة الشعر، في العالم، تصرفَ الأباطرة والأمراء. كما لم يكن يكتفي بأن يحدج أرضنا ومواقدنا وقبورنا من بعيد، على عجل واستعلاء. بل كان يهبط أرضنا، يشفط من هوائنا، ويأكل من قدورنا ما تطبخه الحياة، ليتزود بما يسمح لأقدامه بمواصلة سفر أو غزو بحثا عن الشعر ومن أجله. لم يكن بولص يُتَوج نفسه عند العودة، بل كان يحرر خيوط حذائه المغبر لاستراحة صغيرة، تعقبها أسفار جديدة، في أرض لم يكن يتبين منها، عند كل انطلاقة، غير معالمَ من ضباب. على قِصر حياته، قام سركون بولص بدورة شاسعة في الأرض وحولها، أخذته من بلده العراق، إلى سان فرانسيسكو بأمريكا، مرورا بلبنان واليونان وألمانيا، دون أن يفوته نثر شذرات من حياته في جغرافيات أخرى من الأرض، التي أحب أن يكون سائحَها الأكبر وعابرها الكبير. وعلى امتداد تضرابِه في الأرض، كان مأخوذا بمدينته الأسطورية، التي سماها في باكورته الشعرية ب«مدينة أين» (1985). مدينة اقترنت بسؤال المكان، لأن أداة الاستفهام فيها تحولتْ، هي نفسها، إلى اسم دال على المكان المجهول، المسوَّر بضباب النأي والإيغال، في جهة ما من العالم غير المرئي. ربما لذلك يتعين علينا ألا نأخذ فقط بالطبيعة المادية لهذا الفضاء، بل لا بد من إيلاء الأهمية القصوى لتضاريسه الأسطورية، التي تجعل منه فضاء للشعر والخيال والرموز والعلامات المجازية. مِن تجواله الكبير، عاد إلينا سركون بشعر يشبه قامته، وتقاسيم وجهه المنطوي على دهشة عميقة تجاه العالم والحياة. دهشة تستشرف مرة أخوة عميقة تجاه العناصر وضروب الحياة، فتهجم على بناء المعنى من غير المتوقع من الجهات، وتستشرفُ أخرى غربة متأصلة، فتنحدر من خوف يتوسل ربطَ وشائج، لا تخلو من تردد أو ارتياب، بين الكلمات والأشياء، مع استدعاء لمهاوٍ ميتافيزيقية، تجعل الشعرَ ضربا خاصا من السحر والرؤيا. إنها الطريق الخاصة لشاعر اكتنز تجاربه طويلا بالداخل، قبل أن يُفسِح لها إمكانية التشكل في لغتها وشكلها الخاصين، باعتبارهما عنصرين يتم بناؤهما في طريق التجربة، ولا يتم العثور عليهما على هامشها. كل الأمكنة التي زارها سركون بولص أغدق عليها من الشعر، بقدر ما غذت خياله بالغريب والراشح. ويذكر بعضُنا زيارته الأخيرة للمغرب في تسعينيات القرن الماضي، عندما انتشلته مدينة أزمور والجديدة مِن علاقات تُنهِك الجسد والروح، في الوقت الذي كان فيه شاعرنا ينصتُ لذبيب كهرباء الشعر الصاعد من القدمين المتحسستين لضيافة طين، يُعلن أخوةً أخرى، لها شغفها وجاذبيتها. أزمور والجديدة مدا جسد الشاعر بتلك الكهرباء، التي خلد أثرَها في قصائد مثل «عرّافة أزمور» و«لحظة الليلة المقمرة بالجديدة»، و«رؤيا في فندق النصر». قصائد تُشبه بولص متلفعا بالمكان المغربي، وبعمق الشاعر الذي لا يُضاهى. صمت كبير يُعلي راياته البيضاء، في الذكرى الثانية لوفاته. في قلب هذا الصمت لا نملك غير صدق كلماته: «تذهب الأغاني، تجيء المراثي. لا شيء منذ آدم غيرُ ملحمة التراب».